نعي أليم - فيصل سعد في ذمة الله !!! عكــود

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > مكتبات > جمال محمد إبراهيم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 01-06-2006, 09:06 AM   #[1]
جمال محمدإبراهيم
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية جمال محمدإبراهيم
 
افتراضي حان أوان الذهاب . .(قصة قصيرة )

[align=justify]
[align=center]حان أوان الذهاب . [/align].
( 1 )
" براون " . . ماذا تريد ، بعد ، من هذه الدنيا . . ؟
كان يسأل نفسه هذا السؤال كل صباح تشرق فيه الشمس خلبا في ضاحية "صري" ، إلى الغرب من لندن ، فلا يكاد يستجلي الإجابة الشافية ، التي تطفيء نار التطلع و الإكتشاف . اليوم بداية عطلة الأسبوع . يعرف أن إبنه " كريس " - كعادته - سيمضى ليلته بعيدا عن بيت الأسرة الصغيرة في " صري " . يحسب الجدّ العجوز " براون " نفسه ، جزءاً من هذه الأسرة الصغيرة ، و ليس مخلوقا زائداً ، بعد أن تجاوز عمره الثمانين عاما ، و أصبح يوما بعد يوم ، يراوح في وحشته ، وحيدا مثل شجرة برية ، لا تكاد تكيّف إنتماءها للمزرعة المحيطة بالمنزل المترامي الأطراف ، مثل غيره من بيوت الريف الإنجليزي . "براون" عجوز مثير للعجب . يماثل إعتماده على نفسه بطريقة عشوائية ، إعتماد الشجرة البريّة على ما تجود به السماء من مطر الرحمة ، و ما ترسله التربة الضنينة من غذاء ، يسري في العروق الشائخة ، فلا يسمن أو يغني أو يحيّ الأوراق المصفرة . كلا لم يكن " كريس " – مع حرصه على الإهتمام بزوجته " إليزا " و إبنه " جيم " – يبدي أقل التفات إلى أبيه " براون " . بعد سنواته الطويلة هذي ، ليس ل " براون " إلا أن يستسلم لإهمال ٍ راتب ، و إغفال ٍ مؤسس ، و تجاهل ٍ يليق فقط بالأشجار البرية أو النباتات الفطرية ، التي تتخلق بلا مبررات ، بلا حيثيات . لا معنى لوجودها ، و لا مغزى في استمرار بقائها على هذا النحو المستفز ّ، الذي يجافي النظم و النواميس ، و يقترب من خلود غيبي ، لا يؤمن به أناس من شاكلة إبنه " كريس " و زوجة إبنه الغريبة " إليزا " .
- هيا يا "جيم" . . أعرني أذنيك ! دعني أكمل لك قصة ذلك المصري المجنون الذي كان مفتشا للقطارات بين بورتسودان و أركويت . . هل سمعت بهاتين المدينتين من قبل . . ؟ هما في شرق السودان . .
لم يبق ل"براون" غير حفيده "جيم" ، يلقي على أسماعه بحكاياته الشائقة عن مغامراته الطريفة ، في المناطق النائية في أفريقيا . يسمع "جيم" أسماء أماكن و بلدان ، لا يجد لها معنىً في قاموسه الجغرافي البسيط . لا تماثل حكايات جده إلا تلك القصص التي حكاها لهم مدرس الجغرافيا في المدرسة عن " ليفينجستون" : رجل مغرم باكتشاف الأصقاع البعيدة ، حيث يعيش أناس مختلفون ، يأكلون طعاما غير مستساغ .. يسكنون بيوتا بنوها في الغاب ، مع الكواسر ، أو هم في خيام يضربونها في الصحراء ، مأهولة بالثعابين و الثعالب و الذئاب غير البشرية .
دائما ما يختفي "كريس" و "إليزا" ، إلى مخابيء مريبة ، في عطلة نهاية الأسبوع ، تجمعهما مع أناس آخرين يشبهونهما في كل شيء : في الهندام .. في احتساء النبيذ بلا حدود . . ثم في التبرم من الأشجار البرية ، التي تشمخ في اعتداد ، في المزارع الخضراء ، و قد انقضت أعمارها الإفتراضية ، و تثاءبت العصافير فوق أغصانها العجفاء ، إذ لم تعد هنالك من ثمار تؤكل ، أو من رحيق يثير السقسقة و يستدعي الغناء . لكنهم يتبرمون منها . .
- هيا . . أعرني أذنيك يا "جيم". . !
و يفتح الساحر صندوقه ، فتطير الحكايات عن الأمكنة النائية تباعا . ثمة سحرة يدلفون إلى القصص فتتلون بمناديلهم . ثمة وحوش و كواسر . ثمة أنياب تنهش و أظلاف تركل . ثمة نساء طيبات و رجال فاسدون . ثمة مصريون في محطات بعيدة ، عند "هيا" ، في تلال البحر الأحمر . ثمة مهاجرون قادمون من أصقاع السافانا ، فيما وراء غرب السودان . ثمة سودانيون سمر يتحدثون العربية و آخرون يتحدثون الإنجليزية ، بمثلما تجري على ألسنة الإسكتلنديين . ثمة آخرون ، قادمون من أمكنة لا يعرف لها أسماء ، يلغزون بألسنة ، لا عربية و لا إنجليزية ، رطانة محضة .


