الـــــسر الغميــــــــس !!! النور يوسف محمد

حكــاوى الغيـــاب الطويـــــل !!! طارق صديق كانديــك

من الســودان وما بين سودانيــات سودانييــن !!! elmhasi

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > منتـــــــــدى الحـــــوار

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
قديم 27-11-2013, 05:18 AM   #[13]
bayan
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية bayan
 
افتراضي

منعم الجزولي
الموت الاخير
أدركت الآن أنى ميتٌ لا محالة!
كنت قد خرجت تواً من الحمام، ومررت عبر الفراندا، فى طريقى إلى الديوان، حين التَفَتُ، ودون سبب محدد، ناحية المرآة على الحائط، فوقَعَت عيناى على عينىَّ، وشعرت فوراً بوخذٍ مؤلم يجتاحهما، ولم استطع ان أجذبهما بعيداً. إذن فتلك هى النهاية. تسمَّر كل شئ فى مكانه، وقد بدأتُ أحسُّ بالروح تتسرب خارجة من جسدى، قليلاً، قليلا. فاستسلمت للأمر وقد راح يعبر ذاكرتى، شريط طويل من تاريخ حافل بأشغال الموت.
لعل اول التقائي بالموت، كان، وأنا بعد طفل، لا أكاد أعى من غدر الدنيا، إلا بمقدار نقصان السكر فى البزازة!
كانت نسوة جالسات، وأمامهن مجموعة من مواعين الغسيل الكبيرة، مملوءة بالماء. وفوقها، تعوم بضعة قرعات. وكانت النسوة يضربن فوقها، بعصايات نحيلة، مثل المساويك. يغنين أغنية ما، أو لعلهن كن ينتحبن بشكل من الاشكال. خالتى الرَحَمَة بنت عبدالكريم، أو الرحمة بنت بربر، كما كانوا ينادونها، كانت تهيل التراب على رأسها الذى انكشف بفعل انحسار ثوبها، فأصبح نصفه على جسدها ونصف على الارض.
يعلق بذاكرتى منظر خالتى بلح الشام، وهى "تتدردق" على الارض بصورة مستمرة. تذهب من عند شجرة الحناء، قرب الحنفية، متدردقة الى الطرف الآخر من الحوش، حتى ترتطم بالجدار الذى يفصل حوشنا عن حوش جدى عبدالكريم، وهى تصرخ بطريقة عجيبة. وكنت أجد الأمر مسليا، فكنت اضحك، وفى فمى قطعة من قصب السكر تجعل فيه شيئا من الألم اللذيذ.
مثل الجرو، انحشرت بين الأرجل الكثيرة إلى داخل الغرفة الكبيرة. كان رجال كثيرون غالبهم فى جلابيب بيضاء يتحلقون حول رجل نائم على عنقريب خالٍ من الفرش، أظن. كان عاريا تماما، وكانوا يصبون الماء فوقه وهو لايتحرك. كنت مستمتعا بالمنظر وفى يدى قطعة قصب السكر تلك أمصها بتلذذ وعلى مهل، وكانت تؤلم لثتى، وكنت أجد نشوة فى ذلك!
فيما بعد، قالت أمى نعمة إن ذلك كان يوم وفاة خالى جلّاب. ولكنها استغربت أن تكون ذاكرتى قد استوعبت شيئا من ذلك اليوم حيث إن خالى مات أول سنة أربعة وخمسين، وأنا كنت قد وُلِدت فى نهاية سنة ثلاث وخمسين! أى أننى لم أكن وقتها قد تدرجت فى سلك الدنيا سوى بضعة شهور! ثم اردفت بعد أن تعوذت وتبسملت، بأننى من يومى مسلَّط!!
الذى أذكره، ولم أقل به لأحد، هو أننى كنت نائماً جوار أمى، التهم ثديها فى نهم عجيب، كعادتى مع الطعام حتى اليوم، حين وجدتنى أتدلى من السرير، بدون أية مقدمات، وأحبو، على ماأذكر، نحو الحوش الخلفى تاركا أمى فى غفوتها تلك، وجلست جوار المرحاض أنظر الى الرجل، الذى علمت فيما بعد أنه خالى جلاّب، وهو يحلق ذقنه قرب الحنفية، عند شجرة الحناء.
