إستقياء الخلاص
هأنت على الجسر .. وحيدا.
ذات التماعات الماء على ذات النهر تجري من تحتك .. عابِرَتُك كبقايا شررٍ ذاوي لألعابٍ نارية بائسة إلى اتجاه الغرب من خلفك , متوسطٌ الجسر الحديدي القديم تماماً , فوق علبته الخامسة جاءت وقفتك المتهدلة . هواء الليل الصيفي متبلدٌ و كسولٌ يعجّ بحشراتٍ و طنين و أخيلة . الأفق الشرقي متكورٌ من أمامك كعدسةٍ سوداء محدّبة , بؤرتها سُرّة النهر المتمدد جسده كشقٍ نحتيٍ أزليٍ بطول المدينة النائمة .
عبّأتَ رئتيك من الهواء الزئبقي إلى أقاصي طاقات أضلعك , خطوةٌ بعد عبرت بك القضيب القديم للسكة الحديدية العتيقة .. المعدن القديم ملتمعٌ و باردٌ من تحت قدميك بدا , استويت قائماً بكامل جذعك المنهك فوق الحاجز الشبكيّ منعدم اللون و الملمس , عبرته إلى حافة الأسمنت الضيقة متهتكة السطح يسّاقط ترابها تحت حمل قدميك العاريات .. فتتسمع غوص الحصوات المفتتة تبتلعه الحِلكة تحتاً , و يتلقفها الماء في فقعاتٍ خفيضة .
بقيت زمناً و الجسر معلقاً من تحتك و خلفك .. و العتمة من أمامك بحر .
خلعت سروالك بأناةٍ .. فلامست الحافة الحديدية حراشف مؤخرتك العجفاء العارية , لم تقشعر من ملمسها الباهت الحاد .. فاقتعدتها بكامل ثقل عجيزتك . ألقيتَ بسروالك الداخلي و البنطال إلى ظلمة الهوة و عتمة النهر و لم تبالِ بالنظر .
إنقطع للسابلة عبورهم بين ضلعي مثلث المدينة التي فتقها النهر القديم منذ سيلانه من جنات العدن , أو من حيث جادت منابعه العليا بجريانه الممل أول أمر خلقه . لا نأمة يختل لها السكون المضطرب لليل إلا و يعلو فوقها فحيح رئتيك المثقلتين بالهواء الرصاصي الثقيل , و بداخلك تعلو طقطقة قفصك الصدري كطرقعة الأصابع الضجرة .
إهتزازاتٌ من تحتك راعشاتٍ هي حال الجسر مذ عبره الجند الأنجلوساكسون بثقيل أحذيتهم و تنوراتهم و قشالينهم , ثم غمسوا موسيقى القِرَب الأسكتلندية و شقرة بشرتهم المهقاء في حليب البلاد فتخمّرت من يومها طعوم الأشياء .. و عمّ الضجيج العظيم .
ساعةٌ في ليل المدينة هي أسكنها و أعلاها صمتا .
إنتصبت بطول قامتك - قامةٌ عضوض - .. تتماسك عظيماتك على جلدك الدبِق و قليل لحيماتٍ واهنة تلوذ إلى بعضها البعض و كان بها خشيةً من أن تتفكك أربطتها . يخف أسفل جذعك العاري و يلتحم بالهواء داخلٌ في متن الأنعدام الوزني . تحس بلذةٍ غامضة تستشريك ما بين ساقيك.. مانحٌ أعضاؤك بينهما إجابةً أولى للتساؤل الذي طالما لازمك عمّا جعلهم يطلقون عليها أعضاءً حساسة !! الآن فقط تعرف .
بقيت لوهلةٍ مختبراً شعوراً عذباً بمصافحة جسدك الأدنى للهواء الطليق للمرة الأولى منذ دهر . طوحت بآخر قضبان بين سجن جسدك المحموم بنزفه الداخلي و بين باحة الليل .
راقبت قميصك الزنزانة ينزلق في الهواء المظلم كراية تهوي منهزمة , و تغيب تحت عظام الجسر الحديدية .
..
هأنت على الجسر .. عاريا .
الليل أمامك و مِن خلفك . معلقٌ لبثتَ كخفاشٍ , متجمهرٌ حولك هواء و صمتٌ و .. جسرٌ قديم .
