- إبتداع آليات فعالة تكفل التجديد الذاتي للنظام السياسي في الوقت المناسب مع مراعاة الظروف الداخلية والخارجية المتغيرة
د. الشفيع خضر سعيد
أنظمة الاستبداد المعاصرة، تختصر الديمقراطية، عن عمد في بناء أشكال وهياكل فارغة المحتوى، لا وظيفة لها سوى تضخيم رجع الصدى الذي أشرنا إليه في مقالاتنا السابقة. وفي الحقيقة فإن البرلمانات والمؤسسات المنتخبة في ظل حكم الاستبداد والطغيان، كما كان الحال في مصر وتونس قبل الثورة، وكما هو الوضع بعد أي انتخابات مزورة، في السودان مثلاً، هي مجرد هياكل فارغة ما دامت تنبني وفق مقاييس يحددها السلطان الذي يحدد خط سيرها أيضا، وما دامت يراد لها أن تعمل في ظل غياب المؤسسات الأخرى التي تضمن في الحياة الواقعية أشكالاً متنوعة من الجهود الجادة للنشاط السياسي والمبادرة السياسية والإجتماعية من جانب الحركة الجماهيرية.
إنّ الذي ينفخ الروح في المؤسسات التمثيلية النيابية هو فقط نظام تعدد الأحزاب مقابل الحزب الواحد، وحرية حقيقية للإعلام والتعبير مقابل احتكارهما من قبل السلطة. إذن، الديمقراطية، بمعناها الواسع وبعمقها الحقيقي، هي البند الأول والرئيسي في برنامج التغيير البديل، ومركز الثقل الذي يرتكز عليه هذا البرنامج، والبوابة الوحيدة التي يتحقق من خلالها تغيير الواقع. وكنا في المقال السابق قد شددنا على أن أشكال الممارسة الديمقراطية قد تتعدد وتتنوع حسب القسمات الخاصة بكل بلد، ولكن يظل محتواها واحدا وثابتا ويعبر عن قيم إنسانية مطلقة، المساس بأي منها يشوه، إن لم ينف مفهوم الديمقراطية. وقلنا أن التجربة البشرية لخصت ذاك المحتوى، وتلك القيم في: إحترام التعددية والتنوع، كفالة الحقوق والحريات، كحرية الرأي والتعبير والمعتقد والاختلاف والتظاهر والتنظيم إلى جانب حرية الصحافة والإعلام…الخ، سيادة حكم القانون وإستقلال القضاء، الفصل بين السلطات، التداول السلمي الدستوري للسلطة، وفي إكساب كل ذلك بعدا إجتماعيا مرتبط بتوفير الحاجات المادية للناس، وعلى رأسها لقمة العيش.
إن تطور المجتمع الصناعي المتقدم في الغرب وفر تربة صالحة لنمو واستقرار الممارسة الديمقراطية في صيغتها الليبرالية، في حين أن هذه الصيغة تعثرت وفشلت في مجتمعاتنا التي يتدنى تطورها كثيرا عن مجتمعات الغرب الصناعي المتقدم. ولقد إختبر السودان ممارسة الديمقراطية التعددية وفق صيغتها الليبرالية، خلال ثلاثة فترات منذ إستقلاله: مباشرة عقب الاستقلال، وبعد ثورة اكتوبر 1964، وبعد انتفاضة ابريل 1985،. والكل يقر بأنّ تلك الممارسة قد شابتها العديد من العثرات والتشوهات القاتلة، والتي مهدت لمصادرة الديمقراطية بالانقلاب العسكري. لكن خلال كل تلك التجارب كانت المفارقة الواضحة، وذات المغذى الأوضح، هي: ردة الفعل الضعيفة، بل واللامبالية، من الجماهير في البداية، تجاه مصادرة الديمقراطية، بإعتبار أن التجربة، أو قل النخب المنتخبة، فشلت في تلبية مطالب الجماهير، ولكن، ومنذ البداية أيضا، لم يحدث أن غابت عن بصيرة الجماهير حقيقة أن القادم سيكون أسوأ بما لا يقارن بالتجربة المصادرة. إن الخلل المصاحب لممارسة الديمقراطية التعددية في بلداننا، لا يعني عدم صلاحية الديمقراطية كما لا يعني مصادرتها، ولا يؤخذ ذريعة لفرض الاستبداد والطغيان تحت شعار أن بلداننا، بتركيبتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المرتبطة بسمات المجتمعات ما قبل الصناعية، غير جاهزة للديمقراطية، أو انها تحتاج إلى المستبد / الديكتاتور العادل. وقد ناقشنا من قبل صعوبة وإستحالة إستمرار بسط العدل وإحترام كرامة الشعب في ظل حكم الاستبداد والطغيان، وأن الحاكم المستبد، مهما شهدت أيام حكمه الأولى تجاوبا مع رغبات شعبه، سرعان ما سينتهي إلى التناقض مع هذه الرغبات.
