يا .. سوط المطر
بعيدٌ .. يا ( سوط المطر ) ..
.....
فإذا كان أول الخريف و ( شالت ) السماء و أبرقت عبّاديا .. قال أبي : ( أطلع نضّف راس البيت و افتح السبلوقات ) .
( حلتنا من فوق راس البيت ) : طـازجةٌ و جديدة ..
و كان ( سوط المطر ) قوساً لوناً من أول السماء لآخرها ..
قالت أمي بأن ( ميكاييل ) وكيل المطر يهشُ بالسوط على قطعان السحابات و ( يسوقها قدامو ) حتى لتصل إلى الحجاز .. حتى لبيت النبي .
و كنت استأنس بالصورة التي صنعتها طفولتي للنبي .. كحيل العينين واسعها ، طيب القسمات ، عمامته بيضاء .. حنوناً . و كيف أن بيته مثله : طيباً و حنوناً .. ببرنداتٍ واسعات و حوشٍ مقشوشٍ مرشوش .
....
أظل طوال العصر أرقب من فوق ( راس البيت ) لسوط المطر يتنقل فوق السموات داكنة الزرقة في عنفوان حراكها ، و السحابات الثقيلات تزحفن من حولي يسوقها ميكاييل إلى حيث مزودها الحجازي ، فأحب ميكاييل يفعل ذلك ، و أحبه أكثر عند مناجاة جدتي له : يا وكيل الرعد ، فيرزم لها بفرقعة سوطه علي ظهور الغيمات ( مثلما سائقو القندرانات يفعلون حين يمرون بالحي .. فتصيح جمهرتنا الطفولية : بوري .. بوري يااااا ، فيطلقون أبواق القندران تحية طويلةً لنا ، و يبتسمون ) .. أو حين ( يشكشك ) المطر و يأبي انهمارا .. فتنادي عليه جدتي : كيل يا ميكاييل بالربع الكبير .. فيكيل لها ، و لها يثقب السموات يفجرها ماءا ، تفعل جدتي ذلك و على الرأس الأشيب الجليل طرحتها التي ما فارقته ، و عيناها من خلف عدستيها السميكات معلقتين بالسماء ذات البلل . فتتطاول عندي قدرات جدتي الكثيرات ، أعلاها الإتيان بما لايستطيعه الناس . كيف لا و قد استجاب لها ميكاييل - ذلك الذي يسوق قطعان الغيم إلى بيت النبي - .
و قد كان لجدي قدرات هو الآخر .. لكنها ما كانت لتقارع بركات جدتي . فقد كان مدخناً للسجائر الشامبيون ، و لذلك ضعُفت بركاته . قالت جدتي بأن شراب السجاير يطرد الملائكة من البيت ، و تتعفن روح شاربها في جوفه . إلا أن جدي ظل يدخنها .. ثم يفعل ما لا يفعله غيره من رجال الحي : يقرأ الصحيفة و يدخن الشامبيون ، و له فقط تستجيب الغنيمات حين يأتي لها بالبرسيم فيناديها و هو عند باب الدار : تعالي .. تعالي ، فتجيئه هرولةً و هي تُمأميء خافتاً . و لجدي فقط تستجيب صغار النخلات المتيبسة المفصودة شتولاً من أمها ، ليغرسها في جوف التربة فتخضر في يومها التالي . و وحده من يذبح البهيمة في سرعة غريبة ثم يأكل من تمرة كبدها و هي معلقة ما تزال في دمها الحار الرعّاف . و كان يعرف عن الغنيمات الحوامل ( البهيمة دي شايلة كم ) و علي يديه كانت الغنيمات تلدن ، مخرجاً وحده ( السخلات ) الأجِنّة من بين ( التبيعة ) و فضلات أخرى كثيرات . جدي وحده كان ينفخ علي أنف السخل المولود حديثاً حتى ليثغو عالياً .. حتى ليتقافز ( دغوراً ) . و لجدي كانت تدر الغنمات حليباً كثيرا ما كان لغيره أن ينال . و لم يتغلب على جدي رجل من الحي في لعبة السيجة عصراً في ركن أولاد عبدالرازق . ثم أنه ظل يزدرد الشطة بأكثر مما يغمس اللقمة في الإدام .. و بقي كذلك يفعل حتى رحل .
