نعي أليم - فيصل سعد في ذمة الله !!! عكــود

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > نــــــوافــــــــــــــذ > إصــدارات جديــدة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 18-02-2012, 06:16 PM   #[1]
احمد سيداحمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية احمد سيداحمد
 
افتراضي طيور وقفص ....رواية صلاح الدين سر الختم

طيور وقفص



حورية مسكونة بالدهشة والحزن هى ، الف عام من الحنين والغموض وضياع الانسجة هو ، ضاع حبله السرى ذات صباح ما ، غاب عميقا مع جذور الشجر ، القمته ثديها فاستدار وتكور ثم تمدد فى الفراغات فأمسى غابة مجنونة مسكونة بالساحرات والنايات الحزينة .


لم يك يبحث عنها ، ولم تك تبحث عنه ، كانت تبحث عن شىء ما ،شئ لا تدرك كنهه ، ولكنها مشدودة نحوه بالف خيط وخيط ، مزيج من الظمأ والحاجة الى الدفء والفضول والغريزة المبهمة ، وحين اخرجته القابلة ذات صباح ماطر فى غرفة صغيرة متصدعة الجدران ولكنها تلتمع بالابيض دون الالوان ، انطلقت صرخته الاولى ولم يكف عن الصراخ حتى حين حملته اليد السمراء الحانية ، التقت عينا امه بعينيه فى ظمأ وحب وسكت الصراخ بغتة ، جالت العيون الصغيرة فى الوجه المتعب لامرأة فى نهاية الثلاثينات تذوقت بعد طول انتظار حلاوة الانجاب ووجه الملاك الصغيرالمحدق فيها فى فضول .


اما هى فلا تذكر ميلادها ، لا تربض فى ذاكرتها اى صورة من اى نوع لملامح أم ، لا تعرف حتى كيف انها حملت الاسم وامتلكت شهادة الميلاد ، قالت ذات مساء ما وهى تحدق فى النهر المتمدد كشبح غامض امامها (كل الناس يمتلكون بشكل او اخر فى زوايا الذاكرة صورة دار ما ، وجه أم ، صوت أب قوى النبرات ، ضجيج اخوة ما ، احداث تنطبع بالذاكرة فتجلب الرضا او الشجن ، اما انا فلا شىء سوى الفراغ ، الفجوة الغامضة ، الصمت ، الوجوه المحايدة كجدار ما لا يهمه من يستند عليه فى شىء ، واذا ضاق به لا يتوانى عن الانهيار به او عليه ليتخلص من عبئه دون ان يكترث لما يحيق به ) كان كل شىء غامضا مشوشا ،مبهما ، ضيق الصدر ، حتى الشوارع التى هربت اليها منهم كانت اشد قسوة ، اكثر صمتا وحيادا واكثر ضيقا بخطواتى المضطربة واسئلتى التى تنطلق فى الفضاء ولا مجيب .


غابت الحقيقة فى جدار الصمت ، تبعثرت كذرات رمال تذروها الرياح كيفما اتفق وهيهات ان تتجمع ثانية كما كانت ،وتعود من دهاليزها الى عالمك ، يأتى الصدى وأنت !! ماذا بقى منك ؟ ولك ؟ ماذا بقى سوى وجه أمك وهو يشحب بغتة ، اليد تتراخى وهى ممدودة نحوك ، صراخ القابلة ، اكتظاظ الغرفة الصغيرة بالبشر، اليد السمراء التى ترتفع وسط زحام من اكتظت به الغرفة الصغيرة ترتفع وتغيب حتى غابت الى الابد .ثم السكون ، السكون الشامل ، لا شىء آخر فى الذاكرة .


كما يلتقى قطاران ارهقهما سفر طويل فى محطة غريبة التقيتما ، لم تتوقف عندها طويلا ولم تتوقف عندك .أخذت هي رغيفاساخنا من ذات البائع العجوز في المحطة، توقفت عنده طويلا وحادثته في مودة حتي سري في جسده العليل بعض من فوران الشباب، وحين استدارت ومضت والبائع العجوز لايزال مبتسما لطيفها وهو يتلاشي،في تلك اللحظة ساقتك اقدامك للتوقف عند ذات البائع والتوقف عند الابتسامة الموجهة الي المجهول التي تكسو وجهه، ربما رأيت في عينيه شيئا منها،اشتريت منه أرغفةوجاذبته اطراف الحديث بمودة كأنه صديق قديم، اتسعت الابتسامة علي وجه الرجل وقال بلا مناسبة( انها تشبه شيئا واحدا فقط ، الملاك)، قلت له في دهشة(من هي؟)، نظر العجوز في وجهك باشفاق ثم اشار بسبابته الي البعيد ، في اتجاه اشارته لم يكن هناك سوي سماء زرقاء ممتدة ورصيف لاضجيج فيه ، رشفت رشفة من شاي متصاعدة ابخرته في تلذذ وقلت لنفسك (لابد ان العجوز به مس ما،هكذا تفعل الايام بالناس ..مسكين.) أردت ان تعابثه قليلا فقلت له بخبث واضح(لابد ان شعرها كان طويلا ، يتسلقه الاطفال ليصطادوا النجوم ، اليس كذلك؟) نظر العجوز اليك طويلا قبل ان يتمتم ببطء:انها لاتمشي ، انها تطير عاليا، لاتنظر الي الشارع ، انظر الي السماء، الا تري ؟) رفعت رأسك صوب السماء، لم يك بها شئ سوي سحابة خالطت زرقتها نتف بيضاء صغيرة كلوزات قطن كانت تتحرك ببطء حتي تغيب في جوف السحابة، وبعد هنيهة تبرز من جديد كطفل شقي يمارس لعبة أثيرة مع رفاقه ، ويأتي صوتها: قلت لجدتي (أين أمي يا جدتي، لماذا لايأتي ابي أبدا؟ ولماذا يغضب جدي حين يراني ؟ولماذا تتهامس النسوة بصوت خفيض ؟) قالت جدتي وهي تعبث بضفائري في حنان (انهم لايفهمون يا صغيرتي، جميعهم لايفهمون ان الاطفال لايخطئون، الاطفال ملائكة والملائكة لاتعذب، قلت ذلك كثيرا لهم جميعا لكنهم لايفهمون ولايريدون ذلك ابدا)قلت لها بصوت باك( حتي انا يا جدتي لا افهم ما تقولين) قالت بهدوء(لاعليك ، غدا تفهمين، الا تريدين ان احكي لك قصة الاميرة والعسل المسحور؟) قلت بحماس( أريد يا جدتي ، أريد.) تتذكر كيف كان اللقاء جيدا ، كانت رواية ما تقبض عليها يدك كأم تقبض على وليدها الاول ، كانت الرواية هى الجسر الذى عبرت فوقه هى الى عالمك وعبرت فوقه أنت فيما بعد الى سمائها الحزين ، كنت غائبا عما حولك تماما كما هو شأنك دائما حين تقع يدك على كتاب ما ، بغتة رن فى داخلك جرس ما ، قفزت أعينها الصغيرة عبر الغلاف واخترقته فى فضول لامسته غريزتك بعمق ، طويت الكتاب ، فقفزت هي الى الوراء كمن تلقى صفعة لتوه ، غابت فى مقعدها فى خفر وتشاغلت بالنظر عبر النافذة الى المجهول يبدو ان ابتسامة ما ارتسمت على وجهك فانكشف الثغر الصغير عن صفين من اللؤلؤ واتسعت الابتسامة على وجهها ، مددت يدك بالرواية ، اعتذرت فى لباقة وانفرج الثغر ثانية (عذرا عندما تنتهى يمكنك ان تعيرنى اياها ... انا حقا اسفة لم اقصد مقاطعتك) ازدادت الابتسامة على وجهك واليد لا تزال ممدودة وانت تقول : لا داع للاسف فقد قرأتها للمرة العاشرة ربما . اتسعت الابتسامة على وجهها فى ود ظاهر وتناولت الرواية فى صمت ، وعاد السكون من جديد ، لكن بداخلك اشتعل حريق ما ، خالستها النظر مرات عديدة وهى غائبة فى العالم الذى خرجت منه لتوها ، كانت الريح تعبث بخصلات شعرها فى شقاوة فتمتد اليد الصغيرة بعفوية لتصلح ما افسدته الريح ،كنت تتساءل فى اللحظة ذاتها (أتراها هى التى لا تمشى بل تطير) هل يمكن ان تكون هى ؟

يبدو ان تحديقك طال هذه المرة فارتفع الوجه الصغير اليك مرة واحدة ، الابتسامة اكثر اتساعا ودفئا ، لا تسؤل ولا استنكار على الوجه كما تفعل النسوة عادة فى المواقف المشابهة ، فتمالكت نفسك سريعا ولكن الكلمات لم تخرج من حلقك ، بقيت هناك كشىء عالق يأبى الخروج ابدا جاءك صوتها تلقائيا وعفويا طازجا كالحليب : (احب نجيب محفوظ كثيرا خاصة هذه الرواية ، تسحرنى شخصية (نفيسة) الى حد اننى ارغب فى لقائها وتقبيلها . )



صلاح الدين سر الختم علي



التعديل الأخير تم بواسطة احمد سيداحمد ; 18-02-2012 الساعة 06:25 PM.
التوقيع:
من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع اﻵخرين إنه ﻻ يستطيع أن يكره ، وﻻ يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، ولكنه أبداً ﻻ يفكّر في أن يطلق رصاصة . وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس.
د.مصطفى محمود
احمد سيداحمد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 18-02-2012, 06:26 PM   #[2]
احمد سيداحمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية احمد سيداحمد
 
افتراضي

2


فتحت فاهك فى دهشة واضحة ... تمتمت بصوت غريب : (قرأتها من قبل اذن ياللغرابة !!) امسكت قبل ان تكمل العبارة ، للمرة الاولى بدأ على الوجه الملائكى تساؤل باد فازداد اضطرابك اكثر ، تصبب عرقك غزيرا ، لم تعرف ما تقول ، ماذا تقول لها ، هل تقول لها انك حسبتها مجرد مسافرة ضاقت بطول الرحلة واردت ان تتسلى بشىء ما وانك تستكثر عليها ان تكون محبة لنجيب محفوظ وقارئة له مثلك ؟ يبدو انها ادركت ما انت فيه من حيرة ، فمدت يدها الى النافذة زادتها اتساعا فتطايرت خصلات شعرها اكثر مع الريح المندفعة ، سوتها وهى تبتسم وقالت فى هدؤ : (لا مشكلة انا ايضا حسبتك تقتل الوقت وتبدد وحشة السفر ليس الا ) وضحكتما سويا كصديقين قديمين ، ولم تتوقف عن الضحك الا عندما استدار رأس الرجل الذى امامك والتقت عيناه بعينيك فماتت الضحكة رويدا رويدا حتى ارتد الصمت لموضعه من جديد .