إنّ الممارسة الديمقراطية بصيغتها الليبرالية، ترتكز على مبدأ التنافس الحر في ظل وعي متقدم بالحقوق والواجبات، وفي أجواء مشبعة بالشفافية ومسلطة عليها عين الرقابة والمساءلة والمحاسبة وحكم القانون. في الغرب، وفرت البرجوازية كل تلك المبادئ، وحسمت، إلى حد كبير، مخلفات ما قبل الثورة البرجوازية، أي قضايا التوتر العرقي والطائفي وعلاقة الدين بالسياسة، مثلما حسمت قضايا الهوية وبناء الدولة القومية، ثم استعانت بسيطرة آلة نفوذها الاقتصادي لتنعم هي بالسيطرة السياسية في ظل ممارسة ديمقراطية، يقدمها منظروها على أنها القمة، أو “نهاية التاريخ”، ولكنا، كما فصلنا سابقا، نعتقد أنها النموذج المبهر، حتى الآن. هذه الصورة مغايرة لما هو سائد في بلداننا حيث تتكبل المنافسة الحرة، وتضعف مبادئ الشفافية والرقابة والمحاسبة وحكم القانون، ومن ثم تتعثر خطوات الممارسة الديمقراطية، وذلك بسبب السمات الخاصة للتطور في بلداننا، والتي تشكلها عدة عوامل، منها: تدخلات الطائفة والقبيلة والدين في السياسة، وهي تدخلات تقوم على طاعة أوامر الزعامات التي تتمتع بالنفوذ الروحي كما تمتلك قدراً من النفوذ المالي، تفشي الأمية وتدني الوعي خاصة في الريف حيث أغلبية السكان، التوتر العرقي والقومي والذي اتخذ شكل الصراع الدامي بين المركز والأطراف، ضعف نفوذ البرجوازية الصناعية أو تبعيتها لرأس المال العالمي أو سيطرة الفئات الطفيلية عليها والتى لا تعيش إلا في ظل الاجواء غير الديمقراطية…..كل هذه العوامل، وغيرها، أثقلت محتوى مؤسسات الممارسة الديمقراطية في بلداننا، الأحزاب والبرلمان وعملية التنافس الانتخابي نفسه، أثقلته بجوهر تقليدي يخضع للنفوذ الروحي والمادي لثلاثي الطائفة والقبيلة والدين، وعمقت من تناقضاته الناتجة من تهميش وعدم تلبية مطالب قوى مراكز الإنتاج الحديث (القوى الحديثة)، وفى نفس الوقت تهميش وتجاهل مطالب جماهير الأطراف (مراكز التوتر القومي)، والمحصلة النهائية هي هشاشة الممارسة الديمقراطية وفق الصيغة الغربية في بلداننا.