....
الصبية من عمري كانوا مثلي أيضاً فوق رؤوس بيوتهم .. توحدنا الأمطار المرهصة بالإنهمار ، و نتوحد في جواليص البيوت الملتصقات إلى بعضها كما المستجيرات بوحدة بؤسها . طوال الوقت من بعد الظهيرة كنا مرتفعين هناك .. ننادي بعضنا .. و نتحدث بأصواتنا العاليات مشحونة بالشيء الغامض الذي يجيء به المطر .
حلتنا ( من فوق ) ليست هي حلتنا التي نعرف .. كانت شيئا فريدا من هنا .
طلبتُ كثيراً من ميكاييل أن يصعّدني لفوق سوطه الكبير . قالت جدتي أن ( الله فوق في السما ) ، فأنا الآن في علوٍ عال و أقرب ما أكون إلى الله ، و موقنٌ كنت بأن دعواتي له و لميكاييل هي لا محالة مجابة . لكن ميكاييل لم يستجب لي ، و علىّ تأبّي .. على علمي بأن الله قد طلب إليه أن يرفعني فوق السوط الكبير الملوّن فأساعده في الهش و السياقة للغيمات الجوامح الحُبلى بالمطر .
....
قالت جدتي بأن ( الله بيسمع دُعا الجُهَال ) و قد ظللنا عندها - أنا و إخوتي - ظللنا عندها الشُفّع و الجُهال حتى كان يوماً غمزتني فيه قائلة : ( إنت يا ولد الفي وشك ده شنو ؟ الحبوب مالِن كِترن كدي ؟ ظنيتك غاوي ) !! . جدتي عرفت بأمر البنت - تلك التي أقلقني أنها تسكنني ليل نهار - و لا شك عرفت بأني أحلم بها كثيرا في كل ليلةٍ لأصحو خجِلاً من أحلاميَ الملتهبات بها .. فـ ( أضاير ) من حولي العراقي و الملاءة المبتلة من شهوتي الليلية .
جدتي تعرف كل شيء .. و تصادق ميكاييل وكيل الرعد و المطر .. و تعرف لله مكاناً لا يعرفه إلاّها .
و قد كانت غرف دارنا ثلاث .. أعلاها الديوان بسبلوقاته الأربع ، تخِذته برجاً عالياً أناجي فيه ميكاييل كلما قطيع غيماته التأمَ .. أناجيه بأن يأخذني معه لنرعى الغيمات نسوقها حتي لبيتها النبوي . لكنه تأبّى عليّ و لم يستمع . و يظل أبي يخرج إلي الحوش يستطلعني أعلى الديوان بين فينة و فينة ليزجر : إنت قاعد عندك بتعمل شنو ؟ أنزل أرفع ( الرِقيطة ) و افرشها .
....
يعرف أبي منازل النجوم و أحاويل المطر و البرد و القلاية أم سموم .. و يقرأ كتاب السماء ذات النجم في ساعات الفجر الأولي .. و عليها يحسب مواقيت ( الحجامة ) التي يفصد فيها جانبي ركبتيه بالموسى . يقول أبي و عيناه الضيقتان مرصدان للكتاب السماوي أن : البرق عبادي و أنها ستمطر الليلة مطراً ثقيلا ، فنحتاط لذلك بفتح الجدول تحت الباب .. جدولاً صغيراً بعرض ( الطورية ) يلتف كما الحية حول الغرف و البرندتين حتي ليصل إلى عتبة باب الحوش الخشبية و من تحتها يمرّ . و يقول أبي بأن ( سعد بلع السنة دي مطول شوية ) و أن ( الهنعة ) لابدّ قاتلنا سمومها و الهجير صيفنا هذا .
سألته : من أين يأتي ميكاييل ؟ قال : من عند جبل البركل .