قلصت ركبتيك فأنّ عظمها . تقوس منك الجذع قليلاً إلى الأمام ركوعاً . النهر معتمٌ و ساكنٌ يحدق إليك . استجمعت من الهواء ما وسعته رئتاك , و استزدته استنشاقا حتى تسرب إلى حويصلات مسامك و انتظمها منسرباً إلى شعيرات روحك و انبجس في ذرات تكاوينك و جينك , واندغم في كُلّكَ .. فصرت إلى حال البالون المتوتر .
كنتَ تدفع بحجابك الحاجز في اللحظة التالية , تدفع معه برئتيك و إمعاءك و هيكلك العظمي و عُضيلاتك و روحك , تدفع في أنينٍ عظيم و زمجرةٍ حارقة هي أقرب إلى العويل .
دفعت بكُلّك إلى حلقك المتسع إلى أقصاه , و فكيك فاغرين بامتداد مساحة وجهك المتكور كقبضة .
لفظت بكل حمولة داخلك إلى حيث خارجه .
و تقيأت .. تقيأت ..
كشلال أنهكه طول الأحتقان .. تقيأتَ .
في انحناءك لعاصفة الخلاص الكبير , بصِرت عيناك - على وسع حدقتيها - بصِرتْ بجوفك يندلق مقذوفاً إلى خارجك .
في نصف وعيك و نصف إعياءك .. رقبت تقيؤك لمعلمك العجوز في صفك الثاني يسقط إلى ظلمة الهوة .. معه تسقط فرقعة صفعته لك . يسقط " محجوبٌ " و هو يمزق نعلك القماشي في سطوة طفولته على طفولتك . يسقط قيئاً هزيم الرعد المفرقع طوال ليلٍ خريفٍ قديمٍ أورَثَك رهبته إلى يومك هذا . رأيت قيؤك يندلق بحزنك لسيارة الأجرة تبتعد مبتلعةً لجسد " عواطف " الهاجد في صمته الأبدي . من جوف قيؤك يسقط أرق الليل و صوت المذياع : لم ينجح أحد , ليقعى صاحبك " صالح " مغشياً عليه . تتقيأ عميقاً تحرجك الأبله من القبلة الأولى و بقايا ضحك الفتاة الساخر بين ساعديك . يسقط قيئاً جسد العصفورة القطني الذي مزعته أناملك و " عوض " يتضاحكك .. و يسقط عوض إثرها و ذنوبك الأزل . تتقيأ نشيدٌ قديمٌ للمغني الكاذب و الشاعر الصفيق واللحنٍ المشروخٍ . يسقط معلميك المُنهِكيك بالصفع و الركل و التقريع . جاركم الممل في نحنحته الصباحية يندفع من جوفك قيئا . تسقط الأغنيات العنينة و المغنين المُسئمين و أصوات المذيعين الأعالج و موسيقى نشرات الأخبار و البيانات العسكرية الأولى و مارشاتها و البزات الخضراء . تسقط قيئاً نيئاً تلك السيدة في الحافلة و رائحة إبطيها المقززين تزكمانك من وسط البلدة إلى آخر العمر . يسقط خالك " إبراهيم " و مشاويره الطويلات . تدلق من أحشاءك طابور الصباح العسكري الشتوي . تسقط اللوائح و القوانين و مديروك الأغبياء و مديروك أنصاف المعاتيه و حارس البناية بصوته المسلوخ و رائحة العرق المتخمر و العتمة في الأزقة الآهلة بالكلاب و آسن المياه . تتقيأ حذرك الساذج لابتسامة أضعتها من الفتاة المواجهتك في مكتب السياحة .. و تلك التي طُمِثتْ وردتها بفتاوى العشق . يسقط قيئاً إختناقك بكاءً لكذبك على جدك و صدقه هو .. و كذب الحكومات عليك . تتقيأ تتقيأ أناسٌ أهلكوا قلبك بالضغينة و الموجدة .. و آخرين سألت الله كثيراً لو انه ما خلقهم . تساقط قيئاً ململتك من الندوات السخيفة و الإجتماعات المختنقة بالأقنعة و الجمل المعلوكة و الاوجه المسطحات . تتقيأ بلزاك و جان دارك و أمادو و درويش و تشيخوف و إليوت و الهارب و تهاويم الديالكتيك و ابن المقفع و البلوز و كلارك جيبل