(2 )
قال "مختار" محدثا نفسه : ماذا تريد مني هذه الدنيا ؟ لقد خبرتها و خبرتني . أتلفتها و أتلفتني . بعتها الهواء ، فباعتني الخواء . جبت الفيافي و القفار ، وظفرت بصحبة بريطانيين ، أفدت منهم خبرة في تسيير السكة الحديد ، و قد كانت عصية علينا ، أول أيامنا . ثم في آخر المطاف، ما لي من مكان غير الخرطوم . أواه من "خرطوم " هذا الزمان . ليست هي الآن المدينة التي عشقنا في سنواتنا الغابرة : يا "حليل " الإنجليز. . !
يهمهم إلى نفسه ، و يحرص أن لا تفلت همهمته إلى أذن خائنة . كان في سنوات صباه عاشقا للخرطوم ، يستنشق في شارع فيكتوريا ، هوائه المنعش . . يتمخطر بالشورت الخاكي و القميص الأبيض الحليبي ، فيحسده ، على تقليده ملبس الأفندية و الإنجليز ، الباعة أولاد البلد في الحوانيت المطلة على " ميدان عباس " . لم يكن هنالك من تزاحم في الطرقات . كان السوق ، بضعة حوانيت تباع فيها الفاكهة و الخضر و الملبوسات . . والمسجد الجامع يتوسط الميدان ، شيده " ملك مصر و السودان " . . ثم هناك " مقهى الزيبق" . بعيداً منه ، بضعة مساكن بالآجر ، بناها إنجليز و شوّام و تجار من "أولاد الريف" . . تمتد على طرقات ، شقت على نسق علم الإمبراطورية . ثم السكة حديد ، مهيبة في إطلالتها البعيدة على "سراي" الحاكم العام .
لا يكاد يوسف أن يصبر للإستماع إلى حكايات والده "مختار" . لا يطيق أن يرى التاريخ يجالسه صباح مساء ، إذ هو لم يكن في الأصل من عشاق التاريخ أو الجغرافيا ، و لم يكن يحذق إلا الرياضيات ، فأكمل تعليمه الثانوي ، ليصير محاسبا صيرفيا مجيداً . أما التاريخ فلا . الجغرافيا ؟ تلك علوم و أمور يرى في الإنسياق وراءها مضيعة للوقت ، و إهدارا للمواهب ، فيما لا يفيد . ما كان يطيق قصص والده عن "أيام الإنجليز" . لا يخفي تبرما من الحكايات ، لكنه يدفع بأبنه "سامي" و يشجعه تشجيعا وثيقا ، للجلوس و الإستماع إلى جده "مختار" ، فلا يقدر الصبي على المقاومة ، فيصابر مستمعا ، يؤنس وحشة جده في "الخرطوم تلاتة ".
- أجلس إلى "السردار" يحكي لك حكايات لن تملّ سماعها ، يا فتى . إن لم يكمل لك حكاية المصري الساحر ، في المحطة بين "هيا" و "سنكات " ، فلن تظفر بإجازتي لك للإستمتاع باللعب مع أقرانك في الحي ، و إني أعرف غرامك بذلك !
" مختار السردار" ، ذلك كان اللقب المحبب الذي ينادي به يوسف أباه ، و قد سمع به من أقران أبيه في إدارة السكة الحديدية ، قديما قبل إستقلال البلاد عن بريطانيا . لا يصرّ يوسف على إجبار "سامي" على الجلوس و الإستماع لحكايات العجوز ، إلا لأنه لا يرغب في السماح لإبنه بالخروج مبكراً للعب مع الأولاد في الحي . .
- هيا يا "سامي" ، أحضر لي كرسي القماش . رتب لي جلستي ، و قل لل"حاجة " أن تعد قهوة تركية لجدك ، ثم أعرني بعدها أذنيك أيها الفتى . عندي لك قصة جديدة ، بطلها هذه المرة "مستر براون" . .الداهية "براون". . !
و لم يكن سامي مهتما بنيل الجائزة التي مناه بها جده .
"السردار" قابع في الدار ، مثل شجرة سنط راسخة الجذور ، ضاربة في عمق الأرض ، سامقة ممتدة الأفرع ، ترى الغرف صغيرة متحلقة حولها . "يوسف" و "صالحة "و الصبيان ، هم قطط و هررة ، تمؤ تحت ظل شجرة السنط . للشجرة وجود محسوس . يحترمها أهل البيت ، فوق حبهم لها . ليس في غابة الخرطوم شجرة في مثل عمرها ، تترك مهملة . . شجرة سنط كانت أم شجرة نيم ، سروة كانت أم نخلة . حتى العشوائي من الكائنات ، يجد له مكاناً في الإنتظام و في الإهتمام . حتى الضحكة ، تجد الفم الذي ترتسم عليه ، حتى الدمعة تجد الخدّ الذي تتحدر عليه حزناً ، حتى النبض العجوز ، يجد القلب الذي يطرب في أنحائه .
جلس "سامي" القرفصاء و قال :
- هيا يا جدّي . . أحكِ لي . . !
و استدار "السردار" إلى جرابه يفحصه . أدخل كلتا يديه منقبا . يعرف أنها لن تخرج خالية . هنالك دائما القصص الذهبية . الحكايات الفضية . النوادر البرونزية . الأبطال الذين دائما ينتصرون . السحرة. . و دائما يلتقون حكاياتهم . خط السكة الحديدية ، دائما تسير عليه القاطرات ، بلا كلل . في كل رحلة حكاية بلون الذهب . حكاية بلون الفضة . حكاية بلون البرونز . السحرة عادة يتجولون في الخلاء بين محطة و محطة . فيهم عمال " الدريسة ". ثمة مفتشون يسكنون الفيافي ، تؤنس وحدتهم قطط و أرانب أحيانا ، و أحيانا أخرى يجالسون المفترس من مخلوقات الله . يتبادلون النكات و حراسة بعضهم بعضا . ثمة محطات تجتازها القطارات ، و لا أحد فيها . ثمة مفتشون إنجليز . . لا يأبهون للمخاطر . ثمة رجال دهاة ، فيهم واحد إسمه مستر "براون" . ذلك رجل ليس مثل الآخرين ، فيما يحكي "السردار " لحفيده "سامي" . .
[/align]