حين أصابني الرمد الربيعي لاحقاً و عمري فوق العاشرة .. سقطت رموش عيني و بدا جفني يطفحان بثورا . أخذني جدي للبركل .. فتباركتُ بطلاسم كثيرات لسبعة أيام ظل فيهن جدي ( يشدّ ) البليلة ليطعم الفقراء منها ، و في الليل يحوطني بالبخور الذي منحه ( الفكي السنوسي ) و أشرب منقوع ثلاث ( محايات ) في كل ليلة . هناك بحثتُ عن الغيمات و أين مزودهن من البركل ، وسألت . قالوا بأنها تجيء من خلف الجبل من مكانٍ لا يعرفه إلا الجان و ميكاييل . ثم أخذني جدي إلي بورسودان ، و عند كل عصرٍ من أيامنا الثلاث كان يأمرني بالدخول إلي ( بحر المالح ) و أن أفتح عيني على سعتها داخل الماء ليطهر الملح ما تبقى من داءٍ فيهن و مِن عين . عدتُ للبيت بأعين سليماتٍ و حزن كبير على الغيمات التي لم أر .. و ميكاييل الذي لا يستجيب لي .
....
ظللتُ كلما جلد ( سوط المطر ) الغيمات السود خريفاً .. ظللتُ أصعد ( فوق راس البيت ) و أتلو علي السماء - سراً - رغباتي و أحلامي .. ثم أنظف سقفنا و ( أسوي الرقيطة ) و أجلس منتظراً .. علني أظفر بإجابة .. فما أنال ألا الزخ الثقيل للماء .. و رعداً و برقا .
و قد كان الخريف زمانئذٍ خريفا ، و كانت أمانيَ تفجُر و تكبر و تعظم كلما ( السما شالت ) و ماعت الدنيا و ابتلت . ظللتُ مؤمناً بأن الخريف يغسل الأرض و به تستحم ، و الناس فيه تنبت لهم مدافيء في القلب .. فتحلو الأوجه و عليهم تتنزل سكينة ما . حتى جارتنا : زهرة بت بُلُك ( أم عين حارة ) .. حتى هي كانت تتحول كائناً يشوبه السحر الغامض الجميل .
زنة ( الربع الكبير ) التي تسأل جدتي ميكاييل أن يكيل بها مطره ما عرفت لها مقياساً .. لكني موقنٌ كنت بكبرها و عظم ثقلها حين تنادي بها جدتي علي ميكاييل . لم تراوح مخيلتي تلك القصعة من المعدن الصلب و التي يستخدمها ( عوض الدقّاق ) حين يزن للنسوة الدقيق من فوق ظهر حمارته .. سطلاً كبيرا من حديدٍ صديءٍ ، يعبئه طحيناً من ( خُرج ) حمارته و يكيل به لهن . و ما كنت رأيتُ يوماً تلك الحمارة إلا و هي تمشي رازحة تحت ثقل حملها من الطحين جوالاتٍ علي جانبيها .. و ما فرغت حمولتها من الطحين ذاك كائناً ما أخذ منها ( عوض الدقاق ) و كُثرما غُمِس ذلك الربع الحديدي الكبير في طحينها و أُخرِج .. و النسوة يطلبنه ملحفاتٍ : ( الربع ) و ( الملوة ) و ( الكيلة ) .. فيخرج الطحين حتي تستكفي نسوة الحي ، ثم لا تزال الحمارة ترزح تحت ثقلها .. و الخُرجين مكورين امتلاءً بالطحين .
.....
لا خريف قادم تسبقه الهنعة ، لا و لا سعد بلع .. و لا أب لي أسأله حين تستعصي عليّ المسألة فيجيبني .
الضجيج عظيمٌ في هذه المدينة الفوّارة باللاشيء .. و هو يعظم و يسمك كلما استغرقت البلدة في عواءها المحموم و الهتاف ، بأناسها و أبواقها و طبلها ..
ميكاييل لم يعد يرعى غنيمات الغيم ..
جدتي ليست هنا أيضاً .. و لا جدي .
الضجيج عظيمٌ في هذه المدينة الفوّارة باللاشيء .. و الممتلئة بكل سقم الأرض و ضوضاءها .
ما تزال بي حوجة لسوط المطر .. ( بُراقاً ) يحملني إلى حيث ماحيث و مامكان و ما سدرةٍ و لا منتهى .
الضجيج عظيمٌ هنا .. و المدينة جُنّتْ فسُعِرَتْ فعَوَتْ .
ما تزال بي حوجة لسوط المطر ..
عدا أنني ما عدتُ أحلم ..
فقط أريده لو يحملني بعيداً ..
فأبتَعِدْ .
التعديل الأخير تم بواسطة عماد عبدالله ; 30-03-2009 الساعة 02:56 PM.
|