بوذا و حكمة الطير الخدارى
بوذا و حكمة الطير الخدارى
نفثت ملء رئتيها من الهواء الثقيل جزعا و هى تسترق النظر الى السما ء كأنما تستميح الله عذرا على قنوطها ، و على خديها صمغ الهشاب يسيل ، و على شفتيها ينتثر الكحل الذى غرزته الأبر وشما ابديا لا يفنى و لا يتبدد و لا يلتئم له جرح ، و فى ركن قصى من المكان كان الصرصار يناضل بيأس و حمية للأفلات من شباك العنكبوت ، للصرصار حياة يقاتل من أجل البقاء على قيدها و شرطها ، ترى ما قيمة الحياة عند صرصار ، كائن وحيد يعيش فى ظلمة ووحشة و نفايا؟؟؟؟
يطرح العشب ازهارا تتعلق على سيقانها الواهية، كائنات دقيقة ، تحتفل بحياتها و آمادها القصيرة و تحتفى بشبق اناثها ، و بين العشب غير الصالح للبقاء ، تنبت ( الموليتة) ، كان جدى يعشق اكلها بعد خلطها بمسحوق الفول ، قال بأنها تمنع عنه اصابة الملاريا ، و نفث ملء فاه هواءا مختلطا بنأمة شجى و شوق بعيد و حسرة ، و فى السماء الفسيحة تراوح ازيز الطائرة ذات المحرك الواحد ، بين النأى و الأقتراب ، الطائرة التى تسح مطرا من الموت على الكائنات الصغيرة المتعلقة فى ذعر على سيقان الأعشاب الواهنة ، لوزات القطن البيضاء اشرقت لتوها من بين أعطاف الأغشية الصلدة السميكة ، تتساقط عنها الديدان فى شقوق الأرض صرعى مختبئة فى شفافية اجسادها الرخوة ، و فى المدى البعيد، بيوت مغلفة بالغبرة و الشمس و الصمت و الحيرة ، تستظل بالنيم و بعض نخل عقيم ، تتشبث بالبقاء وعلى ابوابها الوشم و التوسل و الرقى، وعلى طرف جدول الماء القاصى (طورية) و بقايا عظام ، يتسارع النمل الحاشد فوقها و لا يصطدم ببعضه فى سعيه المتعجل ، تخرج الماعز من معاقل اسرها فى زرائب الشوك و تحط الطائرة الصفراء الخشبية الصغيرة وراء مشيدات ( الزنك) و الجمالونات الغارقة فى السراب ، مخلفة وراءها صدى حشرجة المحرك الوحيد و هو يتهيأ للموت. على مائدة الغداء جلس عمى ( عبد الرحيم )، ننظره بأعجاب و هو معلق فى السماء على متن طائرته الصفراء الصغيرة ، مثل تمثال من الطين ، و على المائدة يتمدد و تدب فيه الحياة مثل بوذا و حكمة الطير ( الخدارى) .
.
صحوت على صوت ( انجيلا) ، فى الجانب الآخر من السرير ، يسقط الضوء الشمالى على وجهها مثل منحوتة فذة ، صحوت و صدح البلو بلو ، و أخى تورمت بطنه و هو لم يتعدى حقنة السعر التاسعة ، ، و الأفندى يتأفف من أمه و هى تبيعنا اللقيمات فى الصباح الباكر بوجه تحتفل كل نأمة فيه بالحياة ، و جسد تختلج كل عضلة فيه بالحب ، و على ساحة الحوش الضيقة ، تراصت الأسرة دون ترتيب و اغطية ملونة مهملة و نسمة باردة أخيرة تأتى قبيل ان تفتح السماء اشداقها باللظى.
يعاود عمى ( عبد الرحيم) تحليقه فوق ذرى ( العيش) و الخضرة و جداول الماء و مسالك الأسى و سقوف مشيدات الزنك العالية و روائح المبيد، يحط على الكحل فى شفتيها ووشمه الأبدى فى المساء ، يطرق بابها خفية و نحن نيام ، و جدتى تهذى بانها وضعت له ( العمل) ، فيتقبلها الجميع كما القضاء ، تتبعها عيون النساء فى حسد و الرجال يشتهونها و يتهيبون سطوة المبيد .
انتفضت ( انجيلا) ، فى فراشها و هبت مذعورة ، رسمت اشارة الصليب ، سقط الغطاء ، يكشف عن يمين جسدها العارى ، و برز الوشم الثعبان المحدد بالكحل و البنفسج و الخضرة الواثقة ، تمطى على جسدها العارى ، منمنم مثل موشح اندلسى ، صغيرة ، واسعة العيون ، حائرة فى مأزق الحلوى و يد صاحب الكنتين الممتدة المولعة بقرص افخاذها الرقيقة البريئة ، و فى ليلة زفافها لازمتها رائحة الصابون و الحلوى و زيت السمسم و نظرات (خضر) المقيتة و جلبابه المتسخ، افلت الصرصار من متاهة شراك العنكبوت ، فأسرع العنكبوت الى رتق الفتق فى نسيجه القاتل و جلس صامتا فى انتظار الذباب.
رجعت الأغنام الى حظائر الشوك مع بوادر المساء، و التصق الجربوع على صمغ الهشاب بعد ان قضى وطره فى طلب اللذه ، لا يفرق بين جذع انثاه و جذع الشجرة ، رميناه بالحجارة و هولا يحير فكاكا من قبضة الصمغ الصارمة البكر ، و توارت وجوه الفتيات خجلا وراء خيوط الطرح البالية الباهتة ، خجلا من مشهد الموت الفاضح و عرى ( الكدروك) ، و فى المساء الموغل ، اشتعلت اعواد القطن بالحريق أحترق الطين و احترقت الكائنات الدقيقة فى مواقع نضالها اليومى من اجل البقاء ، ماتت و اشواقها و تطلعاته الدقيقة وولدت كائنات أخرى فى جهنم الحريق.
دار ( عبد الرحيم) دورتين فى السماء و نحن نركض وراء تمثاله الطينى بطائرات من شوكة و قطعة من الورق المقوى، و بعرتان، نلهث و الطير الخدارى افسح الفضاء ، قاعد على اسلاك خطوط الكهرباء ، و حين اشتدت قسوة الهاجرة ، طفونا فوق ماء الترعة العكرة ة كائناتها الدقيقة ، ننوء بلذة الذنب ، وفى المساء كنا نهذى بالحمى و بوذا جالس على المائدة بعد ان فرغ من طيرانه النهارى، خرج قاصدا بابها الموشوم ، و نساء يتقلبن فى ملل على اسرتهن، و ( انجيلا) تنتظر ان يشيح ( خضر) بعينيه عن سبيلها.
|