كانت الحافلة تئن على الاسفلت فى دروب موحشة وهى تقطع المسافات فى حزم وكنتما تقطعان مسافات اخرى، تسابق كلماتها الزمن والاطارات ، استراحت الرواية بينكما فى سكون تماما كمفتاح دار القاه اصحابه كيفما اتفق بعد ان ولجوا الدار ، كانت تستجمع افكارها وحياتها شظية شظية وترويها لك بانفاس لاهثة فتلتقط الحديث ، تجول فى ذاكرتك البخيلة تستحضر الاحداث والاسماء وتحشدها امامها كانك تعرض شريطا سينمائيا مهترئا فى دار عرض خربه ، صار ذهنك المشوش صافيا ... انهمرت الكلمات كالطلقات متتابعة ملتمعة تحت وهج غريب لا تدرى من اين يأتى... داهمك خوف مفاجىء وقد لاحت عبر النافذة ملامح المدينة على البعد ، قلت لها بصوت حزين : (سرعان ما تنتهى الرحلة ونفترق ،غريبين كما التقينا نغيب فى زحام البشر) لم تقل شيئا ، تشاغلت بصفحات الرواية فى صمت ... الاسفلت يتمدد امامك كظهر حية ضخمة تتلوى فى خيلاء ، اعمدة الكهرباء على جانبى الطريق تختفى على عجل ، الوجوم على وجهيكما ، الكلمات عصية ، ظمأ مفاجىء يعتريك ، وهن يشع فى جسدك النحيل ، جاء صوتها واهنا وضعيفا : (ربما نلتقى ثانية ... من يدرى ) وجاء الصوت من اعماقك قويا : (لكن الصدفة لا تتكرر ابدا ... احتاج رؤيتك ثانية ، ارجوك لا تفلتينى ثانية للزحام) استدار الرجل ثانية ، رأيت فى عينيه استنكار باد ، لم تكترث،واجهت نظراته بثبات هذه المرة ، حان دوره ليدير وجهه الى الجهة الاخرى ففعل ، لكنه عاود الالتفات ثانية قبل ان تفتح فاهك ، فنظرت اليه بفروغ صبر وعداء ظاهر ، فأدار وجهه ثانية على عجل ولم يلتفت بعدها ابدا .

توقففت الحافلة اخيرا ، لم يكن لديك متاع تحمله سوى الرواية ، لم يكن لديها ما تحمله سوى حقيبة صغيرة ومظروف منتفخ الاوداج بالاوراق ، كان الوداع قصير جدا ، تبادلتما العناوين، ارقام التليفونات ، قبضت على حقيبتها فى حزم وغابت فى الزحام فى صمت ، قبل ان تغيب تماما استدارت كما توقعت تماما لوحت بيدها الصغيرة ، انتصبت على امشاط قدميك ملوحا لها ، ثم لم تبق امام ناظريك سوى ارتال البشر وفى اذنيك الا ابواق السيارات وضجيج الباعة المتجولين ، ومضيت تشق طريقك وصوتها يتمدد فى دواخلك مع الشهيق والزفير فيعلو على كل الاصوات ، صارت الشمس لطيفة لا تؤذى احدا ، خفتت مكبرات الصوت المنبعثة من اكشاك المرطبات المنتشرة حواليك ، ضجيج الباعة سكن تماما ، صار الناس يمشون حواليك بلا خطوات ويتحدثون بلا صوت ، صوتها وحده يهدر فى دواخلك : (دارت عجلات الزمان ، صارت الطفلة التى كنت ، فتاة فارعة الطول ، قليلة الاسئلة كثيرة الصمت ،غابت جدتى الى الابد ، بقى سريرها الخشبى ذو الاقدام العالية منتصبا حيث كان فى حياتها كعرش ما لملكة من ملوك الاساطير ، ضاعت حكاياتها الجميلة وراء السنين وخلف زحام الماضى ، لم تبق منها الا حكاية واحدة لم يكن بمقدورى ابدا نسيانها او تناسيها ، حكايتى انا ، وحكاية امى ، وجور ابى والزمان عليها ، كانت الاسئلة تعذبنى ، ولا ملاذ سوى جدتى ، كان وجه ابى المحايد الجامد كصخرة يقف بينى وبين اسئلتى ، تموت الكلمات فى شفتى واركض بعيدا الى حيث جدتى ، وحين اكثرت عليها الاسئلة التمع وجهها الصغير ولمعت عيونها التى ظلت محتفظة بذلك البريق الاخاذ حتى اخر يوم فى حياتها الطويلة الحافلة ، قالت لى بصوت خفيض : (هل قرأت سورة مريم؟) قلت ببراءة : (لا يا جدتى ، لماذا ؟) صمتت طويلا ، ادارت ظهرها لى ، وساد صمت طويل ، اخذتنى فى صدرها فى حنو ، انشأت تنشد نشيدا عذبا لم اسمعه من قبل قط ، لم تتوقف عن الانشاد حتى داهمنى الكرى وغبت فى ثبات عميق .



التوقيع:
من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع اﻵخرين إنه ﻻ يستطيع أن يكره ، وﻻ يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، ولكنه أبداً ﻻ يفكّر في أن يطلق رصاصة . وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس.
د.مصطفى محمود
احمد سيداحمد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 18-02-2012, 06:29 PM   #[3]
احمد سيداحمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية احمد سيداحمد
 
افتراضي

3


ذات يوم كانت جدتى عليلة جدا ، كانت ترتعد من الحمى منذ الصباح الباكر ، وعندما ازفت الشمس نحو الغروب اشتدت عليها الوطأة ، امسى سعالها جافا ومشروخا ، كنت مشغولة بعيدا عنها فى باحة الدار حين سمعت النداء خافتا وملحاحا ، هرولت صوبها على عجل ، التمعت العيون الصغيرة فى سعادة ، مررت يدها المعروقة على شعرى فى رفق وبدأت الحديث بانفاس لاهثة (كنت اخشى يا صغيرتى ان يأخذ الرب وديعته قبل ان اسلمك وديعتك) ، ثم انتابتها نوبة سعال حادة ومتصلة ، ناولتها كوبا من الماء اجترعته ببطء ، قلت لها يا جدتى لا تجهدى نفسك ، ما تحتاجين هو الراحة ، ابتسمت وقالت بصوت واهن : (هذه الدنيا لا راحة فيها ابدا يا صغيرتى، تعالى ، اقتربى لا وقت لدينا ، تعالى هل ترين ذلك الصندوق الصغير تحت سريرى ؟ قلت نعم أراه يا جدتى ، قالت احضريه الى هنا ...) كان فى صوتها رنة غريبة آمرة ، مسيطرة ، وغامضة فى الوقت نفسه ،فوجدت نفسى اتحرك تلقائيا الى حيث اشارت ، كان صندوقا صغيرا يشبه تلك الحصالات الصغيرة التى كنا نلهو بها فى صغرنا ، وكان من طول ما بقى مكانه ذلك يحسبه المرء مغروسا هناك ، نفضت عنه غباره وانا امده اليها بأياد مضطربة وعيون متسائلة ، سحبت جدتى الشراعة الخشبية فانفتح الصندوق الصغير ، هناك فى قاعه لم يكن شىء كثير ، حجاب صغير مصنوع من الجلد وجواره محفظة جلدية قديمة اهترأ جدارها وبدا كأنها هناك منذ عشرات السنين ، مدت جدتى يدا مرتعشة ، تناولت الحجاب الصغير ،فردته بين ايديها ، كان يتدلى منه خيط صغير ليعلق بواسطته على الذراع او الرقبة ، قربتنى منها وفى اللحظة التالية كان الحجاب يتدلى على صدرى كأنه كان هناك اصلا ، كأنه صنع لاجلى ، نظرت الى جدتى فى دهشة فلم تلق بالا لى ، كانت مشغولة بالمحفظة الجلدية القديمة التى امسكت بها فى حزم بين يديها واخذت تجول باصابعها المرتجفة فيها كمن يبحث عن شىء ما ، طال البحث قليلا وانتشر قلق غامر على وجهها ثم توقفت يدها بغتة ، التمعت العيون الصغيرة ، تهلل وجهها ، خرجت يدها حاملة ورقة صغيرة ، نظرت اليها طويلا ، ثم مدتها نحوى فى صمت ، ترددت طويلا قبل ان امد يدى لاخذها ، شىء ما فى داخلى كان يقول لى ان تلك الورقة الصغيرة جدا يكمن خلفها شىء يفوقها كثيرا ، لم يخب ظنى قط فيما بعد ، امتدت يدى ، تناولت الورقة الصغيرة ، فردتها ، كان بها ثمة كتابة ما بحروف صغيرة ،كلمات قليلة متباعدة خطت على عجل : (لا تصدقى احدا،لا تصدقى احدا ، أمك .) لم افهم شيئا فى البدء ثم التمع الخاطر سريعا ، هل يمكن ؟ لا ، مستحيل ، لم لا ، سرت فى جسدى قشعريرة شديدة ، ارتعشت يدى الممسكة بالورقة بشكل ظاهر حتى كادت تفلتها ، لكن جدتى امسكت بيدى وضمتها على الورقة فى حزم ، كانت يدها قطعة ملتهبة من الجمر ، ازداد ارتعاشى ، نظرت الى جدتى فى ضراعة ، كانت العيون ملتمعة بشكل غريب ، الدمعة تترقرق كأنها تطلب إذنا بالدخول ، قلت لها هل هى ؟ لم تدعنى اكمل ، هزت رأسها فى سكون ولفنا صمت طويل ، فتحت يدى فى بطء ، نظرت الى الورقة وكلماتها المتباعدة ثانية كأننى اراها لاول مرة ثم غبت فى صدر جدتى واخذنا نرتج سويا فى نشيج مر ، وجاء صوت جدتى من اغوار بعيدة : نعم يا صغيرتى كانت تلك اخر ما خطته يد امك من كلمات ، وكان ذلك اخر عهدنا بها جميعا ، كانت حزينة كغزال جريح تذرع الغرفة حيث كنت تقفين قبل هنيهة جيئة وذهابا والدموع تتساقط كحبات البرد الابيض فى اواسط الخريف ، كانت مجروحة ،مهيضة الجناح ، وحيدة ، كنت ترقدين على هذا السرير ذاته فى هذا المكان ذاته نائمة فى وداعة كملاك صغير ، ظلت تكتب ثم تمزق ما كتبت ، تهرول نحوك تقبلك فى حنو دافق ، تزيح بيدها الغطاء عن وجهك تنظر اليك طويلا كمن يستنشق اخر انفاسه ثم تغطى وجهك وتعاود الكتابة والمجىء والرواح ، كان ينبغى ان افهم ، لكننى لم افعل ، لم افهم ابدا ، حسبتها ستغيب اياما قليلة لقلت لها بعد ان فرغت من الكتابة وسلمتنى حجابك الصغير وحقيبتها الجلدية وقبلتك واتجهت صوب الباب الخارجى فى خطى مترددة : الى اين تذهبين فى هذا الليل يا ابنتى ، الصباح رباح ، ان كان لابد خذى معك الصغيرة ، انتفضت فى ذعر وقالت لى (لا ، الصغيرة لا،الرياح فى الخارج شديدة ، هى ما سيبقى منى ، هى وحدها) وكمن يهرب من شىء ما كمن يخاف على نفسه من نفسه انطلقت وغابت فى الظلام قبل ان اقول شيئا واصطفق الباب خلفها مرة والى الابد ، واجهشت جدتى بالبكاء ، عندها اخذ الجسد الضئيل يرتعش بقوة وسرعة قلت لها :- (جدتى استحلفك بالله ، كفاك ، كفاك) لكنها لم تكن فى عالمى حينها ، كانت قد ولجت عوالم بعيدة ونائية ، جاء صوتها واهنا اكثر من ذى قبل وهى تقول (كان ينبغى ان افهم ان ادرك ان المرأة المقهورة يستوى عندها كل شىء والعدم ، كان ينبغى ان امنعها ، ان اواسيها بكلمة ما ، لكن يبدو ان الامواج التى دفعتها الى احضان المجهول جذبتنى معها بشكل او اخر ، هواجس ابيك اللعينة تملكتنى مثلما افترسته هو الاخر ، كان ثمة قنطرة ما لم استطع تجاوزها ، لذا وقفت اتفرج فى لا مبالاة على زهرة سحقتها الاقدام فى قسوة ، وعندما افقت كان الاوان قد فات ، كانت اللحظة التى يمكن ايقاف الصخرة فيها قد ذهبت الى الابد وانهار الجبل ، صعدت امك الى الاعلى بلا اجنحة وبقينا جميعا فى السفح نحاول عبثا ايقاف سيل الصخور المنهمرة الذى دحرجته ايدينا ذات يوم ) .