ونواصل .....



جمال محمدإبراهيم غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 01-06-2006, 09:09 AM   #[2]
جمال محمدإبراهيم
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية جمال محمدإبراهيم
 
افتراضي

[align=justify]( 3 )
أشهر الصيف في ضواحي لندن ، شديدة الوقع على ذاكرة العجوز "براون" . يهرع "كريس" إلى المركز التجاري الكبير في " صري " ، ليبتاع مروحة أو مروحتين ، كلما دنت الأيام المزعجة على مقياس الحرارة . يبتسم العجوز و يهمهم إلى حفيده "جيم " ، عن أيام شبابه في خدمة الإدارة البريطانية في السودان . كان في قسم الهندسة في إدارة السكة الحديدبة :
- أيامها أيها الفتى ، ما كان يرهبنا إلا إلتهاب السحايا . لكننا احتملنا ذلك الطقس المزعج . من لا يتبع النصائح الصحية ، يلقى حتفه لا محالة . . !
يجزع الصبي "جيم" . ما سمع عن وباء السحايا إلا من جده الآن .
- كان معنا في الإدارة الهندسية بعض "أولاد الريف" من المصريين . خوفهم من ضربة الشمس ، يماثل خوفهم من الوحوش الكاسرة . كنا أفضل منهم في تحملنا للحرارة ، و لمخاطر السحايا . كنت أنا في معية عمال" الدريسة " ، في الصيف الحار ، مثل البطل الهمام . . ينظر إلي المصريون و السودانيون في الإدارة ، نظرات إعجاب و اندهاش . ما كان يجاريني في التحمّل ، إلا " السردار " السوداني . كان رئيسا لعمال "الدريسة" ، و خبيرا بأحوال السكة الحديدية ، جميعها . كان فذا . . !
يجهد العجوز في شرح مفردات حديثه للصبي "جيم" ، و قد بدأ الملل يتسلل إليه ، و كاد صبره أن ينفد مع العجوز . رفع الصبي كفا إلى فمه المفتوح ليخفي تثاؤبا طارئا غلبه . لم يكن يريد لجده "براون" أن يلحظ حالته ، و قد أخذته التفاصيل توغلا في حكاياته ، فهوم بعيدا . . أما "كريس" ، فلم تكن تستهويه عادة أبيه في سرد قصصه ، خاصة تلك التي تدور حول سنواته البعيدة في أفريقيا . . وقد أضمر أمرا . و لكن كيف يسلك مع إبنه "جيم" ؟ هل سيقتنع بالفكرة التي طافت بذهنه أم سيقاوم ؟ هل سيفتقد حكايات جده . . ؟ هل . . ؟


