نعي أليم - فيصل سعد في ذمة الله !!! عكــود

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > نــــــوافــــــــــــــذ > الســــــرد والحكــايـــــة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 09-01-2013, 10:41 AM   #[1]
معاوية محمد الحسن
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية معاوية محمد الحسن
 
افتراضي حمي الرجل الغريب .

حمي الرجل الغريب

معاوية محمد الحسن .

الأن أيقن أنه ليس ميتا تماما فالميت لا يستطيع أن يحرك أنامله هكذا في التابوت و لذلك راح الرجل الغريب يتأمل حالة موته الافتراضي في البلاد الباردة البعيدة ساخرا من العالم حين قالت زوجته -تلك المرأة ذات الشعر الكستنائي- للطبيب الذي كان قد فرغ لتوه من معاينة الجثة :

- أوصي بان يدفن الي جوار أمه في أرض الوطن .

و بالطبع فان الطبيب لم يكن معنيا بذلك لكن المرأة بدت و كأنها توجه اليه الحديث حين كانت تحادث نفسها ليس إلا و قد كان الرائي حينها يستطيع و بكل سهولة ان يدرك كم هي حزينة مع أن دمعها لم يكد ينهمر ,تشعل سيجارة فتطفئها بعد برهة لتشعل أخري و هي تزم شفتيها بينما تغوص مقلتيها للداخل أكثر مثل قارب تلتهمه متاهة البحر ثم تنتصب واقفة و هي ترفع الغطاء عن الصندوق الخشبي كاشفة الغطاء عن وجه الرجل الغريب الذي بدا كما لو أنه غارق في النوم لا في الممات .

أسرع الطبيب المناوب أخيرا للداخل بعد أن هاتفوه فتعجل إجراء الفحص الأخير بعد أن نزع عنه معطفه الابيض الطويل ثم أنهمك في تقليب بعض الأوراق , أخرج بعضها من الملف ثم وقع اسمه علي بعضها و سلمها للمرأة بعد ألقي نظرة أخيرة علي وجه الرجل و قال :

- كان هذا متوقعا .

أخرج يداه من القفازين ثم وضعهما داخل جيب ردائه . طال الصمت حتى هرعت المرأة الي سماعة الهاتف أول ما رن و قالت تحادث شخصا ما :

- هل أبلغتم ذويه هناك ؟

يجيب الطرف الأخر:

- سيدة باربرا لا يهم . أبلغنا سفارة بلاده و هم تكفلوا بالباقي . تعرفين الإجراءات الروتينية.

المساء الشتائي البارد يتمطي علي فراش المدينة الجليدية ذات الشوارع البيضاء من كثرة الثلوج حين جاءت عربة نقل الموتى مسرعة فترجل عنها ثلاثة رجال شرعوا في مزاولة عملهم المعتاد فحملوا الجثمان الي ذلك الشارع الذي ظل الغريب يقطنه لعشرين سنة مع زوجته و أبنته ذات العشرين ربيعا .

حين توقفت العربة أمام المنزل كانت البنت أيضا قد هرعت الي هناك و هي تضع شالا اسودا علي كتفيها و تغطي عينيها الجميلتين الغارقتين في الحزن بنظارة سوداء .

ألقت نظرة الوداع الاخيرة علي الجسد المسجي ثم تمتمت :
- لا اصدق . هل رحل بهذه السرعة ؟

كان وجه الفتاة ذات العشرين ربيعا حين خلعت عنها النظارة السوداء محتقنا ببكاء ثقيل لكنها لم تدمع أيضا , مثل سحابة محتقنة بالمطر توشك أن تهطل و لا تهطل و مع هبوب موجة رياح شتائية باردة أخذ شعرها الاصفر المصبوغ يتماوج في الهواء و دماغها يمور بذكريات كالحلم.

ذات ليلة صيفية و الرجل الغريب يحملها علي كتفيه و هو يتجول بها وسط شوارع تلك المدينة و متنزهاتها العامة , ملامح وجهه الأرجوانية تبدو قاسية و هو يحدثها عن بلاده البعيدة , قال لها أنه كان قد ترك خلف ظهره منذ زمان طويل صحاري شاسعة و غابات و نهر طويل يجري ناحية الشمال و ثمة امرأة خضراء مفعمة بالحنان هي أمه . تذكر أيضا أنهما كانا قد بلغا ساحل البحر فجلسا علي الرمل , بدا القمر طالعا لكن ضوءه كان باهتا لأن أضواء البلاجات كان قد التهمت معظمه .
حين عادت الي البيت برفقته وجدت أمها تحتسي الشمبانيا و هي تجلس في الردهة مرتدية ثوبا حريريا يشف عن جسدها الغض , مسحت عن وجهها ذرات ملح البحر العالقة ثم أشعلت سيجارة و غرقت في الصمت بينما وقف أباها مقابل لوحة كبيرة لمنظر غابة استوائية .