وفق هذه المحاججة، يمكننا أن نستنتج أن المطلوب هو إبتداع إضافات نوعية تعمق محتوى الديمقراطية التعددية، وتعطيها شكلا جديدا، أرقى وأرحب وأكثر ملائمة لبلداننا. وفي سبيل تحقيق ذلك، لابد من توفر عدد من الشروط والمقدمات، أهمها:
- الحفاظ على محتوى الديمقراطية التعددية وقيمها التي رسختها الليبرالية، والمتمثلة في إحترام التعددية والتنوع، كفالة الحقوق والحريات، كحرية الرأي والتعبير والمعتقد والاختلاف والتظاهر والتنظيم إلى جانب حرية الصحافة والإعلام…الخ، سيادة حكم القانون وإستقلال القضاء، الفصل بين السلطات، التداول السلمي الدستوري للسلطة.
- حسم قضية السياسة والدين على أساس أن الأصل هو المواطنة والمساواة أمام القانون والتقيد بالمواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان، وكفالة حرية المعتقد والاجتهاد الديني والفلسفي والبحث العلمي. وإذا توفر كل ذلك، ستبقى مسألة مصادر التشريع قضية يسهل الاتفاق حولها
- التوزيع العادل للموارد والثروة وفق التركيبة السكانية مع إعطاء الافضلية في التنمية للمناطق الأقل نموا، والاتفاق على شكل الحكم اللامركزي الذي يوفر للقوميات والاثنيات المختلفة مشاركة عادلة في السلطة وتمثيلا حقيقيا على كافة المستويات، بما في ذلك رأس الدولة، المؤسسات التشريعية والتفيذية القومية واللإقليمية والمحلية، الحكم المحلي…الخ، الابتعاد عن النظام الرئاسي بشكله الكلاسيكي وإعتماد النظام البرلماني أو إعطاء صلاحيات محددة لرأس الدولة المكون من ممثلي الاقاليم المختلفة، تطوير نظام التمثيل النسبي وعدم قصر باب التنافس الانتخابي على الأحزاب فقط، مراجعة وتطوير تجربة نظام دوائر الفئات والقطاعات..الخ.
- تحجيم تدخل الطائفة والقبيلة في السياسة، لا بقرارات وأوامر إدارية، وإنما عبر تدابير إجتماعية وإقتصادية وثقافية.
- في التعليم: ربط المناهج بالقضايا الاجتماعية، وتطوير منهج التربية الوطنية.
- إتخاذ تدابير إقتصادية لصالح المواطن البسيط، وذلك في إطار الديمقراطية الاقتصادية وديمقراطية علاقات الانتاج.
- إعمال الفكر لتطوير الديمقراطية المباشرة في مواقع الانتاج وفي مجالات السكن وفي سائر محافل المواطنين، والمزج بينها والديمقراطية التمثيلية النيابية. ويدخل ضمن ذلك:
+ الإعتراف بدور النقابات والمنظمات الطوعية والمبادرة الشعبية، بل والقوات النظامية، في عمليات البناء واتخاذ القرارات الهامة المتعلقة بمصير الوطن. أعتقد أن القوى السياسية السودانية قد انتبهت إلى هذه النقطة عقب مصادرة الديمقراطية الثالثة بإنقلاب الجبهة الإسلامية القومية، لذلك طورت فكرة الجبهة المعارضة في صيغة التجمع ثلاثي الأضلاع: القوى السياسية، النقابات، والقوات المسلحة.
+ تطوير آلية الاستفتاء الشعبي والركون إليها في حسم القضايا المصيرية.
+ ضمان حقوق الافراد من تعسف الدولة والمجتمع وإفساح المجال إلى أقصى حد أمام النشاط الفردي.
- إبتداع آليات فعالة تكفل التجديد الذاتي للنظام السياسي في الوقت المناسب مع مراعاة الظروف الداخلية والخارجية المتغيرة.
أعتقد أن قضية الديمقراطية تحتمل العديد من الأطروحات والتدقيقات النابعة من التجربة المحددة، ولكنا نكتفي بهذا القدر، على أن نستكمل في المقال القادم تناول البنود الأخرى في برنامج التغيير البديل، والتي طرحتها إنتفاضات شعوب المنطقة.
نواصل