انتبه الرجل، ثم نهض ومضى فى حال سبيله، بعد أن نظر ناحيتى نظرة لم أفهم معناها حتى اليوم. وفى الواقع لم يكن يعنينى الفهم فى شئ، لقد شعرت لحظتها باننى قد أديت رسالة ما، وانتهى الأمر!!
فى اليوم التالى، ظهراً، أو عصراً، لا أذكر، جئ بخالى من السوق، يسنده بعض الناس الذين لا أعرف من هم. ربما كانوا من الأهل، أو من رفاق السوق. ولم يمض يوم، أو بعض يوم، حتى جرى ماحكيته لكم.
أميرة، شقيقتى، لم تستغرب ذاكرتى الشيطانية تلك، ولكن جام استغرابها انصب حول مقدرتى على امتصاص قصب السكر، وأنا دون العام، ولم تنبت لى اسنان بعد! قالت إن الأطفال فى مثل ذلك العمر يمصون زجاجات الرضاعة، بينما أنا أمص قصب السكر! وكانت تقول، دائما، إنها لا تستغرب أى شئ يأتى من ناحيتى، خاصة، بعد أن ضبطونى وأنا دون العامين بعد، أجرى عملية ختان ل "خروف" كان بالمنزل!!
النهاية تتسارع، وانا لا أزال احدق فى عينىَّ، المنعكستين من المرآة امامى. وأحس الآن بأن أرجلى لم تعد تحتمل ثقل جسدى.
التقيت بالموت بعد ذلك مرات عديدة. كان يأتى بين الحين والحين فيحمل ماطاب له من النساء والرجال، وكنت انظرهم جميعا يذهبون معه فى صمت، وطاعة، ووداعة. عدا خالى صافى الدين، أو الصافى كما كانوا ينادونه، الوحيد الذى ذهب فى ضجة عظيمة. كان يتألم بشدة، ويتأوه بأشد. قيل إنه السرطان. كنت قد سمعت بهذا الداء ولكننى لم التق به إلا فى ذلك النهار القائظ الحر. الجميع كانوا ينزفون عرقا، وما أفلحت المروحة، تدور، وتدور، وتدور فى أعلى الغرفة، فى تبديد شئ منه، تماما، كما فشلت الصحف، وبعض المجلات، التى ظلت تتمايل بها الأيدى ذات اليمين وذات الشمال، فى استحلاب أية نسمة هواء إضافية. وكان خالى يتأوه بصوت عال.
كنا قد خرجنا إلى الفراندا الممتدة أمام غرف المستشفى الجنوبى. وبدون سبب واضح قمت من مكانى إلى داخل الغرفة. شئ ما دفعنى دفعا إلى ذلك. ووقفت أمام خالى تماما وهو مسجى على ظهره، يتأوه. وكانت أمى نعمة تحمل مروحة يدوية، مصنوعة من السَعَف المضفور، ومزينةٌ حوافها بخيوط ملونة كثيرة، تحركها فوقه يميناً ويساراً، محاوِلة تحريك بعض الهواء. وكان رجال يجلسون أو يقفون حوله فى غيرما تناسق. وكنت أنظر مباشرة إلى عينيه وهو يفتحهما ويغلقهما، باستمرار، من الألم. ثم وفجأة، فتحهما ونظر نحوى نظرة طويلة، مليئة بالكراهية، ثم أغلقهما وإلى الأبد. كان عمرى وقتها لم يتجاوز الثلاث سنوات إلا بأيام.
قبل انقضاء الإسبوع، سمعت بثينة زوجة خالى تحادث أمى وهما متكئتان على عمود فراندا غرفة جدتى. قالت إن خالى زارها فى المنام، وكان منفعلا وغاضبا:-
- إن عبدالمنعم قد قصَّر عمرى، فيومى لم يحن بعد، ولكن هذا الولد الوسخ عجل به
ليلا نادتنى جدتى وأعطتنى صحنا فيه أرز بلبن، عملته، قالت، صَدَقَة.
