مع الطيب صالح حول اللهجة السودانية
نحو أفق بعيــد
بقلم الطيب صالح *
يظن أهل السودان أن عربيتهم الدارجة هي من أفصح اللهجات العربية ويمضي أبعد من ذلك العالم الحجة الدكتور عبد الله الطيب صاحب كتاب " المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها ، فيقول أن العربية الدارجة في السودان هي أفصح اللهجات العربية إطلاقا . الله أعلم . والحق أن من قلة بخت عرب السودان أولا اسم دولتهم ، وثانيا أن عروبتهم كما تجرى على ألسنتهم ، أفصح أحيانا مما ينبئ به سمتهم وسحنتهم .
وقد وجدت في الشعر الجاهلي ثم في عامة الشعر العربي ، خاصة عند المتنبي وأبي العلا ، كلمات كثيرة تستعمل في لغتنا الدارجة ، وبعضها لا يوجد إلا في السودان ، وكنت أظنها محرفة أو دخيلة على اللغة العربية ، فإذا بها كلمات فصيحة . المتنبي مثلا يستعمل كلمة ( غلت ) بمعنى ( غلط ) وأكثر أهل السودان يقولون ( غلت ) بالتاء ، وفي لسان العرب أن ( غلت ) و ( غلط ) بمعنى واحد ويستعمل ( توراب ) ، وأهل السودان يقولون ( تيراب ) للبذور التي تدفن في الأرض ، كالقمح والذرة وغيرها وفي المعجم ( توراب ) أو ( تيراب ) هي الأرض أو ما يدفن فيها .
هذا ، وقد ذكر الدكتور احسان عباس في كتابه " تاريخ النقد الأدبي عند العرب " في الفصل عن أراء النقاد القدماء في شعر المتنبي ، وهو كتاب جم الفائدة ، أن الصاحب بن عباد عاب على المتنبي استخدامه الكلمات الحوشية الغريبة مثل ( توراب ) غفر الله له أنه لم يزل يتتبع المأخذ على المتنبي ، ولو أنه عاش في السودان ، لوجد أن الكلمة شائعة تجرى على ألسنة عامة الناس . كذلك عاب عليه استعمال ( جبرين ) بالنون بدل ( جبريل ) باللام ، وقال : وقلب هذه اللام إلى النون أبغض من وجه المنون. وعامـة أهـل الســودان ، يقولــون ( جـبرين ) و ( اسماعين ) .
ذاك ، وقد قال المتنبي يصف الخيل :
العارفين بها كما عرفتهم
والراكبين جدودهم أماتها
ونحن نقول ( أمات ) ولا نقول ( أمهات ) . وقد قال الشاعر السوداني :
يا طير أن مشيت سلم على الأمات
وقول ليهن وليدكن في الحياة ما مات
حتى التصغير الذي كان المتنبي مولعا به ، وعابوه عليه ، مأثور عندنا ، نقول ( وليد ) و ( زويل ) و ( بنيه ) و ( مريه ) . ولقد كاد أبن القارح يصيبه الخبل من قول المتنبي :
أذم إلى هذا الزمان أهيله .