( 4 )
كانت قصص الجد العجوز ممتعة في بداياتها . كل شيء يبدو جميلا ممتعا في بداياته . الشمس أجمل في بزوغها عند الفجر ، أما عند الظهيرة فهي تتقيح نارا و جحيما . تغدو غير محتملة ، مملة . كل شيء يبدو جميلا ممتعا في بداياته . الورد في تفتحه قبل أن يذبل . العمر في عنفوان الشبيبة ، قبل اختلاج العيون بضباب الكهولة و سواد الزهايمر . لقصص العجوز في بداياتها ، جاذبية و سحر . لكنها الآن صارت مدعاة لإعتلال الصبر و نفاد التحمل . يراها الصبي "جيم" مضيعة لوقت ، كان يحتاجه لنشاط ما بعد الدراسة ، في مدرسة " صري " التجهيزية المجاورة لمنزل الأسرة ، أو لزيارة المكتبة العامة في الحي ، للإطلاع ، أو لإحتساء قهوة ، أو مشروب بارد . أما قصص العجوز "براون" ، فهي على طرافتها لم تعد تستهوي "جيم" ، على كل حال . صار الجد يعيد القصص ، ذات القصص كل يوم . ليس فيها غير المصري الساحر ، ثم " مختار السردار " و فريق الإدارة الهندسية ، العامل في إصلاح القطارات ، و مغامرات خلوية و اصطياد فهود و نمور و ثعابين ، تتجمع حين تتوقف عربات القطار بسبب أعطال طارئة . . يغرق العجوز في تفاصيل السرد ، كل مرة يعيد فيها حكاياته ، يصارع الأيام و النهارات التي تنهش ذاكرته نهشا منظما . . لكنه يتشبث ب "جيم" . يعلق حكاياته على أذني "جيم" .
- هيا أعرني أذنيك . . !
لكأنه الغريق يمسك بخيط ٍ واهن ، قد يعيده في ظنه المتفائل ، إلى برّ الأمان . لكن سنواته التي تجاوزت الثمانين ، أثقل من أن تجرّها الخيوط الواهنة المعلقة بأذني صبي ، يستعيرها منه صباح مساء . و يعرف العجوز " براون" أنه يدير معركة لا انتصار فيها ، لا قبلها و لا بعدها . يعرف أنه الخاسر الأول و الأخير . لن تشفع له إنجازاته في مجاهل أفريقيا ، أو نجاحاته في تلال البحر الأحمر ، حين كان في خدمة السكة الحديدية في السودان ، و قد امتدت شرايينها شرقا و غربا ، و كان ل "براون" سهم في ذلك . .
في صباه ، كان "كريس" مغرماً بقصص العجوز "براون " ، مفتوناً بمغامراته السودانية . لكنه ، كلما مرّ عام تلو عام ، بدأ هذا التعلق و الإفتتان في التهافت و الأفول . لم يعد يعر العجوز – و قد صار عجوزا هرما بالفعل – أي أذن ، حتى يشرع في غزوها بحكاياته الغريبة : " حكايات كانتربري السودانية " ، كان دائما ما يسميها ، متهكماً التهكم الذي يقارب الأذى ، من العجوز " براون " . مضى أبعد من ذلك ، و رشح للعجوز إبنه "جيم " ، ليحشو أذنيه بهذه الحكايات.
- إنها مفيدة ل " جيم " و تساعده في تعلم الجغرافيا . إنه الآن أكبر من أن تستهويه حكايات الجن و السحرة . هيا أسرد عليه مغامراتك في السودان يا أبي ، ففيها جرعة تربوية . . !
