حُميد .. يا ما شايلك فيني (حايم)
رثاه: عبد الجليل سليمان
لا العمارات السوامق فوق ضهر ناساً فقارا
هكذا كان يأتيني صوت محمد الحسن حسن سالم حميد باذخاً كالنخيل، مُمتلئاً كساقي (رملة)، مُبهماً في وضوح، وكثيفاً في خِفة مُحببة، وكنتُ أتبعه (غاوياً) وهائماً أنشد (أناشيده) وألاحق ذبذباتها التي تدور مع أشرطة (الكاسيت)، و تحلق على سماوات المسارح والمنتديات.
و (حُميد) بعد، هو من وهب للقوافي المنسيّة الحياة، ومن منح البسطاء صدر تفعيلاته ومتن أغنياته، فغنى للنسوة الكادحات و للرجال المقهورين وللأطفال الحفاة
شفع العرب الفتارى
البِفنّوا الشايلا إيدن .. ويجروا كابسين القُطاره
لا سراب الصحراء موية ..
لا حُجار سلومُ موائد
حالكم البصرخ بنادي
يا وطن عز الشدايد
(1)
من يفتقدك اليوم يا حميد هم كلاة المواني، الغبش التعاني، حشاشة القصوب، ولقاطة القطن، وعمال الفرن، ومحروقو الجوف، والمحرومين، وبت العرب النوبية، و راشد، وعم عبد الرحيم، ونورا والنوباويه، والمراكبية، والمراسي، والجزاير، والدانقا، والوطن (عز الشدايد).
(2)
عاش حُميد في شِدّة الوطن ، و شهد حريقه وحاول تخفيف وطأته، ورحل عنه وهو لا يزال يُعاني (شدائده) ويحرتق بحرائقه التي حاول إطفائها ضمن كثيرين، وكان يحلم بوطن (مسالم) يمضي إنسانه في حياة سلسلة وعذبه، وطن لا (تكبر) رأسه (فورة) ولا تصغره الهزائم
جنس يا نورة ابن آدم حلمو في عالم مسالم
لا الليالي الماها ليّا .. لا الشماتات العليّ
لا البنوك المخملية
لا تفاهات الحضارة ..
لا عفاريت المدينة .. لا العمارات السوامق .. فوق ضهر ناساً فقارى
لا البرندات الوسيمة .. ولا الأسامي الأجنبية
بتمحى من عيني ملامحك
لا شئ يَمْحِي من عينيك يا حميد ملامح (نورا)، وستأتيك (أجزم بذلك) في بيتك الآخر، ستأتيك (دايشي دايخي) المغربيه كعادتها، ستأتيك بصحبة (عم عبد الرحيم) و (راشد والتومات) يصنعون لك شاياً وخبزاً و يبشرونك بوطن مسالم وسوف تغنون معاً
ما شكيت شُح اليال
وما بكيت نُحْ ، شِلتوا حالي
رغم إنو الحال بيفضح
(3)
والوطن في فضيحته المُورقة، وفي ثنايا مسالكة المُوغِلة في وعورة الغياب وشُحْ الحضور، سافرت عنّا في رحلتك الأخيرة، وفي رحلتك هذي من منحنى النيل إلى مستشفى أم بدة ضافت المسافات كلها، وأقفرت الأرض و توقفت الأناشيد لتترك سديم الحزن يتمدد في صدور العالمين ويوخز قلوبهم البائسة، وبرحلتك الأخيرة هذي ينتهي كل شئ ويبدأ كل شئ، عد إستئناءات (صغيرة) تقتلنا جميعاً، إستثناءات مثل:
كلب الغلابة المستغلين العبيد
الليلي سيد ريس مهاب
كلب أب زهانة تهينو هانة
من المهانة تقول له تكْ
حكم إنقلابات التساب ..
دوارة دنيا فرندقس
(4)
لولا إنك (فرندقس) يا دنيا، لما أخذتِهِ مِنّا في هذا الوقت، ولولا إنك يا دنيا (داورة) على طريقة طواحين الهواء، لأطاح (دون كيخوته) بـ (سيرفانتس) و لذهب آخرون سواكَ لتبقى أنت والنشيد أبديان في أرواحنا المتشظية والمُنهكة.
صعبة وعسيرة الكتابة عنك وأنت توغل بيننا وتوقدنا، فكيف تكون وأنت في حالتك الأبدية هذه يا (حميد)، لذلك دعني أشرع في ضم يديّ لأقفل فاتحتي على هذه الخاتمة و أنشد:
ننجارى فيها سبق سبق .. نخسر بعض في هِين تراب
وسلاماً عليك لمّا ولدت، والآن، وحين تُبعثَ حيّاً.
|