التوقيع:
من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع اﻵخرين إنه ﻻ يستطيع أن يكره ، وﻻ يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، ولكنه أبداً ﻻ يفكّر في أن يطلق رصاصة . وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس.
د.مصطفى محمود
احمد سيداحمد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 19-02-2012, 06:36 PM   #[4]
معتصم الطاهر
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية معتصم الطاهر
 
افتراضي

شوفوا الزول الأسمر دا ظالم روحو قدر شنو


و ظالمنا قدر هان ..



التوقيع:
أنــــا صف الحبايب فيك ..
و كـــــــــــل العاشقين خلفي
معتصم الطاهر غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 20-02-2012, 05:23 PM   #[5]
احمد سيداحمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية احمد سيداحمد
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة معتصم الطاهر مشاهدة المشاركة
شوفوا الزول الأسمر دا ظالم روحو قدر شنو


و ظالمنا قدر هان ..
باشنا الحبيب

سللامات

الرواية لمولانا صلاح سرالختم

رئيس الجهاز القضائي بكريمة

اخذت منه الاذن لنشر جزء من قصصه هنا

ووعدني بالتسجيل معنا
وذكر لي انه طلب العضوية من سنتين لكنه لم يجد اي استجابة

وشكراً



التوقيع:
من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع اﻵخرين إنه ﻻ يستطيع أن يكره ، وﻻ يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، ولكنه أبداً ﻻ يفكّر في أن يطلق رصاصة . وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس.
د.مصطفى محمود
احمد سيداحمد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 20-02-2012, 05:28 PM   #[6]
احمد سيداحمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية احمد سيداحمد
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صلاح الدين سر الختم علي مشاهدة المشاركة
4


قلت لها يا جدتى لا افهم شيئا البتة ، قالت ودموعها تنهمر بلا انقطاع : (صعب جدا ان تفهمى شيئا يا صغيرتى ، لكن الاوان قد آن لازيح عن صدرى هذا الحمل الثقيل ، لن اخفى شيئا ، كان ذلك زمان ، بعيد جدا ، كانت امك زهرة بنفسج وكان ابيك وعمك يدوران بلا كلل حول الزهرة ، عامان من الزمان يفصلان بينهما رجحا كفة ابيك على عمك ، زفت اليه فى حفل بهيج ، كان سعيدا كطفل بقدر سعادتها ، كانت امك لا تخفى حسرة بادية على عالم الدراسة الذى اجبرت على هجره ، تلك حسرة لم تفارقها ابدا وعبرت عنها دائما تلك العلاقة المستميتة بعالم الكتب والكتابة ، كانت تلك خيبتها الاولى مع ابيك الذى لم يخف ضيقه بشغفها بعالم لم يكن له ابدا ان يلجه او يقف عند اعتابه ، قلت له وانا الحظ ضيقه دون ان ادرى اى بذرة قد بذرت : (غدا يأتى الاطفال وتنسى يخفت احتجاجها مع الضجيج ،دع ذلك للايام ) لكن الاطفال لم يأتوا ، مضى عام ثم اخر،وتوالت الاعوام ، تحولت نظرات الناس الى شفقة والعبارات الرقيقة الى حرب مدببة تواجه ابيك وامك اينما حلا ، لم نترك بابا لم نطرقه ، عيادات الاطباء ، نصائح الشيوخ وبخراتهم ، ليالى الذكر وكل ما يخطر على البال ، ساد الوجوم الدار ، امسى وجه امك شاحبا مرهقا وصارت اكثر ميلا للصمت والانطواء ، صار ابيك اكثر عصبية واكثر ميلا للشجار لاتفه الاسباب ، ارتفع الهمس امسى مسموعا ، بدأ كل شىء يسير نحو ذروته المحتومة ويشى بأن إنفجارا وشيكا قادم لا محالة ولا ريب ، وفجأة حدثت المعجزة ، بعد سبعة اعوام كاملة اقبلتى يا صغيرتى ونزعت فتيل القنبلة ، صار ابوك ودودا لطيفا ، عاد لوجه امك البريق ، وتنفس اهل الدار جميعا الصعداء ، كان عمك الاكثر سعادة ، ربما لانه الوحيد الذى كان مؤمنا بأن المحنة الى زوال ، حتى حين اجتمعت العائلة ذات مساء بعيد ، وكانت امك ليلتها فى دار ابيها فى زيارة قصيرة ، يومها كان هناك صوت وحيد فى حقها معارضا فكرة طلاقها من ابيك وزواج ابيك عليها ، حتى حين انتهره جدك فى عصبية قائلا (متى كان الصبية امثالك يفهمون فى هذه الامور و يسمع لهم رأى) لم يتراجع عمك عن موقفه ، حينها كان ابيك حائرا يحدق فى عمك حينا ، وحينا اخر يحدق فى الارض فى سكون ، وثالثة الى السماء فى قنوط كأنه يستجدى رأيها .والحقيقة تقال ان عمك كان متميزا عنا فى موقفه حيال امك فى كل شىء ، فى الايام العصيبة حين كان يكفى ولوجها مكان ما ليسود صمت عابق بنظرات الاتهام والازدراء ، كان عمك وحده هو الذى يلقى تحية رقيقة ويفتعل حوارا ما ليبدد السكينة القاتلة ، كان ذلك يدهشنى دوما ، فاعزى نفسى قائلة لعل ذلك مرده ود قديم وعاطفة لم يكتب لها ان ترى النور ابدا ، واتذكر ذات مساء بعد حدوث المعجزة وقبل خروجك الى الوجود كنت سعيدة وكان عمك الى جوارى يحتسى قهوته الاثيرة ، قلت له ممازحة : لولاك لظلمنا الفتاة كثيرا ، كأنك ترى الغيب ، لو جاء ولدا اسميناه بأسمك ، اعدك بذلك ، ضحك بعمق ولم يقل شيئا .

ضجت الدار بالحياة من جديد وكما يتهيأ الناس للاعياد،لحدث ما ، كانت الدار كلها تتهيأ لاستقبال قدومك ، كنت اشياء كثير فى شىء واحد ، الحفيدة الاولى ، المطر القادم لارض ظمأى تشققت من طول الانتظار ، شهادة البعث الجديدة لامرأة عانت طويلا من البقاء فى الاركان المعتمة ، نهاية شك طويل عذب ابيك كثيرا ، ظنون قاتلة لرجل اتى من صلب اب واسرة اشتهرت فيما اشتهرت بشغفها اللامحدود بالتكاثر وحين زفت اليه امك النبأ فى خفر ، اطرق طويلا ثم اشتعل بالحياة ، اخذ يهزها فى جنون وينادى باعلى صوته ، وحين بلغناهما كان ابيك ساجدا فى مشهد جليل ، الدموع قد غسلت الوجه الطفولى بأكمله ، كانت امك واقفة هناك،ملاكا صغيرا لا يدرى ايبتسم ام يبكى ، الخدود قد توردت خجلا ، المآقى تترقرق فيها الدموع ، حتى جدك لم اره فى حياتى قط وهو يبكى ، ادار وجهه فى تلك الليلة نحو الحائط القريب وغافلته دمعة ما ، فاخرى حتى تبللت اللحية البيضاء بالدموع فهرول خارجا على عجل وصوت عصاه المضطربة وهى تدق على الارض ترن كناقوس ، اتذكر ذلك كأنه حدث البارحة ، لكن ما بعده ، ذلك الزلزال الهادر الذى عصف بكل شىء لا اذكره البتة ، لا اذكر كيف بدأ كيف تبدلت الاشياء كيف حطت تلك الروح الشريرة فى الدار واستوطنت ابيك ، تتقاطع الاحداث فى الذاكرة مبعثرة مسكونة بالفوضى والبدائية ، فى البدء كان الصمت ، كانت الخطوات المترنحة لابيك،وجهه الشاحب ، عيناه الزائغة النطرات ، غيابه الطويل ، ثم تلك المشاجرة العاصفة فى منتصف ليل حزين ، صوت عمك حادا يجلجل فيرتد الصدى انت صوت جدك آمرا وقويا ، لهاث ابيك ، النظرة فى عينيه ، صدر عمك يعلو وينخفض فى غيظ عظيم ، سؤال جدك المتكرر ، الصمت الطويل ، نوبة الهستيريا التى انتابت ابيك ، بكاؤه كالاطفال ، وجه امك الممتقع ، نظراتها المتنقلة بين الغريمين ونظراتها الى جدك وإلى ، وهرولتها بعيدا ، الصمت القاتل من جديد ، صوت نشيجها البعيد تحمله الريح ، إنفلات ابيك خارجا ، يد عمك وهى تهوى على المنضدة فى عصبية ، نافورة الدماء المتفجرة من يده ، صوت الباب الخارجى وهو يصطفق ، عواء كلب بعيد ،ثم صمت اشد ضراوة من ذى قبل عم الدار ، سكنها طويلا ولم يغادرها ثانية ابدا ، لم افهم شيئا فى البدء وليتنى لم افهم ابدا . ليت الافكار السوداء لم تنال منى قط ، لكن التربة كانت صالحة لتنبت فيها الافكار المريضة ، تماما كما كان ابيك كنا جميعا ، وكأن عرافة مشئومة اخترقت الصمت ووزعت علينا جميع كأسها المسموم فاحتسيناه جميعا فى بلاهة دون تردد ، دونما تفكير ، كان شيئا يفوق احتمال البشر ، لم نتحدث قط ، لكن الجحيم فتح ابوابه علينا دون ان يرمش له جفن ، شىء ما فى داخلى تحجر ومات تماما ، بت ارى بعين واحدة واتحدث بلا لسان ، نصبت اعواد المشنقة فى صمت ، كنا جميعا نفتل حبلها حولها ودونما شعور بالذنب ، دونما تفكير حتى وكأن قوة خفية تمسك بالخيوط فى يدها فى الظلام وتقودنا وهى تبتسم الى الهاوية ، كنا نحكم الانشوطة فى برود دون ان ندرى اننا نحكمها حول رقابنا نحن وليس سوانا ، كانت هناك اكثر من فرصة للافاقة من ذلك لكن من وماذا بمقدوره ايقاف عجلات الاقدار حين تدور ؟

.................