و لوركا و دستوفيسكي و شتراوس و غودو و المتنبي و ابن عربي و المجدلية و المقدونية و بنت المستكفي و الجارة الفائرة الانوثة و موظف الجمارك و الحرس الجامعي و الشجرة التي لم تستر مغامرات ليلاتك العقيمة و رجل الشرطة ممصوص الوجه منتفخ الجيوب . كأسة الخمر الأولى و نحيب جدتك من وطء الكبر و تعاظم الشيخوخة و قلة حيلتها . تتقيأ ضعفك أمام صاحب الدكانة و تجنبك للموظفة الدميمة التي تلح في الغنج السفيه , قيئاً تندلق منك عناوين الصحف و الباعة الجائليها و وكالات الأنباء و صور الحكام و المحكومين . تسقط منك الرغبات السرية و الأحلام المنطادية و مدير المدرسة اللص و استذكار الرياضيات الحديثة و نطق موظف المصرف للفظة الأجنبية العرجاء . تدلق قيئك أزيز معدات طبيب الأسنان و رائحة غرف المستشفيات و الأسرة الناضحة باليود . تتقيأ كثيراً أفغانستان و عقدة فلسطين و العراق و القرارات الدولية الجرباء و دارفور و الوول ستريت و بورصات المارك و الين و مجالس الأوبك و خط الإستواء و منظمات الإنسان و العولمة القسرية و بوش الغبي و قواته الجرذان و موسيقى الراب و هوليوود و القولدن ماير و الميتروبوليتان و سوقية مسارح السوهو و عبث السوق و مشاريع الدولة و صافرات الإسعاف و رائحة روث الحمام في نافذة السجن والقوات الهجين و مذيع القناة و المعلق السمج في دوري الكرة و القيمة المضافة و النشيد الوطني و كبيرة الصدر تلك التي تتعس صباحاتك بابتسامتها المغتصبة . تدلق قيئاً انتصاب أذنيك لصرير احتكاك الزجاج بالأسطح الخشنة و أصوات طرقعة العلكة بين شدقي تلك الملتصقة بك في القاعة الفارغة ..
تتقيأ .. تتقيأ .. تتقيأ ..
تخرج ركام وساوسك و هرطقات ظنونك قيئاً لزجاً . تتقيأ وقر القلب و الأسرار و الأحلام المُستحثات بلا جدوى , كتلاً غرائية دامية تتقيأها . تستفرغ جوفك من حسراتك على الغائبين و للقاعدين و للبلاءات و للبلاد الأجنبية يجوسها القلب من فرط الوحشة .. تتقيأ أعالي سقف قهرك و غبنك و لوعاتك و الخيبات و الوحدة الدائرية و وهنك و تكّات الساعة الزمنية و عطن شمس الصباحات و سوء الليل الغريب و .. تسولك للخلاص .
..
هأنت على الجسر .. عاريا و خفيفا .
جوفك و إياك أجوفين .. مُفرَغَين منك و من حَمْلِك ..
تقيأتَ تاريخ جسدك و ذاكرتك و جوانحك و عقلك و مداركك ..
تقيأت كل شئٍ حتى لآخر خطوٍ أوصلك منتصباً فوق الحافة الحديدية الساكنة .. عارياً كأنما نُشِرتَ لتوّك .
ثمة ريح خفيفة الآن , ثمة أفقٍ و مرئيات .. ثمة أنت .
مددت ساقيك منفرجتين إلى حدها القاصي و رأسك ملقىً للخلف بجفنين مواربين .. ذراعيك على امتدادها جانحتين إلى جانبي جسدك المطمئن في نقاء عريه و طـزاجته و جدّته .
الهواء اشتعل حراكاً و ابتردت نسيماته على حين فجاةٍ .. و التمعت للنهر صفحته . المويجات الصبية من تحتك ارتطتم بالعلبة الخرسانية .. و اهتز الجسر ..
و أنت .. آذنتها صرخة من تجويف نقاءك الوليد :
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآي ي ي ي ي ي ي ي ي ي .....
التعديل الأخير تم بواسطة عماد عبدالله ; 07-11-2008 الساعة 07:41 PM.
|