قالت الأم :
- تبدو حزينا أكثر مما يجب هذه الأيام .

تذكر الأن كيف انه كان ينزوي في غرفته العلوية لأيام و ليال و هو يحادث أشباح خياله . يرطن بلغة لا تفهمها و حين تقف أمامه مشدوهة كان يضمها الي صدره و يبكي و هو يقول :
- تشبهين تلك المرأة الزنجية الخضراء .
- تقصد جدتي ؟
- نعم
- متي سأراها ؟
بينما قالت الأم :
- لا يستطيع أن ينسي أبدا .

هؤلاء القوم تتلبسهم أرواح عفاريت الغابات و تتوطن أجسادهم حمي المناطق الحارة , جاء الي هنا طالبا حتى يدرس الطب فتحول لدراسة الفن التشكيلي و كان يريد أن يتزوج بامرأة من بنات أهله فراني ذات يوم في حفل موسيقي فنسي كل شيء و تزوجني لكن ها هي الحمي تعاوده مرة أخري . حمي الأوطان !
- أنت مطارد بأشباح غريبة .
قرأت له شعرا اسبانيا من أدب الحرب الأهلية الاسبانية في تلك الليلة , ضمته إليها و قالت :
- ما رأيك في أن نتزوج , نعيش سويا أنا اكتب الشعر و أنت ترسم لوحاتك الجميلة .
ذات ليلة وجدته يرسم لوحة لزنوج يتحلقون حول حلبة الرقص فقالت له أرسم لوحة سريالية فحطم جميع لوحات و بكي , ارتمي في حضنها و قال لها :

- يجب ان أعود , صوتي أمي يتسرب نحو مضجعي كل ليلة .

قالت له في صرامة :
- لدينا طفلة عليك أذن أن ترحل بدونها .

في تلك الليلة كان قد تمكن أخيرا و بفعل قوة قاهرة لم يدرك كنهها في تلك اللحظة من إغلاق عينيه بصعوبة بالغة حتى لا يظن أحد أنه قد مات فالميت يترك غالبا عينيه جاحظتين و قلبه ساكنا , في البداية مضي يحرك أطرافه الباردة كأنه يتحدى إرادة عنيفة اسمها الموت قبل أن تخمد حركة أنفاسه . من المؤسف جدا بالنسبة للرجل الغريب أن يشهد رمق حياته الأخير و هو يخبو هكذا في حضن مدينة متيبسة الاطراف و خالية من الحنان .

للحظة طال أمدها قليلا ,أحس بدنو الصوت الذي ظل منذ وقت ليس باليسير من الزمان يقتحم عليه مضجعه , يقوم في منتصف الليالي كفعل من ألم به شبح مفاجيء في المنام فينهض مذعورا و يحادث طيف أمه . ثم هاهي الاشياء في عالمه الأخر كما هي , الغرفة ذات الالوان المخملية في الطابق العلوي من تلك البناية التي تقوم علي أطراف المدينة الصناعية الكبيرة ,اضواء الليل تلمع في الافق البعيد , السيارات تروح و تغدو في الشوارع و الناس يسبحون في فضاء الطرقات و الميادين , ليس منهم من يلفت الي الأخر , أرتال من الالات ,ريبورتات تتحرك في اتجاهات مختلفة و هاهي الاشجار مغروسة علي جانبي الشوارع لكن ليس فيها حياة ,لا فرق بينها و تلك البنايات الاسمنتية الشاهقة , كل شيء كأنه قد شد الي الي وثاق هذه البلاد الغريبة مثل سفينة ضخمة غرسوا اوتادها في الميناء فخلدت الي الراحة .

ذهبت المرأة نحو مكتب الموظف المختص بالقنصلية و كانت قد تركت شعرها الكستنائي ينفلت قليلا من أسر ذاك الغطاء الذي كانت تدثر به راسها و قالت :
- متي ستنهون هذه الاجراءات السخيفة جدا .

ضحك الرجل ذو الخمسين عاما و قال :

-سيدة باربرا ليس للموتي ما يشغلهم و ليس لديهم ما يتوجب عليهم انجازه .أتركيه نائما و لا داعي للقلق .

في التابوت الخشبي كانت أطرافه الباردة قد أخذت تتحرك و لكن ببطء كشخص وضع في غرفة العمليات و قام الطبيب بحقنه بجرعة ليست كبيرة جدا من المورفين لكن مع ذلك ظلت عيناه مغمضتان و كان عليه أن يثبت أنه ما يزال حيا و أن ما حدث لا يعدو كونه طرفا من علامات و اعراض تلك الحمي الغريبة التي كانت تنتابه .

