[align=center]
رساله من المنفى
محمود درويش
***
تحبة وقبلة فى الخد
وليس عندى ما أقوله وبعد ! .. .
من أين أبتدى؟ ... وأين أنتهى ؟ ...
ودورة الزمان دون حد
وكل ما فى غربتى ذوادة
فيها رغيف يابس ووجد
ودفتر يحمل عنى بعض ما حملت
بصقت على صفحاته
ما ضاق بى من حقد
***
من أين أبتدى
وكل ما قيل وما يقال بعد غد
لا ينتهى بضمة أو لمسة من يد
لايرجع الغريب للديار
لا ينزل الأمطار
ولا ينبش الريش على جناح طائر
ضائع ... منهد
من أين أبتدى؟
تحية و قبلة ... وبعد
***
أقول للمذياع
قل لها أنا بخير
أقول للعصفور
إذا هاجرت عندها يا طير
لا تنسى ... و قُل بخير
أنا بخير .!.
أنا بخير .!.
ما زال فى عينى بصر .!.
ما زال فى السماء قمر .!.
وثوبى العتيق حتى الآن ما اندثر .!.
تمزقت أطرافه ...
لكننى رتقته .. ولم يذل بخير
وصرت شابا جاوز العشرين
تصورينى صرت فى العشرين .!.
وصرت كالشباب يا أماه أواجه الحياة
وأحمل العبء
كما الرجال يحملون
وأشتغل فى مطعم وأغسل الصحون
و أصنع القهوة للزبون
و ألصق البسمات فوق وجهى الحزين
ليفرح الزبون .!.
***
أنا بخير
قد صرت فى العشرين
وصرت كالشباب يا أماه ...
أدخن التبغ .. وأتكى على الجدار ..
أقول للحلوة آه
كما يقول الآخرون
يا إخوتى ما أطيب البنات
تصوروا كم مُرةٍ هى الحياة ..
بدونهن مرة هى الحياة ...
***
وقال صاحبى
هل عندكم رغيف؟ ...
أحس أنى جائع ... هل عندكم رغيف؟
يا إخوتى ما قيمة الإنسان؟
ان نام كل ليلة جوعان .!.
أنا بخير
أنا بخير
عندى رغيف أسمر ...
وسلة صغيرة من الخضار .!.
***
سمعت فى المذياع
تحية المُشردين للمُشردين
قال الجميع كلنا بخير .!.
لا أحد حزين .!.
فكيف حال والدى؟ ...
ألم يذل كعهده يحب ذكر الله ؛
و الأبناء ، و التراب ، والزيتون ؟ ...
وكيف حال إخوتى ؟
هل أصبحوا موظفين ؟ ...
سمعت يوما والدى يقول :
" سيصبحون كُلهم معلمين "
سمعته يقول :
" أجوع حتى أشترى كتاب "
لا أحد فى قريتى يفك حرفا فى خطاب !!!
***
وكيف حال أختنا؟ ...
هل كبرت و جاءها خُطّاب ؟ ...
وكيف حال جدتى؟
ألم تذل كعهدها تقعُدُ عند الباب ؟ ...
تدعو لنا
بالخير و الشباب و الثواب ...
وكيف حال بيتنا؟
والعتبة الملساء و الوجاق و الأبوب .؟.
***
سمعت فى المذياع
رسائل المشردين للمشردين
جميعهم بخير
لكننى حزين ...
تكاد تأكلنى الظنون...
لم يحمل المذياع عنكم خَبَرا ، ولو حزين .!.
ولو حزين ... ولو حزين
***
الليل يا أماه ذئب جائع سفاح
يطارد الغريب كيفما مضى ...
ويفتح الآفاق للأشباح ...
وغابة الصفصاف لم تزل تعانق الرياح
ماذا جنينا نحن يا أماه ؟ .!.
حتى نموت مرّتين
فمرة نموت فى الحياة ...
ومرة نموت عند الموت ...
هل تعلمين ما الذى يُحزننى ويملأنى بُكاء ؟
هبى مرضت ليلة و هد جسمى الداء ...
هل يذكر المساء ؟
مهاجراً
مات بلا كفن
ويا غابة الصفصاف هل ستذكرين ؟
أن الذى رموه تحت ظلك الحزين
كأى شىء ميت ... إنسان ؛ ! ؛
وهل تذكرين أننى إنسان ؟
وتحفظين جثتى من سطوة الغربان ...
***
أماه
لِمنْ كتبت هذه الأوراق ؟
أىُ بريدٍ ذاهبٌ يحمِلُها ؟
سُدّتْ طرق البر و البحار و الآفاق
و أنت يا أماه ؛
و والدى و إخوتى و الأهل و الرفاق
لعلكم أحياء .؟. !
لعلكم أموات .؟. !
لعلكم مثلى بلا عنوان .؟. !
ما قيمة الإنسان ؟
بلا وطن !
بلا علم !
و دونما عنوان !
ما قيمة الإنسان .؟. !!!
تحية و قُبلة فى الخد
وليس عندى ما أقوله .. وبعد ...
***
***
رد الله غربتك يا سامى ...
***[/align]
التعديل الأخير تم بواسطة بندر شاه ; 16-12-2005 الساعة 06:49 PM.
|