الأستاذة ريما . .
أسعدني ما قرأته منك ، فقد كنت رصينة و مرتبة و مقنعة في كل كلمة جاءت في مداخلتك . و لعلي أعلن إعجابي هنا بملاحظتك الذكية عن المقاربة بين الإسم و التيار ، في أني أقول –مثلاً- ناصر ، و لا أقول الناصرية . نكروما . . و لا أقول النكرومائية . في نظري أن في النسبة إلى الشخص أو القائد ، تأطير يجمّد تجربة القائد، فتكون خلاصتها ما يقترب من مكونات "مذهب" سياسي ، يتكلس بإضافة ال " ية " إلى الإسم ! ، بل تتحجر التجربة تماماً و تصبح فعلاً لا مجازاً "صخرة" تعترض مسار التاريخ . لو كانت النسبة إلى فكرة أو رؤية لقبلت بها . التأليه ؟ لا أحد يحبذه . خير أن نقول "تجربة ناصر الإشتراكية " ، و تطبيقاتها في مصر ، من أن نقول "تجربة الناصرية " . المادية الجدلية ، في كتب الفلسفة و العلوم السياسية ، هي ما يشار إليه عند السياسيين بالماركسية . في رؤيتي أن عبد الناصر ، لو قدّر له أن يعيش إلى سنوات التسعينات ، لن تكون تجربته هي ذات التجربة الشمولية التي يشير إليها البعض بالناصرية ! التجريب لا يعرف النقاط الفاصلة لا يأتي بعدها كلام جديد ، بل هو كجريان النهر ، في تغيّر و تلوّن بالتربة التي يجري عليها . إنها الحياة تسير بلا توقف . بلا نهايات . . للتاريخ ، أو حتى للجغرافيا !
ما أردت أن أصل إليه من طرحك أن الشعوب بلا قيادات واعية ، و نخب ٍ تحمل مشاعل التغيير ، لن تتبين الأضواء تلتمع آخر الأنفاق ، و لن يكتب لها خلاصاً سهلاً ميسورا . كلا .
الشعوب تمشي في الأرض الحصباء ، و الصفوة هم طيور تحلق . قد تصادف في سماوات تحليقها ، حماماً و قبرات صديقة ، و لكنها قد تصادف أيضاً ، من الجوارح و البزاة ، ما قد ينتف ريش أجنحتها ، فتكون مهيضة فتستضعف . قد لا يرتفع بصر بعض الشعوب إلى السموات التي تمور بالصراع ، فيختلط عندهم لون الدّم القاني المراق ، مع لون المغيب المحمر ّ. . ! في الفضاء بين سماء و أرض ، يقع التآمر و تحبك المؤامرات و تزدهر الخديعة .
في شرقنا الأوسط ، أرى البزاة تحلق فوق رؤوسنا ، و على مناقيرها دماء ، و بعض ريش ٍ منتوف . الشعوب تركن عبر عملية يسمونها "انتخابات" ، لتفريخ قيادات مقطوعة رؤوسها ، أو منتوف ريشها ، أو مهيضة أجنحتها . تحاول الطيران . ننظر إليها و نخالها تطير ، لكنها سرعان ما تسقط . لا ! الطيور البلاستيكية لن تصطفق لها أجنحة ، إلا إذا رتب لها من صنعها ، الطاقة التي يختزنها في السر ّ ، فيحرك الطيور بالتحكم عن بعد . أكثر قياداتنا في الشرق بلهاء ، و للأسف نحن نعيد استنساخها كل دورة انتخابية . ما أغبانا لو كنا ننتظر من الزهور البلاستيكية ، أن ترسل فوحها و عطرها في الأنحاء .