تـَتـَفَّنْتُ بجانبها على الارض، ألحس مافى الصحن، حين رأيت كتلة من الأرز تمسك بعضها بتلاليب بعض، فسألتُ جدتى وأنا أغرس أصبعى فى وسط تلك الكتلة:
- أهذا هو السرطان؟
نظرت الىَّ نظرة طويلة، غريبة، ثم قال:
- قتلتنى ياولدى.
ثم بعد ذلك أشاحت بوجهها، بل وتجنبت تماما أن تنظر ناحيتى، طيلة تلك الليلة.
صباح اليوم التالى اصابتها حمى، فهرعوا بها إلى المستشفى. عند الظهر سمعت من يقول بأنها الحمى الملاريا، وفى العصر قيل إنها قد تعافت، ومع آذان المغرب جاؤا بجثمانها من المستشفى، ملفوفا فى ثوب أبيض.
يبدو أن العمر قد تهدمت بناياته فوق ذاكرتى، فطمست كثيراً من معالمها، ولم أعد أذكر أغلب الحوادث المماثلة.
عبود ابن عمتى حواية، كان دائما يقول إن نعوم بعاتى! بل وإن جدتى لأبى "بخيتة" كانت تقول بأننى اشبه جدها لأبيها وقيل إنها قد قالت لوالدى يوم مولدى:
- الله يسترنا من ولدك هذا! الخالق الناطق جدك ابراهيم الحور.
وقد كان هذا سبباً فى خصام دام أبد الدهر بينها وبين أمى نعمة. وقد سمعت من سلوى، بنت خالتى بلح الشام، إن اغضب ما أغضب أمى، حين راحت جدتى تشرح فكرتها، يوم سمايتى، لعدد من خالاتى وعماتى، وبعض قريبات متفرقات، حيث ادعت أن جدها كان سحاراً، من جزيرة ناوا، وأنه كان فى كل سنة، ومع ارتفاع منسوب النيل، لابد له من طريدة يفترسها وحده على شاطئ جزيرة النمنم المنعزلة ، وسط النهر، بعيدا عن مخاليق الله، الذين لم يكن أحد منهم يجرؤ على الاقتراب من ذلك المكان. ومضت جدتى تحكى أن جدها، ولمّا لم يجد فريسة فى سنة من السنوات، أكل ابن عمته الدشونى، بعد أن خدعه واستدرجه بعيداً عن أعين الناس. وإن كان بعض الناس قد قالوا بأن تمساحا افترسه، إلا أن غالب أهل البلاد ظل يصدق رواية صالح الكشمبير من أن جدى هو الذى افترسه.
جدتى بخيتة كانت تحبنى بشكل خاص. وكانت تسترضينى عندما أغضب بمغريات كثيرة، منها، على ما أذكر، فواكه الدوم والبلح واللالوب، وحلويات شتى تأت بها من أين، لا أدرى! فهى لا تخرج من البيت قط. وعندما تأتى من البلد فى الشمالية، تبقى قعيدة فى البيت، لاتخرج لفرح أو ترح حتى يحين موعد عودتها الى الشمالية مرة أخرى. أذكر إننى نهضت من سريرى فى ذلك الصباح الباكر جدا، وذهبت الى حيث جلسَتْ جدتى تتوضأ، إكفهر وجهها بشكل عجيب. ونظرت الىَّ بإسترابة وكراهية بادية، وصرخت فى وجهى:
- أمشى من هنا. الله يلعنك يامسنوح!
ووقفت أمامها غير مبال، أنظر في عينيها، فترة من الوقت، وقد تغير حالها، وتبدلت هيئتها، ثم تركتها وعدت إلى مرقدى.
قبل انقضاء ظهيرة ذلك اليوم. كانوا يحملونها إلى المقابر، وكانت سانحة طيبة لى أن أذهب وأتفسح معهم قليلا. فأنا لم أذهب إلى المقابر من قبل، رغماً عن أننى تسببت فى إعمارها بوافدين جدد، وبشكل شبه يومى، وأنا دون الخامسة من عمرى.