كان"كريس " محقا في زعمه هذا ، لكنه في حقيقة الأمر كان يبحث لنفسه عن مهرب لإنقاذ أذنيه من حكايات عجوز ، يقف على بوابة الخروج إلى عالم آخر . . و لكن ما كان ممكنا إستمرار الحال على هذا المنوال . . بلا نهايات . لا بد لأي حكاية من نهاية . المآسي تنتهي بدمعة ، و الملاهي بابتسامة . هذه المرة ، راودت "كريس" ، فكرة بيت العجزة و المسنين ، المجاور في منطقة "بكنجهام شير " ، يأوي إليه العجوز الذي تأهب لمغادرة سنواته الثمانين إلى تسعيناته . أن تنتهي حكاية العجوز " براون " في بيت للعجزة و المسنين ، فتلك مأساة و ملهاة في ذات الحين ، محيرة و مربكة . ثمة أناس في " صري " سيبتسمون ، إن سمعوا بذلك . كان رؤوفا بأبيه ، قد يقولون . آخرون قد يذرفون دمعة أو دمعتين . عديد منهم لن يعير هذه النهاية كبير اهتمام .
حين رابطت حافلة بيت العجزة و المسنين أمام الدار، حملق "جيم" في قلق ٍ و ارتباك . لم يعرف هل يساعد جده العجوز ، يسند خطوته الواهنة حتى باب الحافلة ، أم يتمرد على والده "كريس " ، و يترك دمعة مهملة تنحدر على خده دون أن يجرؤ على إخفاءها منه ، ثم يقول للعجوز الراحل : وداعا . . ربما أزورك عطلة نهاية الأسبوع القادم في دارك الجديدة . . ؟
كيف يغادر العجوز و يأخذ حكاياته معه إلى غير رجعة ؟ سيأخذ معه أيضاً ، الساحر المصري ، ذلك القابع في محطة بين " سنكات" و "هيا " ، على التلال المطلة على البحر الأحمر . . و سيختفي " السردار " في ثياب العجوز الراحل ، و لن يلهج لسان العجوز بعبارات الإعجاب بذلك السوداني ، رئيس جماعة "الدريسة" ، ممن يعملون في صيانة طرق القطارات :"السردار" ، قاهر الصحارى المليئة بمخلوقات الله المتوحشة . سيأخذ العجوز "براون" معه ، إلى منفاه الذي اختاره له "كريس" ، قصته التي لم يكمل سردها على "جيم" ، عن الصبية التي عرفها في " كسلا " ، و كاد أن يتزوجها ، لولا كيد ابن جلدته ، المأمور في مديريرية " كسلا" ، مستر"ويلكوكس" مع ناظر الحلانقة . لم يستطع "جيم " الصغير ، أن يقهر الحزن الذي أطل من عينيه ، حين ثبت العجوز "براون" قبعته ، ثم حرك كفاً واهنة الأصابع ، بإشارات الوداع . حان أوان الذهاب . إختفت الحافلة بالمسنين إلى " بكنجهام شير " ، و ابتلع الفراغ الذي خلفته ، حكايات "براون " السودانية بكامل تفاصيلها . صاح "جيم" ، وكأنه في غيبوبة أو حلم ، لا يمت للواقع بصلة :
- وداعاً ، أيها الساحر المصري . . وداعاً ، " مختار السردار " . . !