التوقيع:
من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع اﻵخرين إنه ﻻ يستطيع أن يكره ، وﻻ يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، ولكنه أبداً ﻻ يفكّر في أن يطلق رصاصة . وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس.
د.مصطفى محمود
احمد سيداحمد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 20-02-2012, 05:29 PM   #[7]
احمد سيداحمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية احمد سيداحمد
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صلاح الدين سر الختم علي مشاهدة المشاركة
5
؟ اتذكر وجه عمك ... كلماته ... نظرة الذهول فى عينيه ، نبراته ترتفع وحاجباه يضيقان اكثر حين يجيبه الصمت (هل تصدقين هذا الجنون يا امى ؟ يجب ان تفعلى شيئا ، قولى شيئا ... اوقفى هذه المهزلة) طال صمتى ... علا صوته صار اكثر عصبية ، امسك بكتفى حتى المنى وهدر صوته فى اذنى ممتلئا بالقنوط وبشىء ما يشكنى كوخزة دبوس كلما ذكرته ...، امى ... هذا مستحيل ، انظرى فى عينى ، امى لا يمكن ان تصدقى هذا الهراء ... هذا جنون ... جنون ، الصوت يبتعد وهو يعلو هذا جنون ... جنون ، خطواته المترنحة ، اصطفاق الباب ... اهتزازى كمن تلقى صفعة حين رفعت وجهى لانظر اليه لم يكن امامى سوى باب موصد ورجع صدى .


لم يحتمل عمك غاب فى صمت ... رحل بعيدا دون ان يودعه احد ، غتبت ضحكته العابثة عن الدار وغاب فى جوف مدينة لم يقم بها طويلا وانقطعت اخباره بعدها تماما ، امسى ابيك شبحا صامتا يغادر الدار مع نسمات الفجر ولا يدرى احد متى يعود ، اغرق نفسه فى الارض كثور يدور فى ساقية بلا كلل ولا ملل ، فى ذلك العام كان حصاده وفيرا وصمته اوفر ، لم يكلم امك ابدا ، لم يكلمها احد البتة ، لكنها فهمت كل شىء ، محمرة العينين طول الوقت ، شاحبة الوجه ، شاردة الفكر ، وبالعيون استغاثة صامتة امست ، كانت تنظر الى طويلا ، تفتح فمها ، تهم ان تقول شيئا ، تغرورق العيون ، وعندما تتقدم نحوى ادير وجهى وامضى فى سكون يائس ، نشيجها المر خلف ظهرى ، تنتابنى لحظة ضعف ما ، اوشك ان استدير واحضنه بين ذراعى ، لكن قوة ما تنهض من داخلى كمارد ثائر وتدفعنى بعيدا على عجل .


فى هذا الصمت القاتل كنت تشرأبين للخروج يا صغيرتى ، كان كل شىء فى الدار يرفضك ويأبى قدومك ، حتى ابيك حين فاجأ المخاض امك التمعت عيناه فى غيظ عظيم ، دق الارض بقوة ، ثم هرول نحو الباب المفتوح واخذ يركض كالهارب من عدوى فتاكة ، كدت الحق به ، كنت بعيدة عن عتبة الباب حين دوى الصراخ حادا ومتصلا ، فتسمرت اقدامى برهة وفى اللحظة التالية كنت اركض صوبها بلا تفكير ، وحين وجدت نفسى بقربها ذاب كل شىء فى داخلى ... لم اعد ارى فيها سوى امرأة تتوجع وداخلها يضطرب بحياة تتشابى الى الدنيا فى شغف واصرار ، كانت اولى نسمات الفجر قد بدأت تهب حينما حملتك يداى لاول مرة وتعالى صراخك حادا مبددا للسكينة وارتسم على وجه امك هدؤ شامل لم يرتسم فوقه منذ شهور طويلة ، واتذكر ابتسامتها الصافية فى وجهك ، يدها وهى تمتد بك وعيونها ملتمعة بنظرات التحدى ، قلت فى سرى (يا للجرأة) واشحت بوجهى بعيدا ، واستيقظ كل شىء مجددا ،انتصب الجدار من جديد ، نظرت امك الى فى اسى ، ضمتك الى صدرها بقوة ، جاء صوتها واهنا : (حتى انت يا خالتى ؟ فليرحمنا الله جميعا ) ، لم التفت اليها ... بقيت معطية ظهرى اليها هكذا دون ان انبس بشىء ، ثم انفلت خارجة على عجل ن كان مراح ابيك عامرا بالشياه من كل شاكلة ولون ، وكذلك مراح جدك ، لكن امك وحدها هى التى اعطتك اسما ، اما ابيك فقد كان بعيدا ، جدك كان اكثر حكمة منا ، ذبح شاة وارسل يدعو الجيران كأن شيئا لم يكن وتلقينا التهانى فى صمت ... كانت امك فى غرفتها الصغيرة وحيدة لا يلمع وجهها الا حين يسألها الناس عن اسم المولودة ، فترد وقد تورد وجهها عافية فجأة (هبة ، هى هبة الله ، لذا اسميناها هبة) .


كانت امرأة من الفولاذ ، لم ار احدا فى صبرها وقوتها قط ، كان الفضوليون يسألون فى خبث عن ابيك ، فكانت ترد ببساطة دون ان يطرف لها جفن ان اعمالا مفاجئة اجبرته على السفر قبيل الولادة ولم يتسن له ان يعرف بقدومك ... حتى ابيها لم يعرف شيئا اكثر من ذلك ، لم تشكو له شيئا لا تلميحا ولا تصريحا ، قضى يوما معنا وفى اليوم التالى غادر سعيدا خالى البال ، لم يقدر له ان يعرف ابدا فى اى محرقة هادئة كانت تجلس امك وعلى وجهها تلك الابتسامة العذبة .

عندما نتذكر امك الان ونتذكر ذلك السلام الداخلى العجيب الذى كانت تتشح به ندرك جيدا حجم القبح الذى بداخلنا وترتفع اسوار القفص الذى وضعتنا فيه بصمتها النبيل مرة واحدة والى الابد وهيهات ان نخرج منه ابدا ... كان صمتها هو سلاحها الوحيد ، وما احده من سلاح وما امضاه ، خاصة بعد كل هذه السنوات من الغيبوبة التى انقشعت فجأة ووجدنا انفسنا امام الحقيقة البشعة ، حقيقة اننا ظلمناها جميعا ، وكأن الله اراد ان يعاقبنا من ذات جنس العمل ، فمثلما كان صوت عذابنا لها بطيئا وممتدا واتذكر الان ، كان ذلك بعد رحيلها بوقت قصير ، فارق الكرى عينى ، كانت تأتينى فى منامى كل ليلة دامعة العينين منتفخة الوجه تنظر الى فى صمت وضراعة ... لا تقول شيئا وفجأة يغيب وجهها يحل مكانه وجهك الطفولى البرىء وانت مجهشة بالبكاء بلا انقطاع ، اهب مفزوعة ، اتصبب عرقا فى الشتاء ولا انام بعدها ابدا حتى الصباح ، كانت تأتينى فى ثوب ابيض دائما ، مرة غارقة فى حفرة عميقة لا يبرز الا وجهها فقط ، ومرة اخرى طافية فوق النهر نصفها الاسفل فى الماء ، وجهها يعلو وينخفض مع الامواج ، يعلو وينخفض ولكنه لا يغيب فى الماء ابدا ، بدأت افكر تفكيرا مختلفا ، لاول مرة بزغ فى ذهنى التساؤل : هل يمكن ان تكون مظلومة ؟ هل تسرعنا ؟ لماذا صدقنا هواجس ابيك ؟ لماذا ؟ يتداخل وجه عمك فى هواجسى ، حزينا ممتلئا بالقنوط ، صوته يتداخل بينى وبين افكارى : (هذا جنون هذا جنون) ...
................



التعديل الأخير تم بواسطة احمد سيداحمد ; 02-03-2012 الساعة 04:17 PM.
التوقيع:
من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع اﻵخرين إنه ﻻ يستطيع أن يكره ، وﻻ يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، ولكنه أبداً ﻻ يفكّر في أن يطلق رصاصة . وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس.
د.مصطفى محمود
احمد سيداحمد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 20-02-2012, 05:29 PM   #[8]
احمد سيداحمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية احمد سيداحمد
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صلاح الدين سر الختم علي مشاهدة المشاركة
6
اتذكرهما ... عمك وابيك طفلين تكسو وجهيهما شقاوة بادية وهما يضحكان عند ضفة النهر وهما يتراشقان بالمياه فى تلذذ ، وهما يمتطيان حمارا واحدا فى طريق السوق ، وهما يركضان على عجل بحذاء بعضهما على اثر صوت صفارة القطار البعيدة ، وشيئا فشيئا بدأت شكوك اخرى تفترسنى بقسوة ، قلت لجدك ذات مساء ودون مناسبة : (اخشى ان نكون ظلمناها وظلمنا ابننا ، اخشى ان نكون قد تسرعنا ، اخشى ...) قاطعنى جدك بعصبية : (تقولين ذلك الان ؟ اللعنة على النساء ، لا يستقر بكن المقام على شىء ابدا ، اللعنة عليك وعلى اولادك الملاعين ، اللعنة على كل شىء) ، تناول عصاه وهب واقفا وانطلق لا يلوى على شىء ، تركنى مشدوهة وحدى اشتعل بداخلى الحريق اشد ضراوة مما كان فقد كنت اعرف جدك جيدا ، وهالني رد فعله ، لم يكن لثورته تلك سوى معنى واحد ، اننى لست وحدى التى بدأت تشك فيما كان واقعا لا يقبل الجدل ، اننى لست وحدى التى اتعذب وارى طيف امك الحزينة كل ليلة ، كان جدك يريد من يكذب له ظنونه ، من يقول له انها اضغاث وهم ، وان الحقيقة لها وجه واحد فقط ، ولكن تساؤلاتى زلزلت اخر ما تبقى له من سكينة ونسفت اخر اماله فى الوئام المفقود مع النفس ، كان وجودك وحده حريق من نوع اخر ، كان يكفى المرء ان ينظر فى عيونك الصغيرة وهى تبحث فى براءة عن وجه مفقود فيسيل الدمع انهارا وتنهمر الاسئلة فى الدواخل حارقة معذبة للروح ، كان يكفى ان تبكى مثل ما يبكى جميع الاطفال فترتسم الاحداث من جديد فى الذاكرة كأنها حدثت فى ذات الصباح وتلتمع الاسئلة (هل كنا على حق ؟ من المسئول عن هذا البكاء من المسئول عن الحيرة فى العيون الصغيرة؟) كان ابيك يهرول على صوت البكاء وحين يبلغ باب الغرفة يتوقف ، يتسمر هناك ، يروح ويجىء فى سكون ، يبتعد عن الباب ، يأتى صراخك فيهرول نحو الباب المفتوح ويغيب فى الظلام اياما ، اسابيع ، يتكرر المشهد .... ذات مرة لحقت به عند الباب قبل ان يغادر قلت له فى حزم : (كفاك هروبا ، يجب ان تضع حدا لكل هذا ) شحب وجهه اكثر ، اشاح بوجهه بعيدا ، قال دون ان يستدير (ماذا تريدين ان تقولى يا امى ؟) قلت له وانا اغالب دموعى : (انك ظلمتها كثيرا ، انت لم تر وجهها وهى تقبل ابنتها فى تلك الليلة ، لم تسمع صوتها ، لم تعذبك صورتها فى منامك مثلما تعذبنى ، ولم تر وجه اخيك وهو يغادر الدار، انت ...) قاطعنى بصوت حاد (كفاك يا امى ... كفاك) وهرول نحو الباب المفتوح ، لاحقته بصوت باك (لن اغفر لك ما حييت) لم يرد... انهارت اخر سدود مقاومتى وإنخرطت فى بكاء طويل ، غاب فى الظلام وبقى الباب مفتوحا والريح تولول فى الخارج كوحش حبيس ، كان ابيك من تلك الطينة من البشر التى تلعق جراحها فى صمت وتبخل على الاخرين بلحظات ضعفها البشرى ، كان منذ صغره عنيدا قليل الشكوى ، ينسكب حزنه الى الداخل لا يترك اثرا لتدركه العين ابدا ، كان من الصعب جدا على حتى انا ادرك متى هو سعيد ومتى هو حزين ، متى هو غاضب ومتى هو راض ، ومع الزمن ادركت انه لا يهرب من الحوار ومن الناس الا حين يكون ضعيفا وممزقا ، كان يشارك الناس لحظات القوة والفرح لكنه يقتل نفسه ولا يسمح لاحد كان ان يتطفل على حزنه ولحظات ضيقه ، كان محبا للحياة على طريقته هو ، محبا للناس ولكنه شحيح الاصدقاء ، ملولا لا يستقر على حال ، يتحمس لشخص ما فجأة ، وبذات السرعة ينطفىء الحماس ويفتر ويحل محل الود جفاء ونفور ، قلائل جدا اولئك الذين دامت علاقتهم معه طويلا ، وحين حدث ما حدث تبخرت حتى هذه الفئة القليلة وامسى أرنبا بريا لا يجيد سوى الركض بعيدا والتلفت فى قلق بعيون حزينة حزنا لا يخفى على احد .
............