لا تحرك البزاة و أسراب الصقور ، إلا مصالح إقتصادية ، يبرر نجاحهم في حمايتها ، بقاءهم في مقاعد الحكم و السلطان . هذه ببساطة شديدة ، رؤية قد تبدو ساذجة و جلية يراها كل ذي عينين . . و لكن نحن لا نراها . ما حقيقة هذا الوهم ؟ ما حقيقة الخديعة ؟ إنهم الآن ينصبون فخاً كبيراً و يحركون المواجهة باستفزازنا ، بل يلكزوننا لكزاً لكي تزل أقدامنا فنسقط في هوة الخسران . أقول خسران ، لأن الفخ المنصوب هو لحماية مصالحهم هم ، لا مصالحنا نحن . هو لتأمين حاجياتهم الإستراتيجية ، لا لتأمين حاجياتنا نحن . يرسمون المهازل على رؤوس انبيائنا قصد إستفزازنا ، فنكون نحن ، في نظر مرجعياتهم ، متخلفين و غير قادرين على التكيّف مع متطلبات حرية التعبير و الحريات الشخصية الأخرى . تعمّ ضبابية الرؤية ، فيتلف بعض ُ مهووسين في الأشرفية ، ما هو منهم و ملكهم ، حتى نتوهّم أن الصراع هو بين كنيسة و مسجد ، فيكون "السقوط المزدوج " . في آخر اليوم يقف أصحاب المصالح الحقيقية ، يجمعونها كما يجمع البخيل الذهب و المجوهرات ، أيديهم ملوثة بدماء أبرياء ، و لكنهم ممسكون بأنخاب الإنتصار المتوهّم . هل تذكرين سياسة " الإحتواء المزدوج " ، الخديعة التي كان أحد صانعيها السفير الأمريكي ايام كلينتون : مارتن إنديك و معه رهط من عباقرة الشر ؟ فقد أتت أكلها هذه السياسة في الحرب العراقية الإيرانية ، أنهكتهما الإثنين ، و لكنها أراحت واشنطن ، فأغفى كلينتون لسنوات .. إذ كانت إيران محطمة في أشلائها ، و العراق يمرح باطماع جوفاء . ما صبروا على صدام ، و قد أنجز لهم ما أرادوا ، فقضوا عليه بترتيبات غزو الكويت ، حتى انتهى به الأمر إلى النهايات المعروفة !
. ما يهمّ هو إحداث انهيارات " مزدوجة " .. "إستنزاف مزدوج ". . لكنه في النهاية " انتحار مزدوج" ، ينتظم الطوائف بألوانها القزحية ، و الكانتونات و السلطنات المزيفة ، و ممالك مجنزراتها من الكرتون و إمارات يلبس فراعينها جلابيب من السوليفان ، و دويلات تغطي عوراتها بورق الحمام . لو كان وعينا حاضراً مستيقظا لتنبهنا ! ضحكوا علينا في ختام الحكاية ، لأننا غرقنا صاغرين في خلافاتنا الصغيرة ، و لم نستبن حقيقة " المصالح " التي برعت الحضارة الغربية ، أي ّ براعة ٍ ، في الإستيلاء عليها ، في الهيمنة عليها ، و السيطرة . . و لا نملك أن نقول عنها : إستعمار . نخجل أن نقول . و نظلّ في انشغالنا الدائم بالصغير من خلافاتنا ، و نفشل في أن نرى مواطيء أقدامنا ، ربما من عمىً متوهّم !
ثمة حرب تدور رحاها الآن . طرف ٌ واع ٍ بها ، و طرف آخر في غيبوبة وزيغ بصر و ضياع ِ بصيرة . صديقي د.سيد يقول إن الكويت تبرعت بملايين الدولارات لمأساة الطبيعة في جنوب الولايات المتحدة ! دارفور كان احتياجها أوجب . إنها حرب عالمية ناعمة ، يحسب من غيّبته الغفلة ، و أغفى في غيبوبته ، أنه البطل المنتصر !
ريما نوفل ... فاتني أن أرحب بقلمك ، لا أراك غريبة في الساحة ... أنت في دارك ...
جمال
التعديل الأخير تم بواسطة جمال محمدإبراهيم ; 21-02-2006 الساعة 09:08 AM.
|