حتى صب أبو العلا ، رحمه الله ، الماء على نيران غضبه ، فقال له :
" كان الرجل مولعا بالتصغير لا يقنع من ذلك بخلسة المغير ، ولا ملامة عليه ، إنما هي عادة صارت كالطبع ، فما حسن بها ، مألوف الربع .. "
وكان شاعر السودان الفحل ، محمد أحمد عوض الكريم أبو سن الملقب بالحردلو ( 1830 – 1916 ) أيضا مغرما بالتصغير ، في مثل قوله يصف أن وعل الظباء تركها في مكان وذهب يستكشف ، ثم عاد إليها :
جاهن منقلبا وقتا عصير وشفاف
وكاسب ليله بيهن من صدف ما بخاف
ديل الطبعهن دايم الأبد عياف
وفي ( نايط السروج ) لقين بقيلن جاف
كل هذا كلام عربي فصيح إذا تأملته ، وأنت ترى أنه صغر ( عصرا ) إلى عصير ، و ( بقل ) إلى بقيل . و ( نايط السروج ) اسم موضع ، والصدف ، بفتح الصاد والدال ، هو ما يصادفك مما تكره ، وخاصة بالليل . وأنظر كيف صور الشاعر ذكر الظباء ( التيس ) كأنه قائد عسكري مقدام لا يهاب المخاطر ، سرى بالقطيع ليلا ، حتى أوصله إلى حيث يريد ، فذلك قوله " كاسـب ليلـه بيهن " . ونحن نستخدم " الكسب " بمعنى النصر الحربي أيضا ، كما قال الآخر يصف فتية محاربين :
ديل جابو الكسب بين ( كاجا ) و ( أم سريحه )
ويا ساتر من اليوم العقوبته فضيحه
أي أنهم عادوا منتصرين من تلك البلاد في الجنوب والغرب حيث شبت حروب بين أهلها وبين القبائل العربية في الزمان القديم .
والحردلو يصف الظباء بأنهن ( عياف ) والكلمة تحمل في جوفها معنى الحذر والكبرياء والعفة ، فما أجمل ذلك كأنه ذو الرمة ، وهو حقا أشبه الشعراء به .
وعندنا " الزول " بمثابة " الزلمه " عند أهل الشام ، و" الريال " عند أهل جزيرة العرب ، يجعلون الجيم ياء ، وهو فصيح ، ونحن جيمنا قريبة من ذلك . وكلمة " زول " في المعجم ، من معانيها الشخص اللطيف المهذب . وقد وجدتها بهذا المعنى عند أبى العلا . وذكر لي الدكتور عبد الله عبد الدايم ، وهو عالم ثبـت ، أن " زول " هي أحسن مرادف للكلمة الإنجليزية Gentleman فهل كل أهل السودان " أزوال " ؟
والكلمة تستخدم للمرأة أيضا ، وقد قال الحردلو يذكر انسانة جميلة ألهته عن حضور العيد مع أخيه عبد الله ، وكان شاعرا أيضا :
الزول السمح فات الكبار والقدره
كان شافوه ناس عبد الله كانوا يعذرو
السبب الحماني العيد هناك ما أحضره
درديق الشبيكة النزلوه فوق صدره
و " الشبيكة " حلى متشابكة تعلق على صدر الفتاة ، وقد وجدتها بصفتها وباسمها هذا في متحف قطر الوطني الذي يديره العالم الشاعر الدكتور درويش الفأر في الدوحة الميمونة الطالع .
و " حمى " بمعنى " منع " أكثر جريا على الألسنة عندنا من " منع " ، وقد قال أبو العلا :
ترى العود منها باكيا فكأنه
فصيل حماه الشرب رب عيال
هذا في وصف مبلغ حنين الإبل إلى أوطانها ، ويا سبحان الله ، كيف أن أشقاءنا المصريين ، وهم منا على بعد ما تطير اليمامة ، لا يصفون الفتاة بأنهـا "
سمحة " كما نفعل ، بل يقولون " جميلة " كان الله قسم لهم الجمال وقسم لنا السماحة ا
وفي ديار غرب السودان ، يقولون ( ينطي ) بمعنى ( يعطي ) وهي كذلك في المعجم ، ولم أجدها عند غيرهم . وقد قال أبو العلا رحمه الله :
لمن جيرة سيموا النوال فلم ينطوا
يظللهم ما ظل ينبته الخط
رجوت لهم أن يقربوا فتباعدوا
وألا يشطوا بالمزار فقد شطوا
أي والله ، لقد شطوا يا أم عمرو ، وهل بعدهم يطيب العيش
---------------------------
* نشرت بمجلة المجلة - نحو افق بعيد
* الطيب صالح - مختارات -5 - في صحبة المتنبي ورفاقه - منشورات رياض نجيب الريس - ابريل 2005 - ص 143
|