التوقيع:
من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع اﻵخرين إنه ﻻ يستطيع أن يكره ، وﻻ يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، ولكنه أبداً ﻻ يفكّر في أن يطلق رصاصة . وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس.
د.مصطفى محمود
احمد سيداحمد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 02-03-2012, 03:12 PM   #[9]
احمد سيداحمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية احمد سيداحمد
 
افتراضي

7
وعلى النقيض تماما منه كان عمك ، باسم الثغر دائما ، خفيف الروح ذو دعابة حاضرة وشخصية قوية اسرة لطيفة وقدرة فريدة على اكتساب ود الاخرين ، كان حين يضحك يرتج جسده باكمله حتى تبلل خده الدموع ، وحين يبكى يعود طفلا غريرا ساذجا لا يعرف معنى الحياء او اخفاء المشاعر ، كان مزيجا غريبا من قلب الاسد فى قوته حين يتطلب الامر الثبات والجلد ، ورقيقا كالاطفال فى لحظات الحنين واندفاع المشاعر ، كان مباشرا وواضحا كصفحة النهر فى الاصيل ، وكان يجمع بين خصال متنافرة قلما تجتمع فى شخص واحد ، مثل ان يكون المرء محبوبا ومهابا فى الوقت نفسه ، رقيقا وحازما ، مباشرا وحكيما ، كان جدك يخصه بحب وفير ولا يكف عن التباهى به بمناسبة ودون مناسبة ، كان يقول دائما كلما يراه عبارة لا يكف عن تكرارها حتى صارت محفوظة لدى ظهرا عن قلب (عبدالله اخذ منك واخذ منى واخذ من ابى رغم انه لم يره ابدا ، اما ماذا اخذ منك وماذا اخذ منا فهذا ما لن اقوله ابدا فانت تعلمين ) كنت اضحك وانا انظر الى حبات البن واقلبها على مهل واقول : (اخذ منكم اجمل ما فيكم وحسنا ما فعل ، والا...) كان جدك يضحك ملء شدقيه ويقول : (انت لا تهزمين ابدا ... هكذا النساء ، لو اردن ان يجعلن الارض سماء والسماء ارضا لفعلن دون ان يهتز لهن جفن) ... كان ابوك وعمك احب ابناء جدك الى نفسه برغم انهما كانا الاخيرين فى سلسلة طويلة من الذرية التى تبعثرت مع الزمن ، ارتحلت البنات مع ازواجهن ، نشأ احفادنا بعيدين عنا وبعيدين عن بعضهم البعض ، المدن تقاسمت الذرية فى لهفة كما يتقاسم قادة منتصرين غنائم حرب وفيرة ويتنازعون فيها ، اما اكبر الابناء فلم يعمر طويلا رحل فى الصبا الباكر قبل ان يتزوج حتى مخلفا وراءه غصة فى الحلق وفراغا كبيرا لم يسده الا مجىء عمك وابيك بعد اربع فتيات، حمل ابناءهن ويعود الى الدار سكونها القاتل من جديد ويعود جدك الى التبرم والسكون (هكذا ولادة البنات ، تزرع ويحصد غيرك ، وتعود كما كنت فى البدء تنتظر المعجزة فى اواخر الخريف) ، تنتظر ابناء من صلبك واحفادا يحملون اسمك فلا يغيب الاسم حين تغيب ، وحين يئس جدك من حدوث المعجزة جاءت المعجزة معجزتان لا واحدة ، وكشجرة حراز ضخمة انتظرت الصيف طويلا لتخضر عاد الى جدك بريقه من جديد ومضى مختالا كطاوؤس بعد صيام طويل ، وكما يحدث للناس دائما حين يبلغون هدفا فيطمعون فى المذيد ، اخذ جدك يستعجل دورات الزمان ممنيا النفس ان تمتد الايام به حتى يحمل احفاده من صلب ابنائه ، كان فى سباق محموم مع الزمن واعتلال البدن ، وحين وقف على اعتاب الحلم حدث ما حدث وتبعثر الحلم شظايا .
وحين تسكن الحركة فى الدار وتغطين والنوم فى وداعة انظر اليك طويلا وانت نائمة اتسلل على اطراف اصابعى ، القمر يرقد على كثبان الرمال كعروس ليلة عرسها ، السماء مرصعة بنجوم ساطعة كعقد فريد يتلالا فى الظلمة ، انظر الى وجه جدك الساكن كظهر صخرة عند شط النهر ، تهتز المسبحة فى يده بعفوية ، متبادل النظر فى صمت ، صار الكلام عصيا بيننا فكل كلمة تفتح جرحا وسمر الليالى القديم بات سرابا لا مجال لبلوغه ابدا ، تطول الجلسة ويطول الصمت ، يؤذن المؤذن لصلاة العشاء ينهض جدك فى تكاسل ويمضى فى خطوات بطيئة ، يغيب قليلا ، كان قد ترك صلاة الجماعة منذ زمن ليس بالقصير ، كانت العلل قد اجتاحت البدن وجعلت الطريق اليها عصيا وكان جدك قد اعتزل الناس امدا ، كانت السجادة التى صنعتها يدى من السعف تتمدد وحيدة هناك ، يكبر جدك بصوت قوى لم تنل منه المحن ، كان صوته هو الشىء الوحيد الباقى من الايام الخوالى ، حين يستريح فى الصلاة فى خشوع استدير واغيب فى جوف الدار لاقوم باعداد العشاء ويعم السكون ، كنت اخاف الليل منذ صغرى ، لا احبه ابدا ، وعندما حدث ما حدث اتسعت الهوة بينى وبينه اكثر ، صار الليل وحشا خرافيا ، محرقة احترق فيه وحدى ، الكوابيس ، الوجوه الحزينة ، الاحساس بالذنب بشكل او اخر ، التفكير الذى لا نهاية له ، الصباح البعيد الذى لا يأتى ابدا ، وجهك البرء المنتصب بينى وبين فراشى كالغصة ، كحبال مشنقة بعيدة ، قلت لابيك ذات مرة : (والصغيرة ما ذنبها ؟) نظر اليك طويلا ، كان يرتعش كمن تجتاحه حمى ، ازدرد ريقه بصوت مسموع ، سمعت حشرجة خافتة تخرج كمن يهم بأن يقول شيئا ثم انتصب واقفا ، استدار فى صمت ومضى يترنح دون ان يقول شيئا ، اخذتك فى حضنى ، عيومك البريئة تخترقنى فى تسأؤل ، وانا امسح دموعى بكم ثوبى ، كنت اعرف جيدا حجم عذابه ، اعرف جيدا عمق ما بينه وبين اخيه ، اعر ف جيدا هول الجدار الذى انتصب بينه وبين ابيه وبين وجهك البرىء ،



التوقيع:
من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع اﻵخرين إنه ﻻ يستطيع أن يكره ، وﻻ يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، ولكنه أبداً ﻻ يفكّر في أن يطلق رصاصة . وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس.
د.مصطفى محمود
احمد سيداحمد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 02-03-2012, 03:14 PM   #[10]
احمد سيداحمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية احمد سيداحمد
 
افتراضي

8


، لم يقل لى شيئا ابدا ، كان الصمت جوابه الدائم ، لكننى كنت اعرف بشكل او اخر ما يمور فى اعماقه ، تلك النار التى اشتعلت فى صمت فى اعماقه ، تلك الحيرة القاتلة ، تلك الاصوات التى تأتى من المجهول فتعذبه ، ذلك الصوت الذى يقول : ( ربما ظلمتها ، ربما كنت مخطئا ) ثم الصدى الذى يأتى من بعيد : انها لم تقو على المواجهة فقط فاثرت الهروب ، هل من دليل اكثر من ذلك ؟ والصوت الهادر ، هى لم تهرب ، ان الحرب التى وجهتها الى قلبها الصغير اكبر من ان يحتملها بشر ، هذا ما حدث !!ثم صوت ثالث يهدر : بل هو هروب من مواجهة الحقيقة ، يجب ان تعترف بذلك ، كف عن التماس الاعذار لها ، وكنت افكر كثيرا واقول لنفسى ربما كان يرى انتصارها عليه فيك ، ربما تذكره عيونك الصغيرة بعيونها الحزينة ويصحو فيه ذاك الشىء فيعذبه ، ربما تنهض الهواجس القديمة من مرقدها وتفترسه حين يراك ، لذا لا يقوى على النظر اليك او الاقتراب منك ، ربما لكل هذا كان يبتعد عنك .


حتى رحيلها المباغت كان للحقيقة وجه واحد ، كنا نتعذب نعم ، ولكن اشك لم يكن واردا ابدا ، لم تكن الاشياء تهتز امام اعيننا ، لم يكن ذلك الشىء قد بدأ يتحرك فى الدواخل فيعذبها ، ربما كان الغموض الذى اكتنف مصيرها هو الذى جعل الاشياء تهتز ، ربما كان الغموض الذى اكتنف مصيرها هو الذى جعل الاشياء تهتز ، ربما كانت النظرة فى عينيها فى تلك اللحظة هى بذرة الشك التى لازمتنى ثم لازمتنا جميعا فيما بعد.


عند ضفة النهر وجدوا ثيابها مطوية فى عناية ، حتى ذلك الحذاء الصغير الذى اهداه ابيك لها ذات يوم ما قبل حدوث ما حدث ، كان هناك لكنها لم تكن هناك ، لم تطفو لها جثة ابدا ، لم يسمع عنها احد شيئا ابدا ، لم يرها احد حتى وهى تتجه نحو النهر فى جنح الليل ، لم نعرف ابدا ما حدث ، لكن صوتها ممتلئا ضراعة كان يرن فى اذنى قويا وحاسما وممتلئا بالشجن : (الصغيرة لا ، هى ما سيبقى منى ، هى ما سيبقى منى ...) ، كنت اتسلل الى النهر ، اجول فيه بعينى ، اود لو استنطق صفحة المياه الساكنة ، لو انها تقول ما حدث ، لو ان لها لسانا وشفتين ، انظر الى النخلة الباسقة فى الاعلى هنالك ، اقول لنفسى : (النخلة تعرف ايضا ، لكن كيف تقول ، كيف افهم هسيس جريدها ، ، كيف انظر هناك فى جوف ذاكرتها فأرى ما حدث فى تلك الليلة؟) ، وحين تطول الجلسة ويطول الصمت اتمتم بصوت واهن (فليرحمنا الله جميع) واعود ادراجى على مهل .