أقف أمام المرآة، متسمرة عيناى، تنظر، مباشرة، فى عينىَّ، المنعكستين، من صورتى الماثلة فى هدوء وإستسلام، أمامى. جسدى استحال الى كتلة ثقيلة، ستتصدع، لا محالة فى لحظة ما، هاوية بى الى الأرض.
فى ذلك العام، أدخلونى المدرسة الاولية، رغم صغر سنى، حيث كان عمى السنوسى ناظراً للمدرسة. وقبل مضى اسبوع واحد من بداية السنة الدراسية، وفى أثناء حصة الدين، وهى الحصة الثالثة، وجدتنى اترك الفصل، حتى بدون استئذان، وقد حملتنى قدماى إلى جوار نافذة السنة الرابعة. وقفت أنظر إلى عمى وهو يتحدث إلى التلاميذ، وما أن نظر ناحيتى، حتى شعرت بمايشبه الوخذ داخل عينى. وفى نفس اللحظة توقف عمى عن الكلام، وراح ينظر إلىَّ فى صمت، ثم ألقى بالطباشيرة من يده وغادر الفصل، وأنا أتتبعه ببصرى حتى خرج من باب المدرسة، فعدت إلى مقعدى فى الفصل. الأستاذ لم يسألنى، وأنا لم أقل شيئا.
بعد نهاية اليوم الدراسى، عدت إلى البيت، وألقيت بحقيبى فوق السرير الكبير كما أفعل كل يوم، ثم انطلقت الى الشارع لألعب البلى.
نادانى حسن، شقيقى الذى يكبرنى بعام، وقال إن امى تريدنى حالاً. ظننتها تنادينى للغداء، فقلت له أنا ماجوعان. فقال إن عبود ابن عمتى جاء ليخبر أمى إن عمى السنوسى قد مات.
كنت ابن عشر حين جاء عمى الزبادى من البلد. لا أعرف لماذا سموه الزبادى، إنما نحن قوم نشأنا على ماوجدنا عليه ابائنا. كانوا يقولون له لطفى الزبادى. وكان اسمه فى الأصل عبد اللطيف، فقالوا لطفى، تحببا. هو نفسه كان لايتحرج من الإشارة لنفسه بالزبادى! أذكر مرة أرسلنى لشراء شئ ما من كنتين اليمانى فى ناصية الشارع وأوصانى بقوله:
- قل لليمانى إن عمى الزبادى قال لك...
لا أذكر بقية التفاصيل، ولكننى سمعته ينادى نفسه بالزبادى، وكانو يتنادونه بالزبادى فيلتفت الى المنادى أو المنادية.
والدى وحده ما كان يقول كلمة الزبادى تلك، كان يناديه بعبد اللطيف، على عادة والدى فى الاستقامة، كعامود النور، لاتجد فى حياته شيئا من إلتواءات أهل المدن الكبيرة. حتى كلمة لطفى، السائدة، خاصة بين نساء الحوش، لم أكن اسمعها عنده. كان يسمى الأشياء بأسمائها، وينادى الناس بأسمائهم. أنا الوحيد الذى تنازل واختصر اسمى. فعلى الرغم من أن اسمائى وألقابى كانت متعددة وفسيحة، إلا أنه اختار فقط اختصار الاسم إلى منعم بدلاً عن عبدالمنعم!
أمى وأخواتى وكافة النسوان فى بيتنا، كن يناديننى بنعوم! وبعضهن كن يميعنه أكثر، يقلن "نعومة". جدتى كانت تقول لى "البُنْ" لأنها حين كانت تجلس لتقلى البن كنت أجلس إلى جانبها وألتقط حبات البن المقلية وأقرشها! عمتى عوضية كانت قد صغرت اسم البن، تدليعا، إلى اسم "البِنِينَة"!! بعض خالاتى كن يناديننى ب "اللكوم" لا أعرف لماذا! ربما تشبيها بحلاوة اللكوم الشهيرة فى تلك الأيام. عبود كان ينادينى بالبعاتى! وكذلك كان يفعل بقية أولاد عماتى وبعض الأولاد فى بيت جدى الكبير فى حى السوق. بينما كان غالب أهل أمى ينادوننى إما بمنعم أو نعوم أو اية واحدة من تلكم الاسماء التى تصكها خالاتى بين الحين والآخر.