نعم ليس ميتا تماما فالميت لا يستطيع أن يحرك أنامله في التابوت هكذا .هو الان يستمع الي لغط السيدة باربرا زوجته , لابد انها قد أحتست كأسا من الشمبانيا كعادتها قبل أن تأتي به لي هنا .و لا بد أنها كانت قد مكثت وقتا ليس باليسير و هي منهمكة في طقوس الحزن المألوفة قبل أن توقن أنه يتوجب عليها انجاز المسائل المتعلقة بنقل الجثمان و انهاء كافة المتعلقات المرتبطة بوجوده في تلك البلاد .

للحظات قصيرة يغيب عنه الوعي فيغرق في دهاليز الظلمة , كأن أشباح الوجود تعبر من أمام عينيه , يراهم واحدا أثر أخر يقتفون أثر خيط رفيع من الضوء ظل قائما علي حواف الظلمة ,شبح أبيه و أمه و أخته ذات العشرين ربيعا حين قضت ذات يوم بداء السحائي ,كان صبيا يافعا وقتها لا يدرك كنه الموت و الحياة حين ماتوا جميعا لكنه ما يزال يذكر أمه ,تلك الشلوخ الغائرة و المحفورة بعناية علي الخدين و ذلك الجبين الوضاء .كانت مثل شجرة عظيمة هوت بفعل رياح قاسية حين كان يتوجب عليها أن تهوي الي الأرض فتستريح . تعبره الأشباح و الشوارع و الحواري و الأزقة و تلك المدن البائسة و كأنه يشاهد شريطا سينمائيا حين تطفأ جميع الاضواء في القاعة .

مرة أخري يعاوده الصحو مثل رجل خرج من دهاليز المنام ليعود الي عالم اليقظة لكنما أطرافه لا تعمل بشكل جيد فقط يستطيع أن يميز تلك الاصوات المألوفة .هل قاموا بوضع تابتوته في المستشفي أم ثمة مكان أخر ؟ لا يستطيع أن يدرك ذلك جيدا الان لكن فقط يستطيع أن يتعرف الي صوت السيدة باربرا حين كانت تهاتف أحدا ما :
- سوف يقومون بنقله الي بلاده . كل شيء واضح الان يا سيدي . علي ان أذهب الي مكتب الوفيات, يجب استخراج شهادة الوفاة من المستشفي و يلزم اجراء بعض التوثيقات قبل أن أنهي أجراءات مكتب الضمان الاجتماعي ..
- اوووف لماذا يصبح أمر تدبير الموتي صعبا الي هذا الحد في هذا البلد ؟

كانت اضواء البلاجات المتناثرة علي الساحل و كانها تلتهم ضوء القمر الذي كان ساطعا علي صفحة البحر الزرقاء حين كان قد غرق في رائحة شعر أبنته ذات العشرين ربيعا ,تضحك و هي ترش وجهه بالماء و هو يدعك أنفه في ثنايا شعرها الكث ,متأملا وجهها الذي يحاكي وجه امه الأخضر . دفعها بصدره نحو الماء حتي غاصت في اللجة و هي تنثر زخات الماء علي وجهه المتعب .
- لا أدري لماذا تحادثني الليلة و كأن هذا هو أخر أيام حياتك ؟

تلاشت ضجة المكان شيئا ما حين أوغلا بالسيارة بعيدا في اتجاه اطراف المدينة هناك حيث توقفا فاشتري لها عصير الفراولة ,ذلك المشروب المفضل بالنسبة اليها و مضي يدخن و هو يقول :

- تشبهين تلك الخضراء ؟

- هههههها تقصد جدتي ؟ المراة الزنجية ؟

يستولي عليه شعور غريب لكنه ينغمس في الصمت.

حين توقفت سيارة نقل الموتي أمام البناية في ذاك اليوم لم تكن غارقة في النوم فعل عادتها دائما حين تعود في وقت متأخر من الليل لكنها كانت قد صعدت مباشرة نحو الطابق العلوي لتجد أنفاسه و قد غطت المكان بينما جسده يسبح في الغياب .

**********************

هاهي أطرافه الان تنسل عن جسده , ليس ميتا تماما .لماذا لا يدركون ذلك .هو فقط الأن يصارع الحمي الغريبة . تسللت تلك الرائحة في الليلة الماضية نحو فراشه ,رائحة أمه فأخذ يهذي لبرهة من الوقت قبل أن تصعد كريستينيا أبنته نحو الطابق العلوي فتصرخ . قالت قلبه كانت متوقفا بشكل شبه تام حين وفدت السيدة باربارا علي وجه السرعة فاستدعت الأسعاف .

و في صبيحة اليوم التالي كان الناس في تلك المدينة الباردة يشاهدون نعشا يطير ,حلق التابوت بعيدا ..بعيدا في أفق السماء اللامتناهي بينما كان هو في موته الافتراضي يضحك و هو يتحسس أطراف أنامله مدركا أنه ليس ميتا تماما .



التوقيع: أعشق عمري لأني اذا مت أخجل من دمع أمي ... ( محمود درويش )
معاوية محمد الحسن غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

تعليقات الفيسبوك


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 10:04 PM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.