واتذكر وجه جدك لامك ، نظرات الاتهام فى عينيه ، صوته وهو يهدر فى الم : (ماذا فعلتم بابنتى ؟ ما ذا حدث ؟) ، كان الصمت الاجابة ، لم يكن فى مقدورنا ابدا ان نقول ما حدث ، حتى حين انهار باكيا كطفل ولم اعد احتمل ، واستجمعت اطراف شجاعتى ، قلت لنفسى سأقول له ، سأحكى له كل شىء ، حتى تلك الليلة وكلمات امك الاخيرة ، وحين اردت الكلام توقف الكلام فى حلقى ، بقيت الكلمات حبيسة هناك ، كأن قوة ما امسكت بها ، لم تخرج ابدا نهضت مبتعدة على عجل وانا اقول لنفسى : (وماذا يفيد ذلك ستزيدين حزنه ليس الا ، ستلطخين الصورة البيضاء فى عينيه ، الحزن يموت مع الايام ، لكن ما تحملين فى دواخلك لا يموت ابدا ابدا ) .


انقضت ايام العزاء ايام العزاء بطيئة ثقيلة على القلب ، قام جدك وابيك بما يقوم به الناس عادة فى مثل تلك المناسبات فى صمت ، تفرق الناس سريعا ، شىء واحد بقى فى ذاكرتى من تلك الايام ، لا لشىء الا لانه كان خارقا للمألوف ، لم يكن متوقعا على الاقل بالنسبة لى ، اراد جدك لامك اخذك معه ، لكن جدك ادهشنى حين قال فى هدوء وبنبرة حازمة لا تردد فيها : (هى ما تبقى لنا من المرحومة وستبقى هنا ، والدار مفتوحة لكم كما كانت دائما ، ترونها متى تشاءون) نظرت اليه فى دهشة ، فاشاح بوجهه بعيدا ، اخذ عصاه ومضى وكان ذلك كل شىء ، كانت تلك لعبة اخرى من لعبات القدر ، كان ابيك فى المجلس ذاته صامتا مطرقا إلا من نظرة حائرة ارتسمت على الوجه حين تحدث ابيه ، ولكن وجهه سرعان ما عاد كما كان محايدا خاليا من التعبير ، وعندما استعيد ذلك كله اليوم فى ذاكرتى اهمس لنفسى بصوت خافت : (كان يعلم ، كان يعلم بطريقة ما ان الامر ليس كذلك ، ولكنه لم يشأ ان يقول لى او لابيك انه لم يعد يشاطرنا الرأى) ، برغم بذلك لم يتح لجدك ان يعلم ابدا أن حدثه كان صادقا ، لم يقدر له ابدا ان يشهد ما انزلته السماء بنا من قصاص ماحق وما ازالته عن اعيننا من غشاوة ، رحل جدك يا صغيرتى فى صمت قبل ان تقع عينه على عمك ثانية ابدا ، كان فى ايامه الاخيرة حزينا شارد الفكر كثير الصلاة ، كثير الدعاء ، وكان حين يبلغ فى الدعاء خواتيم سورة البقرة تبلل وجهه الدموع بغزارة ويردد فى صوت مضطرب متهدج (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، واعف عنا واغفر لنا ، وارحمنا) ثم يصمت طويلا ، تسكن حركته تماما ، يبقى هناك كشبح غامض فى لوحة ما .



التوقيع:
من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع اﻵخرين إنه ﻻ يستطيع أن يكره ، وﻻ يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، ولكنه أبداً ﻻ يفكّر في أن يطلق رصاصة . وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس.
د.مصطفى محمود
احمد سيداحمد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 02-03-2012, 03:15 PM   #[11]
احمد سيداحمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية احمد سيداحمد
 
افتراضي

9
ذات مرة طالت جلسته تلك ، بدا لى انه لن ينهض ابدا ، ظللت اروح واجىء وافتعل ضجة متعمدة عسى ان ينتبه لوجودى لكنه بقى فى جلسته تلك كأنه غائب عما حوله ، فرغ صبرى ، وقفت امامه ، صرخت فى عصبية لماذا تفعل هذا بنفسك ، لماذا تعذبنى معك ، لقد طفح الكيل ، هل تسمعنى (مهما يكن اريد ان ارى ابنى قبل ان اموت ، اريد عبد الله ، مهما يكن) ، نظر فى عينى طويلا ثم نهض من مصلاته فى صمت واستدار وقال بصوت خفيض (عبد الله !! واين هو عبد الله ؟ ي الهى ماذا فعلنا ) مضى يترنح فى مشيته كنخلة تلعب بها الريح فى قسوة ، سال دمعى برغمى ، وغبت فى دوامة الاسى والهواجس ظن اسودت الدنيا فى وجهى ، صوت جدك يرن فى الفضاء حولى ، الوجوه المتعبة تلتمع فى الذاكرة كنجم شارد ، تختفى سريعا ، الحزن يعتصر قلبى ، رغبة مجنونة فى ان اصحو من هذا الكابوس ، رغبة يذوب عندها الخط الفاصل بين الايمان والقنوط من الرحمة ، الوجود والعد ، الريح تصفر فى ضراوة كأنها تتسلى برؤية تعاستى ، كان صراخك البعيد وحده الشىء الذى ينتمى الى هذا العالم فى تلك الليلة ، وحده فقط كان قادرا على انتزاعى من مكانى ذلك .
بعد ذلك فى ايام العزاء الموحشة كان ينتابنى امل غامض فى مجىء عبدالله ، كان قلبى يحدثنى انه سياتى ، من المجهول سيأتى ، من العدم سيأتى لكنه لم يـأت ابدا ، توارى الامل فى طيات الايام المسرعة ، باتت الايام اعواما ، تبدد الامل ، حل مكانه شىء اخر (يالهى هل اموت هكذا ظامئة عند ضفة النهر ؟ الظمأ يقتلنى يا ربى ، ظمأ طويل ، ليس الى رؤية ابنى فحسب ، بل ظمأ الى الحقيقة الضائعة خلف الغيوم ، الحقيقة التى لم يتسن لابيه ان يعرفها ابدا) وتنتابنى الهواجس : (ما شأن عبد الله بالحقيقة ؟ الحقيقة ذهبت معها الى المجهول ، الحقيقة التمعت فى تلك الليلة المشئومة وغابت سريعا ، كانت الغشاوة على العيون اكثر سمكا واقوى شكيمة من صوت قلبى ، من عيونى التى تعرف جيدا بعد ما يزيد عن الخمسين عاما فى هذه الحياة كيف تفرق بين نظرة مذنب ونظرة الاستغاثة فى عيون بريئة ، ليتنى صدقت حدثى وغريزتى ولم اقل لنفسى يومها انها لحظة ضعف ومشاعر شفقة لا مجال لها ... ليتنى ...!)
عشرة اعوام كاملة وانا تائهة بين شكى ويقينى وحسرتى وحنينى ، عشر اعوام كاملة والشمس تشرق وتغيب والحقول تخضر وتجدب والظلام فى داخلى مقيم يرفض الرحيل ، صوت امك ... نظراتها ...كلماتها الاخيرة ترن فى اذنى كناقوس ، وجه عمك وهو يصرخ فى الم (هذا جنون ... جنون)، النظرة الحائرة فى عينيك ، الاسئلة البريئة التى تعذبنى كل صباح ، صار وجه ابيك اخر ما ارغب فى رؤيته ، انتصب بيننا جدار من الصمت والوجوم ، بتنا غرباء ، اغديت عليك حنانى وامسى نصيبه نفور لم اعد اداريه ويبدو انه ادرك ما بداخلى ، فاصبح يتحاشنى هو الاخر ، تطول غيبته ، وحين يأتى الليل يتسلل فى هدؤ الى مرقده وبعد ان يلقى التحية من على البعد دون ان تلتقى نظراتنا .
كان وجه عبد الله يسامرنى فى صحوى ومنامى ، والحزن يعتصرنى ، الاسئلة لا تنقطع فى داحلى عن مصيره ، كان قلبى ينقبض ، تتوقف اللقمة فى حلقى حين يلتمع السؤال برغمى ، هل هو على قيد الحياة يا ترى ام انه ... ؟ كان مجرد اننى لن اراه ثانية يقتلنى ، يزلزلنى ويعصف باخر ما تبقى من تماسك .



التوقيع:
من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع اﻵخرين إنه ﻻ يستطيع أن يكره ، وﻻ يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، ولكنه أبداً ﻻ يفكّر في أن يطلق رصاصة . وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس.
د.مصطفى محمود
احمد سيداحمد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 02-03-2012, 03:16 PM   #[12]
احمد سيداحمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية احمد سيداحمد
 