( 5 )
في أمسية لم تبعد عنها الشمس الغاربة غير لحظات ، تمتم " مختار " ببضع كلمات أفضى بها إلى أذن حفيده و ابتسم ، قبل أن تختلج عيناه ، قبل أن يطلق ساقيه يمددهما ، و هو على كرسي القماش مسترخٍِ ، و قد حامت حوله سحابة من الفرح البراق ، الفرح المباغت ، الذي يأتي أوان الحزن العميق ، فتشتد أوتار النفس ، ثم تنفلق السماء إلى ألوانها الحمراء و الزرقاء و القرمزية . .
- أعرني أذنيك يا " سامي " . . !
يمدّ الغريق يداً واهنة ، و الموج متلاطم لا يرحم . حبل من الحكايات تعبث به الريح . يبعد رويدا رويدا عن اليد الواهنة . الأصابع لم تعد تقوى على الإمساك بتفاصيل السرد . . تقطعت أوصال الحكايات و القصص ، إربا إربا . أجفلت من الذاكرة ، و الموج متلاطم عنيد . ثلة من الإنجليز يهربون في خلاء بعيد ، و أناس يسعون للحاق بقطار ، يطوي المسافات إلى الوراء . . دخانه - و يا للعجب - إلى الأمام . ثمة رجل أبيض يطير محلقا ، عبر نوافذ عربات القطار ، يندلق من أسقف العربات ، مثل إندلاق ماء المطر على جنبات القطار :
- لا تهلك يا مستر " براون " ، لا تهلك . . !
تهرب من ذاكرة "السردار " التفاصيل التي تمنح القصص ألوانها . تبتعد عن الأصابع الواهنة . يسقط "السردار" في التجويف الواقع بين العربة الأولى و العربة الأخيرة ، و لا يكاد " سامي " أن يتبينه ، فالليل قد أرخى سدوله ، و الشمس هربت عجلى ، إلى مغيبها البعيد ، بعد أن استولت على التفاصيل و صادرتها . ذابت الحكايات جميعها في الشعاع المغادر . حان أوان الذهاب بوفاض خال من القصص ، خال من التفاصيل . حان أوان الذهاب إلى ..................
بقيت دمعة معلقة في خد " سامي " . حان أوان الذهاب ، و لا بد من كلمة وداع تليق . في الفراغ الذي امتد بين كرسي القماش و شجرة السنط ، لم يكن هنالك من يوثق بعينيه ، أوان الذهاب ، يشاهد جرح الرحيل . لم يكن هنالك ، لا يوسف و لا " صالحة " . لم يكن هنالك، لا "كريس " و لا " إليزا " . "الخرطوم تلاتة " خالية تماما من سكانها . لم تكن " صري " أحسن حالا ، و لا " بكنجهام شير " . فقط كان هنالك رجل أبيض ، كأنه من دخان الذكريات خارج . ثم غاب . صاح "سامي" بأعلى صوت :
- وداعاً مستر " براون " . . وداعاً مستر " براون " . . !


انتهت



الخرطوم –2004
[/align]



جمال محمدإبراهيم غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 01-06-2006, 03:41 PM   #[3]
د.سيد عبدالقادر قنات
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

صديقي جمال

ألي وقت قريب جدا كان الصغار يتحلقون حول

الحبوبة لتحكي لهم قصص ود النمير

وفاطمة السمحة

وعلي بابا والأربعين حرامي

وحكاوي ود أمبعلو والبعاتي

وغيرها كثر جدا

نعم كانت هي متعة للجميع

الكبار يجدون فيها انفسهم بتحلق الصغار والأصغاء لهم

والصغار مشدوهين لما يسمعون من أحاجي وقصص تفوق الخيال

وكتب الأحاجي السودانية مليانة بنماذج لا تحصي ولا تعد


والأسرة البسودانية حتي يومنا هذا ما زالت تحترم الكبير وتجله وتقدره

علي الرغم من دخول الحضارة والمدنية عبر السينما والتلفاز وأخيرا الأطباق والشبكة العنكبوتية

والكبير كبير

ولكن أن يقود الأبن أو البنت والده المسن أو والدته العجوز

ألي دار العجزة والمسنين فهذا ربما يحصل في عهود لاحقة

ولكن كيف يفكر الأبن والبنت في هذا ؟؟

للتخلص من أمها وهي قد حملتها وهنا علي وهن

أم التخلص من الأم والجنة تحت أقدام الأمهات

أم التخلص من الأب وهو الذي كد وتعب وشقي وحفي

نعم القيم والمثل والأخلاق تغيرت

ودعونا ندق ناقوس الخطر

فما نراه اليوم وما نسمعه

سنحكيه في بوست منفصل

وعندها فليس بمستغرب أن نجد أن دار العجزة بالخرتوم مليانة

والولد أو البنت في سياحة في لندن روم باريس جنيف

اللهم نسألك اللطف

ويقول سبحانه فيما معناه :::

