نام الخالدي و ماتت الخرطوم ..!
زمن ملعون ,كأنه برطوش مرقع و دنيا لا تبتسم . أفيء الي حضن صوت دافيء يخصني وحدي . في أيام الصيف القائظة أقطع قلب الخرطوم -راجلا-في أغلب الاحوال من عند صينية كاتارينا مرورا بشارع السيد عبدالرحمن و حتي صينية القندول . لم أسموها القندول ؟ أي قندول كانوا يقصدون مع العلم انه لا يوجد قندول واحد أعلي تلك الساحة و لا يحزنون ,وحدهم المقاطيع و المشردون و الهوام يتسيدون المكان .لا ادري لماذا تمخر المركبات عباب المدينة حزينة في هذه اللحظة بالذات . السائقون مرهقون و ضجرون .الباعة يركبهم الهم و الكأبة ,طلبة المدارس يتناثرون علي امتداد الشارع كالوان مائية علي صفحة لوحة سريالية بينما موجة الحر المعتادة قد أخذت بتلابيب المدينة حتي فاحت روائح بول السابلة التي كانت تعطن الجدران الاسمنية المتهالكة و كان صوت الأذان ينطلق من الجامع الكبير مبحوحا و فاترا .
تلك الخرطوم و الوقت عصرا لكنها تبدو أيضا معصورة في حزنها و الامها عصرا و تخوم امدرمان تلوح من فوق الجسر الاسمنتي , الحافلة تئن من ثقل الركاب و لكنها تتجاسر علي الطريق .
النيل الابيض ليس أبيضا تماما لكنه مائل الي الزرقة .في أي شهر نحن ؟ هل فاض النيل ؟الضفاف ليست ممتلئة تماما و عند الفتيحاب تلمح الصبية يسبحون عند الشاطيء .احد الركاب جزم قائلا أن ثمة غريق البارحة لم يتمكن الناس من انتشال جثته الا عند الساعات الاولي من الفجر بفعل الرياح العاتية و الامواج الهادرة . و كان صوت مسجل الكاسيت ينطلق عذبا :
- سيرتي ليك كان تبقي سيرة
و تعرفي الايام كتيرة ..
يا حليل قلبي البريدك
و ديمة بحلم بي معادك
الله ما يوريك شقاوة
تلقي انتي الفي مرادك
الصوت يسبح في الفضاء . يغوص في النيل ثم يهدر مع رياح الصيف ثم ما يلبث ان يصعد أعلي ناصية القلب ليهبط بعدها مستقرا في الفؤاد . الخالدي .اه الخالدي . طالبت السائق أن يرفع صوت جهاز التسجيل ففعل بمنتهي الحبور كأنه كان ينتظر أحدا ما يحثه علي ذلك الفعل .
زي كانك ما عرفتي
ريدك ليك يا الحلوة انتي
ما حكيتو ليك قلتو
في عيوني براك شفتو
الا يظهر يا الاميرة زي عيوني عيون كتيرة ..
أتذكره في تلك الليالي النضرات . عند اضواء المسرح الكبير قبالة النيل و هو يصدح , علي خشبة نادي اتحاد طلاب جامعة الخرطوم , في حفلات التخرج , نادي الخرطوم جنوب و في أمكنة كثيرة ,سامق القامة و بهي الطلعة لكن محياه يكسوه الحزن . يبدو خجولا لكن في صوته جسارة , لا يبدو أنه يغني لكن يبدو أن موجة الحزن التي تركبه هي التي تصدح بالشجن , تلك النبرة المتكسرة و الموسيقي الصاخبة ليستا في عراك و لكنهما متصالحتان بفعل قانون الجاذبية الفنية . كنت مدمنا علي الصوت كأنما الطرب ما يزال حديث عهد بالكائنات و كان كل مقطع في أغنية للخالدي مرتبط عندي بذكري ما , بهجة ما ,نكسة ما و شجن ما . كنت كالدرويش في ساحة المولد حين تئن الطبول بالعشق . أرقص برجل واحدة , أزغرد و أقطع المسافة في انصاص الليالي بعد انتهاء حفل للخالدي (كداري ) نحو البيت و أنا ثمل بالغناء .
حين مات الخالدي كانت الخرطوم تنام باكرا كعاهدتها ,توصد شباك الليل و تغرق في (الهضربة ) فتلك مدينة جفتها الاحلام و تيبست فيها شجيرات الأمل فصارت كئيبة و غارقة في الظلام .
ماتت الخرطوم و نام الخالدي و ما زال حس عوده ينقر في قلبي حزينا :
كلما أقول ليك حني
بميعاد يوم يا الاميرة
بس تقولي ليا اصبر
باكر الايام كتيرة ...
معاوية محمد الحسن
الطائف / رنية
نوفمبر 2014
|