بورتريه لامرأة لا تنتظر أحدا ...
بورتريه لإمرأة لا تنتظر أحداً..
تلك المرأة إذن!!
سليلة الحزن والذكريات المريرة ذات الفؤاد الشفيف والذاكرة المتصدعة، في الداخل وهي منكفئة حول المنضدة والبصر معلق في تضاعيف الفراغ، كأنها ستشعل من انينها جذوة للصباح والأحلام. وحيدة وهي تخطو نحو الخمسين. صموتة دائماً ويرى وجهها وهو يطفح بحريق نكبات ومعارك كثيرة!!
الليل في آخر هذيانه والسكون متحالف مع الظلام مثل صديقين يخوضان آخر معاركهما بشراسة وتسمع أصواتاً بعيدة آتية من الحقول، هناك خلف النهر والكائنات نائمة ما خلا الشجر الذي ينفح الأرواح برحيق السهر والمحبة. لا شئ يعتورها في العتمة غير التباريح والوجد القديم.. دائماً ينتظرها أحد ما في الثلث الاخير من الليل، تنهض نشطة وتلبي النداء. تشرع بوابة الروح للقادم الذي لن يأتي أبداً.. لكنها تداوم على هذه العادة السخيفة وتلتمس الاعذار لصبوتها المتقدة دوماً!! ترى وجهه كالايام الغابرات. واضحاً ومنمق التقاسيم والملامح ذات العينين والضحكة والجبين المقطب دونما برم أو غضب يلاحقها في الشوارع والازقة وعند منعطفات الحدائق، هناك حيث تذهب كل ليلة محتشدة بأوجاع الذاكرة والمسافات التي لم تمشها قط!!
كيف لا يتوارى الشجن خلف غابة الشعور الكثيفة وهي تصنع له في كل يوم جداراً سميكاً من الأحلام والوجد!!
لقد اوشكت العاصفة ان تهب وهي لما تلملم بقيا ضفائرها الطويلة. أتاها كالعادة وادار مزراج باب قلبها وكالنسمة تسلل للداخل هكذا دونما استئذان. ضحكت وهي تُريه الماضي كله قابعاً خلف تلال احزانها، كان آتياً من هناك. من خلف غابات النهر الكثيفة. عاري الصدر، مفتول العضلات، ذات العينين، ذات الضحكة!! دائماً يضحك، لا بل يقهقه ويصوب النظر للأعلى دائماً وهو يتحدث، كأنما يوحي إليه بحديث سماوي عذب!!
«منذ زمان بعيد والحنين ينمو في احشائي يا فاطمة ويكتسح اعضائي كلها والروح متسربلة بثوب عشقك الخرافي وانت ملاك يزداد بهاءً ولا يكاد يحترق بنار عاشقيه أبداً».
تذكرُ ذلك جيداً وتذكر ايغاله في النهر صوب الشمال حيث كان يعمل اجيراً في احدى المراكب الشراعية، يؤوب من تسفاره الطويل بعد شهور أو أعوام وهو يشرع ذات الضحكات المموسقات والحنين الذي لا يخبو ابداً.
«في طريق العودة نبحر ضد رغبات التيار ونصادف جزراً ملأى بالعشب والنباتات والحنين يا فاطمة ينمو مثل شئ فظيع».
كانت في نحو العشرين أما هو فقد غادر عتبة الثلاثين بقليل تسلقا معاً شجرة الحب العاتية واستسلما للشجن والحنين مثلما استسلمت الجزر الصغيرة للنهر.
في صباح شتائي كسول وكانت الاشجار طالعة من متاهة الرياح الشتوية القاسية. حدَّثت أترابها بذلك وكن قرب النهر يتراشقن بالماء والضحكات، لمحن كل شئ في عينيها قبل ان تبوح بكل شئ، ولم يخفين حسدهن على جمالها، وطاقة الحب الهائلة التي انبجست من رحيق روحها. تروح وتغدو، وتتصيدها الأعين اللصيصة، ويصرخ الجميع - البنت تكبر وتكبر!!
اشتعلت الحكاية في كل البلاد وهما لا يكترثان إلا لألق الحب الذي نشب بينهما في عنفوان غريب.
* * *
وقف يتطلع إليها وقد فغر فاه، كأنها القمر يتفتق بدراً بعد أن كان متوارياً خلف سحابة. هذه الليلة الأولى وسوف يتم الامر. قال لنفسه «السعادة! إنها السعادة تحاصرني الآن من الجهات جميعها، ليس هناك من أحد عساه أسعدُ مني اليوم».