افتراضي

10
كان نهارا قائظا من شهر يوليو والشمس ترسل شواظا من لهب ، الاشجار ساكنة لا تتمايل كأنها التماثيل ، الدار ساكنة ، وحيدة كنت تفترسنى افكارى السوداء ، غارقة فى نوم هنىء كنت انت ، صوت خطوات تقترب ، لم اكترث كثيرا ، اقتربت الخطوات ، رفعت رأسى فى هدؤ ، الجمتنى الدهشة ، بقيت الصرخة حبيسة ، مبهوتة ، ظللت انظر من مكانى دون ان اقوى على النهوض ، كان عمك هنالك عند المدخل بقامته الفارعة وجسده النحيل وهو ينظر صوبى فى هدؤ كأنه خرج البارحة او قبل قليل ، تحاملت على نفسى ، تمالكت قواى واندفعت صوبه فى جنون اخذت اتحسسه فى لهفة ، مررت يدى على شعره امسكته براحتى طويلا ، تحسست جبهته ، تراجعت الى الخلف ، نظرت اليه بعمق كمن يستنشق عطرا جميلا ، ثم هرولت نحوه ثانية ، ضممته بقوة حتى اصدق ما تراه عينى ، حتى ابدد ظنى فى ان الذى امامى هو بشحمه ولحمه لاطيفه ولا شبحه الذى لم يغادر مخيلتى ابدا ، ثم غبت فى بكاء طويل ، وحين رفعت راسى ثانية كان وجهك الصغير مرتفعا ناحيتى وبالعيون تساؤل وخوف ، وحين رفعت فقد ايقظك النحيب ، كان عمك لا يزال واقفا فى ذات مكانه فى جمود، لم ينبس بكلمة لم يمد يدا لم يحرك ساكنا كأننى كنت اتحسس كتلة صماء من الحديد ، نظرت فى وجهه للمرة الاولى ، كانت صفحة الوجه جامدة لا حياة فيها ، فاجهشت بالبكاء من جديد ، لم يكن ثمة ما يقال ، كان مشهدا غريبا ، عبد الله واقفا بلا حراك ، وانا عند قدميه مجهشة ببكاء لم ينقطع ، عيونك الصغيرة ممتلئة بالدهشة ثم فجأة انهار جبل الجليد ، اجتاحت جسده رعشة مفاجئة ، تحركت قدمه التى كنت ممسكة بها ، ثم تهاوى على اقدامى واندفع فى البكاء ، لا ادرى كم بقينا على تلك الحالة ، ، دفن عبد الله رأسه فى صدرى كما كان يفعل عندما كان يفعل عندما كان صغيرا ، ، اخذ صدره يعلو ويهبط وصوت نحيبه يبدد السكينة ، فى ذلك اليوم لم نتبادل اى حديث ، نهض عبد الله ، اغتسل ، بدل ثيابه فى هدؤ ، نظر اليك طويلا ، ثم استدار ومضى الى غرفته فى صمت ، ذهبت اليه بالعشاء وضعته امامه ، نظرت اليه ، اطرق برأسه ، ترددت قليلا ، ثم خرجت مسرعة ، لم يخرج من غرفته فى تلك الليلة ، ولم اعاود المجىء اليه الا فى صباح اليوم التالى ، بدا لى مرهقا وحزينا فلم اشأ ان افتح جراحا واحاديث فى تلك الليلة ، ومن مصادفات القدر العجيبة ان اباك لم يحضر ليلتها الى الدار وبعث رسولا يقول انه سيغيب فى المدينة القريبة عدة ايام ، حمدت الله فى سرى وتنفست الصعداء ، فقد كان مجرد التفكير فى التقائكما بعد كل هذه السنين امرا يفوق طاقتى وقدرتى على الاحتمال ، وكان قلبى يقول لى انه كلما تأخر التقاؤكما كان ذلك افضل .
فى تلك الليلة لم انم ابدا ، انهكنى التفكير فى كيفية بدء حديثى مع عمك ، ماذا اقول له وكيف اقول ؟ انهكنى التفكير فى كيفية بدء حديثى مع عمك ، هل علم برحيل ابيك يا ترى ؟ هل علم بمصير امك ؟ ماذا فعلت الدنيا به يا ترى فى هذه السنين الطويلة ؟ هل تزوج وصار لنا احفاد يمشون على الارض دون ان نراهم ودون ان يعلموا بوجودنا ؟ ودون ان اشعر وجدت نفسى اتسلل على اطراف اصابعى الى حيث ينام ، وقفت عند رأسه طويلا ، كان غارقا فى نومه كملاك صغير ، هالتنى الشعيرات البيضاء التى تناثرت فى وسط شعره الاسود الفاحم ولحظت نحوله على الفور ، سقطت دمعة برغمى قلت لنفسى لقد تعذب كثيرا لا شك فى ذلك ، عاش اياما صعبة وقاسية ومن يدرى كيف قضاها ، من يدرى كيف استطاع ان يبقى كل هذه السنين وحيدا مثخنا بجرح لا يندمل ابدا ، تقلب فى فراشه فى قلق ، بدا كأنه احس بوجودى ، كأنه يوشك على النهوض استدرت على عجل وعدت ادراجى ، بقيت جالسة على سريرى لا شىء يونس وحدتى سوى صوت تنفسك المنتظم وانت تغطين فى نوم عميق ، بقيت هنالك حتى لاحت تباشير الصباح وداهمنى الكرى .



التوقيع:
من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع اﻵخرين إنه ﻻ يستطيع أن يكره ، وﻻ يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، ولكنه أبداً ﻻ يفكّر في أن يطلق رصاصة . وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس.
د.مصطفى محمود
احمد سيداحمد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 02-03-2012, 03:18 PM   #[13]
احمد سيداحمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية احمد سيداحمد
 
افتراضي

11
فى الصباح الباكر جاء عمك مرتديا ملابس الخروج ، القى تحية الصباح ، تمتم بكلمات مواساة وعزاء ، عندها اجهشت بالبكاء ، لاذ بالصمت حتى استعدت تماسكى ، وقال بهدؤ اريد ارى قبر ابى ، قلت من بين دموعى ، حسنا نحتسى الشاى ونذهب سويا ، واحتسينا الشاى فى صمت وانطلقنا سويا ، بدا الطريق طويلا ، لا نهاية له ، بدا كل شىء مسكونا بالغرابة فى ذلك الصباح ، كنت اسير امامه فى صمت ، صوت خطواته ترن خلفى ، لا اقوى على الالتفات ابدا ، كانت الكلمات عصية ، كنت اريد ان اقول اشياء كثيرة ، ان احدثه عن ابيه وعن رغبته العارمة فى رؤيته قبل ان يموت عن حزنه العميق والحسرة التى لازمته طويلا ودموعه التى لم تنقطع وصلاته ودعائه الحزين ، لكن الكلام فى حلقى احتبس ولفنا السكون ، لا شىء يسمع سوى وقع خطواتنا وزقزقة عصافير بعيدة وصوت طلمبة مياه رتيب ، لاحت الشواهد على مبعدة ، زادت ضربات قلبى ونحن نقترب ،توقفت اخيرا .. اشرت باصبعى فى سكون دون ان استدير ، جاءنى صوته مضطربا حتى سرت فى بدنى قشعريرة مفاجئة (امى ،ارجوك اتركينى وحدى ،سأعود ، ارجوك ) كان فى صوته ضراعة لم املك معها الا ان استدير عائدة فى صمت ، كنت ارغب فى النظر الى الوراء ، لكننى لم أقو على الالتفات ابدا ، وحين واتتنى الشجاعة وادرت رأسى كانت المسافة بيننا قد اضحت بعيدة ، لم يكن بمقدورى رؤية شىء سوى ظهر منحن وطلال شواهد بعيدة ، طريق العودة بدا طويلا ولا نهاية له ، كان قلبى هناك حيث تركت عبدالله مع شجونه وحديثه الطويل مع ابيه الذى لن يسمع ولن يرى شيئا من دموعه او كلماته ابدا ، حين بلغت الدار نظرت فى ردهاتها طويلا كأنى اراها للمرة الاولى ، بدا لى كثيب الرمال التى الصغير الذى يتوسطها وقد تمدد وزحف بقوة على مساحات جديدة ، النخلة العتيقة التى تشرئب بقرب الجدار الخارجى للدار حيث كان مربط حمار جدك بدت لى صامتة حزينة كأنها تفتقد خطواته وكلماته التى يقولها كل صباح فى اذن حماره قبل ان يطلقه من مربطه ويمتطيه ، كان قلبه خاليا حينها ، لم يصبه العطب الذى ارهقه بعدها كثيرا ولازمه حتى الرحيل ، نظرت طويلا فى عيون الحمار العجوز الذى بقى بعد رحيل صاحبه لكنه كف عن النهيق ، اصبح يتمسح بجذع النخلة فى تكاسل ، لم يهتز ذيله فى مرح كما كان يفعل حين يقترب منه صاحبه ، بدا زاهدا فى الحياة ، كعجوز عليل فقد الرغبة فى كل شىء وبقى منتظرا قضاءه فى توق واستسلام ، استيقظت الذكريات مرة واحدة ، بت اسمع ضجيج الصغار مجددا ، احملق فى باب الدار طويلا ، اقول لنفسى سيأتى بعد قليل كما كان يفعل ،يسد الباب بجسده الفارع ، يحمل احدهم على ظهره فى سعادة ، يقول كلاما جميلا ، يضحك من القلب كما كان يفعل فى الايام الخوالى ، ينظر الى عبد الله فى صرامة ، ينطلق صوته قويا آمرا (اين كنت ؟ لماذا تأخرت هكذا ؟) ينحنى عبدالله فى مسكنة ، يهم ان يقول شيئا ،ثم يتلعثم قليلا بكلام غير مفهوم فينتهره جدك بحزم .



التوقيع:
من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع اﻵخرين إنه ﻻ يستطيع أن يكره ، وﻻ يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، ولكنه أبداً ﻻ يفكّر في أن يطلق رصاصة . وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس.
د.مصطفى محمود
احمد سيداحمد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 02-03-2012, 03:18 PM   #[14]
احمد سيداحمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية احمد سيداحمد
 
افتراضي

12
افقت من احلام يقظتى ، كان فى مواجهتى الجبنة الصغية المصنوعة من الفخار الاحمر ، نقلت بصرى سريعا الى هناك ، الى سحارتى المذهبة الجوانب حيث يرقد فنجان جدك هناك فى قاعها ، دبت فى جسدى قوة مفاجئة ، انحنيت على ركبتى ، فتحت السحارة على مهل ، اخرجت الفنجان بحرص شديد ، نظرت فى قاعه طويلا ، قلت له وانا ابكى : (حمدا لله ان بمقدورى ان افى بنذرى ، حمد لله ان عبدالله جاء اخيرا ، ساصنع له قهوته الاثيرة ، اقدمها له فيك عله يجد فيك شيئا منه ومن شوقه اليه) ، الله وحده يعلم يا صغيرتى كم انتظرت هذا اليوم طويلا ، كم رأيت كل هذا فى منامى ليلة وراء اخرى كان حلمى الاخير الساحر الذى يتملكنى كما تتملك المدمن الرعشة حين يحين موعد المخدر .


فى الظهيرة عاد عبدالله ، احتسينا القهوة فى صمت ، كنت قد عقدت العزم على ان اترك له تحديد مسار كل شىء ، كنت اعلم فى اعماقى ان حاجته للبوح اكبر منى ، وان من الافضل ان اترك المقود فى يده ، لم يتأخر عبدالله كثيرا ، ولم يخب ظنى فيه ، احتسى فنجانه الاول ، امسكه طويلا قبل ان يعيده الى موضعه ، تناولت (الجبنة) كى اصب فنجانا جديدا ، لكنه اشار بيده ممانعا ، ثم غاب فى صمت جديد ، وددت ان يرد على احتجاجى ، زفر زفرة حرى وانشأ يتحدث كأنه يحادث نفسه فى صوت خفيض (كان ينبغى ان ابقى يا امى ، كان ينبغى ان اواجه العاصفة ولا انحنى لها ابدا ، لربما لو فعلت ما كان ينبغى على فعله لكانت اشياء كثيرة حدثت لم تحدث قط ، كنت كمن يهرب من سفينة مثقوبة فى عرض البحر تاركا فيها كل من يربطونه بالحياة ويحيا المرء لاجلهم وعندما بلغ الشاطىء وحيدا حاصرته االوجوه الغائبة وصيحات الاستغاثة ، بات كل شىء مرا كالعلقم ) ، قلت له بصوت خافت : (لا تزد عذابى ، يكفى ما رأيت من ابيك) التمعت عيناه ، نظرالي فى فضول باد وقال : ابى ؟ ماباله ابى ، لقد كان صامتا والصمت اجابة ، كنتم جميعا داخل المركب المثقوب) قلت له وانا انفجر باكية (حسبك يا عبدالله ، لاتقل شيئا اخر ، انك لا تدرى شيئا ، ابوك لم يكن قط كما تقول ، كان مؤمنا بك حتى ... حتى مماته ، انت لا تدرى شيئا) الجمته الدهشة فغر فاهه فى بلاهة ، بدأ مأخوذا تماما وهو يتمتم (امى استحلفك بالله لا تزيدى عذابى ... قولى ان هذا غير صحيح ، انك تقولينه لكى تخففى عنى ، لا تقولى اننى ظلمته حيا وميتا كل هذه السنوات ... كل هذا الغضب ... كل هذه المرارة وهو مؤمن بى؟ يا الهى ، اى اسرة تعسة نحن ، هذا مستحيل ... مستحيل) ثم لفنا الصمت من جديد ، من بين دموعى رويت له كل شىء حدثته عن عن كوابيس الليالي التى لم تنقطع ، عن حزن جدك الطويل ، عن رغبته التى لم تتحقق فى ان يراه قبل الرحيل ، عن ابيك والجدار الذى انتصب بيننا جميعا ، عندما فرغت اجهش عمك بالبكاء كالاطفال ومضى فى صمت وهو يترنح خارجا من الدار .