وقل ربي أرحمهما كما ربياني صغيرا


وأن جاهداك أن تشرك بي فلا تطعهما


ولا تنهرهما ولا تقل لهما أف



ربنا ارزقنا الولد الصالح


يديكم العافية



د.سيد عبدالقادر قنات غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 02-06-2006, 08:03 AM   #[4]
ريما نوفل
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي


سعادة السفير،

قصة مؤثرّة، محبوكة بإحكام. وطبعاً هي مهمة عسيرة ان تأتي القصة القصيرة بهذا الإحكام.
فيها مزيج من صراع الماضي مع الحاضر، وخط رفيع يربط طرفي العالم النقيضين من حيث العادات والأعراف والترابط الاجتماعي.
لا اخفي أنك تركت في نفسي مسحة حزن، وأشكرك عليها، لأن لا جدوى من قراءة القصة إن لم تترك عندنا أي أثر.
شكراً لأنك أشركتنا في هذه القصة الجميلة.



ريما نوفل غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 03-06-2006, 01:37 PM   #[5]
جمال محمدإبراهيم
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية جمال محمدإبراهيم
 
افتراضي

لك الشكر أيها النطاسي الأديب..
و لك كل التقدير على كلماتك يا ريما ،
فالقصة تمس شيئا فينا .. كتبتها و أنا حزين ....
لكن نحن عموما إلى الحزن أقرب .. فكلما ابتعدنا من الطبيعة و الفطرة ، يأتينا الحزن ، ذلك أن المصطنع من اللؤلؤ لن يكون لؤلؤاً أصيلا ، وأن فاكهة من بلاستيك لن تخدع لساني ...
صنعة الإنسان لن تشابه صنعة الرب . .و لنا أن نسأل أين الله في مدن البلاستيك ؟؟



جمال محمدإبراهيم غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 04-06-2006, 07:29 AM   #[6]
ناصر يوسف
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية ناصر يوسف
 
افتراضي

صديقي الجميل

جمال

جمال الحكي لديك يأسرني كثيرا
لقد تركت هذه القصة تساؤلات كثيرات علي زهني المرهق أصلا
وهي تساؤلات تفيد الزهن كثيرا

شكرا لك علي هذا الفيض من الحكي

خطان متوازيان متشابهان في الفعل والأحاسيس

بين مستر براون والسردار وبين الحفيدين

يا لروعة التمازج المتنافر بين الخطين المتوازيين في الحكي

لغة رصينة تأتي بإحكام وتفعل في النفس أفاعيل ممتعة ومفيدة

شكرا لقلمك لخيالك لذهنك لفيض الحكي من لدنك

شكرا جزيلا



التوقيع:
ما بال أمتنا العبوس
قد ضل راعيها الجَلَوس .. الجُلوس
زي الأم ما ظلت تعوس
يدها تفتش عن ملاليم الفلوس
والمال يمشيها الهويني
بين جلباب المجوس من التيوس النجوس
ناصر يوسف غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 04-06-2006, 04:43 PM   #[7]
نصار الحاج
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية نصار الحاج
 
افتراضي

جمال
ممتع جميل جدا هذا السرد
وهذه الحياة
والتفاصيل التي كتبتها
بجمال وقدرة رائعة في الإمساك بالقارئ
وتوغله في عميقاً بحيث لا يستطيع الفكاك حتى النهاية

شكرا لك كثيراً يا صديقي ..



نصار الحاج غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 06-06-2006, 04:34 PM   #[8]
جمال محمدإبراهيم
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية جمال محمدإبراهيم
 
افتراضي



لقد أبصرت يا ناصر ببصيرة قاص و حكاي ...
في الحياة تجد أقداراً تتلاقى ، ربما باتفاق و أيضاً ربما بغير اتفاق !
هذا التوازي الذي أبصرته أنا بخيال ، أرى من أبدعه قد أمتع نفسه ، قبل أن نتمتع نحن باستكناه هذا الخلق الموازي ..
و لنقل معا : المجد لله ..



جمال محمدإبراهيم غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

تعليقات الفيسبوك

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 06:53 AM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.