عبدالرحيم و المسحوقون الآخرون .
عبدالرحيم و المسحوقون الآخرون .
حي بيت المال من اقدم الاحياء في امدرمان و سكنه الشماليون من قبائل وسط السودان . و لم يكن هنالك اي تمثيل للقبائل من جنوب السودان او جبال النوبه الا في شكل خدم او بقايا الرقيق .
السكن كان علي نظام الحيشان التي يسكنها عدة عوائل من جد واحد مثل حوش حاج حمد او حوش ابو القاسم ، حوش نقد ، حوش النصري ، حوش البلك ، حوش سوركتي ، حوش جارنتوت ، حوش خال العيال ، حوش ابو جبل ، حوش البلك ، حوش المطبعجي ....الخ .
عبدالرحيم كان يكبرني بسنتين تقريبا و عرف في الحي بعبدالرحيم العب . كنت اراه في اغلب هذه الحيشان يعمل و يخدم و يترسل للطاحونه و لسوق الخضار و لتبليغ الاخبار و يجد الاساءه و الصفع و الركل في بعض الاحيان . و لكن اظن انه كان تابعا لحوش ابو القاسم .
كانت تقام ليالي سمر في الحي تتخللها تمثيليات و اسكتشات و نكات و الدخول لها بتعريفه . و اخر ليلة سمر شاهدتها كانت في حوش البلك و قدم فيها عبدالرحيم منلوج من تأليفه اسمه يا بت النور انا ما بنوم و عمره وقتها لا يتعدي الاحد عشر سنه . و بت النور هي زوجة الخال علي ابوالقاسم و هي من اسرة ال النور و منهم الشهيد بابكر النور .
عبدالرحيم كان يحمل اثر جرح كبير في الجزء الايسر من ذقنه و كان يبدو و كانه قد عاني كثيرا . و هو في حوالي التاسعه من عمره حضر الي منزلنا في حي الملازمين عائدا من المستشفي لانه كان مصابا بالرمد و ذهب الي الحمام و وضع فمه تحت الحنفيه . فاحضرت له والدتي ماءا مثلجا تردد في شربه و كانه غير مصدق . و تبسطت معه والدتي و طلبت منه ان يشد حيله و يكون قويا ثم اعطته قرشا و شرحت لي ان والدة عبدالرحيم ( الرحمه ) مشت مع رجال بطالين كتلوها و رموها جنب البحر .
و صار عبدالرحيم يحضر كثيرا الي منزلنا الا انه يصر عادة علي الشراب من الحنفيه . و لم يكن منطلقا و كانما هنالك شئ يكبله ، و ان لم ينقصه الذكاء و خفة الظل .
و بعد رجوعي من الجنوب و قبل بداية الدراسه في المدرسه الثانويه توفيت جدتي لامي و كان الفراش في حوش ابوالقاسم و شارك جميع اهل الحي رجالا و نساءا في المأتم . و كان اغلب الشباب يذهب للنوم في حوش حاج حمد المواجه لدكاكين الطاهر . و بالسؤال عن صديقي عبدالرحيم قال لي الخال طلحه ابوشقه و الذي يكبرنا قليلا في عمره ان عبدالرحيم في السجن فلقد حاول نقب دكان الشايقي و واصل ( و الله العب دقيناهو و كفتناهو لحدي ما ايدي وجعتني ، حتي ربطناه و وديناه البوليس ) .
و تحدث الجميع عن مساهمتهم في ضرب عبدالرحيم العب الذي كان يرش الماء علي الجدار لتسهيل عملية النقب . و لم يكن هنالك من تاسف او وجد عذرا لزميل الطفوله و الصبي الذي ترعرع و تربي بينهم . و وصفوه بالجحود و نكران الجميل . و لا ادري اي جميل يتحدثون عنه . فلم يكن مسموحا له بان يشرب بالكوز كالاخرين .
و لا يزال هنالك في شمال السودان ما يسمي بكوز الخدامين و كانما الخدام حيوان او كلب .
كنا نلعب الكره في ملكال مع ربيع مكي و شقيقه فاروق مع بعض صبيان فريق الجلابه و فاو النويراوي من بانتيو و جاك الشلكاوي و هم في عمرنا و يعملون كخدم في منزل الخاله فاطمه ابو القاسم و زوجه العم مكي والد ربيع و هو احد تجار بانتيو . و فاطمه من اسرة ابو القاسم اهلنا في بيت المال الذين كان يتبع لهم عبدالرحيم العب .
و بعد نهاية المباراة تناول فاو كوز المويه فصرخ ربيع ( يا فاو خلي قلة الادب ، داير تشرب بالكوز ؟ ) فامال فاو راسه و حاول ان يصب الماء في فمه من اعلي حتي لا يلامس فمه الكوز .
بعد مده حضر شقيق الخاله فاطمه الذي كان يعمل لشركة النظارات و الساعات في امدرمان المواجهه لاجزخانة امدرمان ، اعجب بفاو و ذكائه فاقترح اخذه الي امدرمان لان مرتبه في ملكال كان 50 قرشا اي 50 لفافة تبغ . و ذهب فاو الي امدرمان و انقطعت اخباره .
عيسي من ابناء قبيلة الباريا في جوبا ، حضر الي ملكال بحثا عن العمل . فاحضره الاخ مكاشفي عبدالرحمن كخادم لابنة عمه نجوي بخيت التي كانت رضيعه و هي ابنة خالتي و صارت زوجة ابن عمها بدرالدين عبدالرحمن الزراعي . عيسي و غزال صغير كانوا هدية مكاشفي لابنة عمه الصغيره . عيسي كان مرتبه في ملكال 40 قرشا و وعدوه 50 قرشا في امدرمان . و كانت جدتي زينب بت الحرم تقول له ( لا حوله ، زادوك ريال كامل !! ) و بعد فتره ساله عوض شمشوم صاحب المتجر و جار جدتي عن مرتبه ، و عندما ذكر له عيسي انه يتقاضي 50 قرشا ن قال له عوض ان المرتب في امدرمان للخادم في عمره لا يقل عن ثلاثه جنيه و نصف . فذهبت جدتي و تشاجرت مع عوض الذي تربطها علاقه دم باهله . اخر مره اقابل عيسي كان بعد 12 سنه من حضوره الي امدرمان و في اجازتي الاولي من تشيكوسلوفاكيا و كان نزيلا في مصحة حمد النيل للامراض الصدريه . و كان السل يفتك به .
|