دنا منها ورائحة العطر تملأ المكان، كفراشة تلقى بنفسها في الرحيق وقعة واحدة.
- فاطمة لا اصدق اننا قد صرنا زوجين!!
لا تنبجس شفتاها بالكلمات لكن قلبها كان يقول كل شئ
- الآن قد صار للحنين مرفأ يا فاطمة!
توارت الكلمات خلف حجب الذاكرة الكثيف، صارت تلك الليلة زماناً كاملاً وسيطرت على كيانها بأكمله!
في الصباح التالي انتزع نفسه من بين احضانها وركب النهر في سفر لن يؤوب منه البتة. ستبقى ذكراه فقط ورائحة العشب والمواعيد الكسولة.
كانت تخرج في كل يوم أوان عودة المراكب الشراعية المهاجرة وتنتظر عند حافة النهر.. تأتي مراكب صيد كثيرة كتلك التي كان يعمل بها، ولا أخبار عنه البتة. تظل هكذا تسائل الصيادين والمراكب والأفق البعيد، هكذا حتى عاد المركب ذات ظهيرة حارقة من سفره البعيد.
انزل الحمالون حمولة السمك وبدا الصياد العجوز وحيداً يحدق فيها وعينياه تفيضان بالدمع. ادركت انه قد مضى وحيداً في سفر لا نهاية له.
قال الصياد العجوز:
- اعتورتنا رياح قاسية ونحن نطارد سرباً من السمك ثم.... قاومنا وكان التيار عنيفاً والامواج عاتية جداً.. لقد اطاحت بالمركب. ثم.... كان يتحدث بصوت مبحوح متقطع، بعد برهة اخرج لفافة من التبغ لكنه لم يشعلها ثم حملق فيها ووجهه صلداً مثل تضاريس الجبال.
- كانت رياحاً قاسية!!
سقط قلبها بين يديها وهي تصغي للعجوز وتواصل تحديقها في النهر.
- حين هدأت العاصفة، بحث الرجال عن زوجك ولكن لا فائدة. لقد ظلوا يواصلون الغطس لايام عديدة بحثاً عن الجثة دون ان يعثروا على شئ!
تأوه آهة طويلة وقال:-
- كأنما الريح جاءت فقط لتأخذه معها!!
الأيام والشهور تنسرب من بين فرجات الزمن الكبير وهي تندس بين الحقول كل مساء وتقف هناك وحيدة ترنو لغابة الشجر خلف النهر، تبحلق في اللا شئ.
ومع مسيرة الأيام يلحظ الآخرون تكور أحشائها.
- في الطريق قادم فأفسح أيها الحزن له مجالاً!!
جاءها المخاض وأخبرتها القابلة بأنها لا تزال صغيرة ولذلك فهي مرتعدة الفرائص وخائفة كما يحدث لنساء كثيرات عند أول عهدهن بالولادة.
اشعلوا قنديلاً زيتياً وجاءت النسوة يشددن من ازرها ويطلقن الزغاريد وهي تستسلم للآهات والآلام! في الثلث الاخير من الليل وعند ذات الوقت الذي كانت تخرج فيه لتمارس عادة الإنتظار استطاعت القابلة ان تستل الجنين من احشائها.
كالبدر تماماً!!
ثمرة اللقاء الكوني الذي تم في تلك الليلة المباركة قال الجميع:-
- يشبه أباه الخالق.. الناطق!!
وردد آخرون:-
- نسميه سالم على اسم جده يا فاطمة!!
تبكي وتهوم ببصرها في فضاء بعيد..
* * *
تراه يكبر يوماً بعد آخر يخطر في مشيته وهو يقهقه، ذات القهقهات المموسقات والعينين الضاحكتين.
كأن الماضي يولد من جديد ويبدأ من نقطة بعيدة.. سحيقة الأمد. تتعجب كيف بذر فيها بذرة كهذه ومضى بعيداً. مسلماً نفسه للنهر وموغلاً في الغناء.
حين اشتد عوده، لم يستطع ان يقاوم اغراء النهر، جن جنونها واصابها هلع لا حد له.. صرخت فيه:-
- لقد التهم أباك يا ولد!!
لكنه كان عنيداً ومشاكساً. اتفق مع صيادين آخرين على ان يصحبهم في رحلاتهم مقابل أجر لا يكاد يقيم أوداً وهكذا انسرب مع تيار النهر شمالاً في صباح يوم غائم وصرخاتها لا تكاد تثنيه عن ذلك واخيراً اذعنت للأمر تاركة نفسها نهباً للهواجس والذكريات المؤلمة وإدمان الانتظار الذي لن ينتهي أبداً.. أبداً.
|