فى المساء والقمر يسل اشعته على صفحة الرمال الممتدة جلسنا سويا ثانية ، كان السؤال الذى يؤرقنى يتقافز فى اصرار حتى وجدتنى اقول : (هل تزوجت ياعبدالله؟) صمت برهة ورد فى هدؤ (نعم ، مرتان) ولم يذد انتظرت ان يحكى لى المزيد لكنه غاب فى صمت طويل ، ترددت قليلا ثم قلت له (واحفادنا اين هم الان ؟ كم بلغ اكبرهم من العمر؟ لماذا لم تحضرهم ؟) كان الصمت هو الاجابة ، كررت سؤالى ، حرك عبدالله شفتيه فى بطء وقال : (لا شىء يا امى ... لا شىء البتة ، ولهذا عدت) قلت له (ماذا تريد ان تقول ؟ ماذا حدث ؟) انتصب عبدالله واقفا ووجهه خال من التعبير وقال (عشرة اعوام كاملة يا امى ، عشرة اعوام من الهروب المجنون والركض الى ما لا نهاية ، دامت الزيجة الاولى اربع سنوات ولم يرزقنا الله بشىء ، حسبت العلة منها ، انتظرت عامين اخرين ، تزوجت ثانية ، تكررت القصة القصة نفسها وانتظار لا حدود له واشواق موؤدة وحلم بعيد المنال عندها فقط واتتنى الشجاعة واخضعت نفسى لفحوصات الاطباء وكانت النتيجة مذهلة يا امى ، ليس بمقدورى ولم يكن بمقدورى فى يووم من الايام الانجاب ، هكذا كانت مشيئة الله ، كان كل شىء مسطورا فى كتاب القدر ان يحدث ما حدث ويهدم الجنون هذا الدار ، ان اتغرب واتعذب سنينا ، ان يحرمنى الله من الذرية كى يعطيكم الحقيقة الضائعة بين ظلال الشك والظنون وتزول البقع السوداء التى لطخت ثوبا ابيضا ناصعا لملاك وحيد يرقد بعيدا الان ، كانت مفارقة فادحة يا امى ، ان يسمع المرء قرار اعدام صادر فى حقه ويكون سعيدا كالاطفال ، نعم كنت سعيدا ، انشأت اضحك فى وجه الطبيب فى جنون واقول ، حمدا لله حمدا لله ، لم بفهم الطبيب شيئا ، اخذ ينظر الى فى خوف وتوجس ، ربما لم يحدث له فى حياته المهنية كلها مثل ما حدث ذلك اليوم ابدا ، دفعت الباب وخرجت الى حيث الريح و الشوارع ، فى اليوم التالى حزمت حقائبى وكنت اطوى المسافة الى هنا ، كان الثمن فادحا يا امى عندما افكر فى الامر كله الان لا املك الا ان اضحك ، كنت احتاج الى ان افقد رجولتى كى استعيدها ، كم هى فادحة الثمن تلك الحقيقة التى نامت سنينا طويلة لتصحو كمارد وتحطم القمقم من جديد ؟ )



التوقيع:
من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع اﻵخرين إنه ﻻ يستطيع أن يكره ، وﻻ يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، ولكنه أبداً ﻻ يفكّر في أن يطلق رصاصة . وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس.
د.مصطفى محمود
احمد سيداحمد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 02-03-2012, 03:20 PM   #[15]
احمد سيداحمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية احمد سيداحمد
 
افتراضي

13
كانت عيونه تلتمع ببريق غريب ، تحدق فى المجهول ، كان يتحدث وهو غارق فى تأملاته كمن يحدث نفسه ، يأتى الصوت عميقا وشجيا ومفعما بالاسى ، كان ما يجتاحنى عندها شيئا يصعب وصفه ، يستحيل الامساك بخيوط بدايته ونهايته ، الشىء الوحيد المؤكد ان احساسا غامرا بالراحة كان يعترينى بقوة ، كنت اشبه برجل بقى حبيسا فى اغلاله زمنا طويلا ثم تحطمت الاسوار تهاوت السلاسل واحدة تلو الاخرى عند قدميه قالوا له اخرج امامك الهواء الطلق والحرية ـ الظلام والاركان المعتمة ، كنت احصى الايام والساعات يفتك بى ظمأ طويل الى الحقيقة والى لقاء عمك ، وعنما تحققت الامنية وقفت عاجزة عن الاحساس بأى شىء ، تداخلت الاشياء ، الفرح والحزن ، الظمأ الطويل ودفقة الماء التى قد تقتل الظامىء بعد ان طال بحثه عنها ، فى تلك اللحظات يا صغيرتى وصوت عمك يتغلغل فى فى اعماقى كالسكين اكتشفت شيئا غريبا ، كل هذه السنين ، كل تلك الليالى التىخاصم فيها النوم الجفون ، طول هذا الوقت كان بداخلى امل ابله فى ان تكذب الايام ظنونى ، ان يبقى كل شىء كما هو على النحو الذى رأيناه به ، كان بحثى عن الحقيقة فى حقيقته نوعا من الرغبة فى الا تهتز الاشياء للمرة الثانية ، كانت تلك حقيقة اخرى نائمة فى اغوار سحيقة ايقظها صوت عمك والضؤ الذى سطع فى الدواخل ليلتها وحين رأيت صورتى المقلوبة هكذا عارية تحت وهج الحقيقة لم امامى سوى النحيب فاجهشت ببكاء مر ، كنت ابكى اشياء متعددة فى نوبة واحدة ، اشياء بدت لى للوهلة الاولى مبعثرة مسكونة بالفوضى ولا رابط بينها البتة ، لم تكن كذلك ابدا ، لم يتركنى عبدالله ابدا ، لم يتوقف ، كان صوته يهدر من كل الانحاء كشلال غاضب يأبى التوقف ابدا .


(كان القطار يهتز على القضبان وانا اهتز بجنون مع ارتجاجه ، اود لو انه يستحيل دابة امسك بمقودها والهب ظهرها بالسياط حتى تطوى المسافة فى لمح البصر ، كان خيط الدم يجرى فى داخلى اسودا لا حمرة فيه ، كان دتخلى يمور كبركان كنت اريد ان ارى وجه ابى وانا اصرخ فى وجهه بجنون وانا القى قرار الطبيب ، كنت اعض على نواجذى كوحش جريح على امتداد الرحلة وصوتى يهدر فى الخيال فى وجهه : انت الوحيد الذى كان بمقدوره ان يقول شيئا ، ان يضع حدا للمهزلة ، الوحيد الذى كان بمقدوره ان ينظر فى عينى ويكتفى ، الوحيد الذى كانت يدى تتشبث بيده قبل ان يبتلعنى المجهول وتحل على لعنة لا يد لى فيها ، امى امرأة مهما يكن ، مهما يكن لم تر ما رأيت انت فى الحياة ، لم تمسك بعجلة القيادة فى عظمة كما كنت تفعل طيلة عمرك معنا ، لماذا تخليت عنى يا ابى عندما هبت اول عاصفة ؟ لماذا ؟ كان صوتى يهدر ويزداد ارتفاعا كلما اقتربت الرحلة من نهايتها ، رسمت فى خيالى الف مرة صورة اللقاء ، انتقيت الكلمات ، راجهتها على مهل ، ، حتى اعذاره ومبرراته قلتها لنفسى مقلدا صوته واعددت ردودى عليها ، حتى خاتمة المقابلة ، لا ذلت احفظ عبارتها التى اعددتها فى خيالى عن ظهر قلب ، لم اكن ادرى يا امى اننى لن اقولها ابدا ، لم اكن ادرى اننى اخاطب روحا تحلق فى فضاءات بعيدة وحيدة ومعذبة ، لم اكن ادرى ...... ) واجهش عبد الله بالبكاء ، اخذته فى حضنى كما كنت افعل حين كان صغيرا وغبنا سويا فى نشيج مر وعندما افقنا كان الصباح قد طرق الابواب وتوارت اخر النجيمات بعيدا فى الافق .


توضأ عبد الله فى صمت وحين فرغ من صلاته وتسبيحه اقترب منى على مهل جثا عند اقدامى ، قال بصوت مبحوح (اغفرى لى يا امى ما جنيت فى حق ابى) ، انهضته ، اجلسته الى جوارى فى صمت ، غبت قليلا ، اعددت شاى الصباح وعدت ادراجى الى حيث تركته ساهما فى شرود وصمت ، حول اقداح الشاى الساخنة جلسنا ، رسمت ابتسامة شاحبة على وجهى وقلت له: (الله وحده يعلم كم تعذبنا جميعا ، الله وحده يعلم كم تعذبت انت ... وهى ، الله يغفر لنا جميعا يا بنى ، فليرحمنا الله جميعا) ولفنا صمت بددته بصوت واهن : (لدى رجاء صغير يا عبدالله) ، ارتسمت على وجهه آيات الجد وادار وجهه نحوى فى ترقب وقال : ما هو ياأمى ؟ اطرقت قليلا وقلت له دون ان ارفع وجهى ناحيته : (الحقيقة ستقتله ياعبد الله ، ستحطم قلبه المجروح اصلا ، لا ضرورة لان يعرف شيئا ، خير له ان يبقى فى الظلام ، هل تفهم ؟ انت تعرف اخيك خيرا منى) صمت عبد الله طويلا ، غرق فى تفكير عميق ولم اقل شيئا اخر ، لم ارد ان اقطع عليه تفكيره ، ثم نهض ببطء وهو يتمتم بصوت خافت : (معك حق يا امى، لا ضرورة ان يعلم شيئا برغم كل شىء لا ضرورة لان يعلم شيئا) ، اخذته فى احضانى والدموع تبلل وجهى ، قلت له بامتنان ظاهر (لن انسى لك ذلك ما حييت ) ، لم يرد ولم يحرك ساكنا ، كان يبكى فى صمت ودموع القهر تجرى على خده بلا انقطاع ، كان ما اطلبه منه شيئا يفوق ارادة البشر ، لكننى كنت واثقة انه سيتفهم ويقبل ، ولكننى سرعان ما افقده ثانية للابد ، لن يبقى طويلا ، كنت اعلم ذلك عندما طلبت منه ان يبقى السيف معلقا على رأسه على الاقل من ناحية اخيه ، لم يكن امامى خيار اخر ، إما ان افقده بصورة مؤقتة وربما الى الابد ، ولكنه سيبقى فى مكان ما من هذا العالم يتنفس مثلى ومثل اخيه داخل القفص والذى لن يقدر لنا ان نخرج منه ابدا .

بقى عمك بعدها يوما واحدا قضى سحابة نهاره باكملها عند ضفة النهر وغاب من جديد قبل ان يعود ابوك الى الدار.



التوقيع:
من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع اﻵخرين إنه ﻻ يستطيع أن يكره ، وﻻ يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، ولكنه أبداً ﻻ يفكّر في أن يطلق رصاصة . وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس.
د.مصطفى محمود
احمد سيداحمد غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

تعليقات الفيسبوك

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 05:02 AM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.