كعادته، حين يجئ عمى الزبادى، فإن جوالات البلح تأتى معه فى نفس اللورى، ترافقها سلال مصنوعة من السعف محشوة بالبرتقال واليوسفى، ومغطاة بقطع من الخيش الذى تتم خياطته على دائر محيط السلة.
عمى ماكان محبوبا جداً، وكذلك لم يكن مكروهاً جدا! كان فيما يبدو يعانى من نقص فى استحلاب عواطف الآخرين. لم أكن اعرف له زوجة أو أبناء، وماكان هو يبقى عندنا طويلا، إن هى إلا بضعة أيام ثم لانراه إلا بعد عام أو نحو ذلك. وإن كانت تكثر الإشارة إليه فى أحاديث الناس الكبار، سلباً أو ايجاباً.
كان قد اغتسل لتوه من غبار السفر، ووضع حقيبته الحديدية الصغيرة فوق السرير الخشبى فى الفراندا الملحقة بالغرفة الخلفية فى حوش جدى، وراح ينبش فيها عن شئ ما، حين التفت ورآنى أنظر إليه، وأنا متكئ على عامود الفراندا. أفلت السيجارة من فمه، ووقف مصعوقا يحدق فىَّ، ثم مالبث أن انكفأ على وجهه، نصفه فوق الحقيبة الحديدية، وباقى جسمه إلى الأرض، وراح يرفس بيديه ورجليه، ويصرخ من ألم ما، وهو يلف يديه بإحكام حول عنقه.
أسرع إليه والدى من داخل غرفة جدى، وأزاح الحقيبة بيده إلى الأرض، ثم مدده فوق السرير وهو يصيح فيه:
- يازول... قل بسم الله! مالك؟
تركتهما هنالك وذهبت إلى حيث جوالات التمر قد رُصت فوق بعضها البعض. فقأت بأصبعى واحداً منها، والتقطت بعض التمرات، ورحت فى حال سبيلى.
مساء ذلك اليوم حمل المشيعون نعش الزبادى إلى المقابر. كان الوقت ليلاً، أو هو بالليل، فلم أجد فى نفسى رغبة فى تتبع الجثمان، فدخلت إلى الغرفة الكبيرة ونمت.
أحس الآن بأن روحى قد صارت تتسارع فى مغادرة جسدى، أسمعها تهرول بداخل أحشائى صاعدة إلى أعلى.
انتبهت فى البداية إلى ذلك الوخذ فى عينى اليسرى وأنا أحدق فى أعين الناس الذين يموتون فى نفس اليوم أو فى اليوم التالى على الأكثر. أحيانا يكون الوخذ شديداً فيحدث الموت فى اللحظة والتو. وأحياناً تستتبعه حكة فى جوف العين فتؤلمنى ولكننى لا أستطيع أن أبعد عينى عن الضحية، فصارت عادة عندى أن تكون عيناى مليئتين بالدمع، يسيل من جانبيهما بسبب وبدون سبب. كنت قد بدأت أتشكك فى الأمر وأنا فى المدرسة الوسطى. ولكننى لم أفكر فى الأمر بشكل جدى إلا وأنا فى المرحلة الثانوية. خاصة بعد أن بدأت أعانى من نوبات الصداع النصفى، والذى يعقب كل عملية أتورط فيها.
قبل ذلك كانت الأحداث تتوالى، ولا أعبأ بها إلا فى حدود ضيقة. حتى جاءت حادثة التدريب العسكرى.

كنا نقف فى طابورنا العسكرى، بعد نهاية اليوم الدراسى، نتلقى تعليمات عمنا الصول حاج حسين، حين شعرت بشئ ما يدفعنى دفعا للخروج من الطابور! وهو طبعا أمر غير مألوف ولا مسموح به إلا فى حالة الإصابة بمرض مفاجئ، وبعد إسئذان قائد الطابور. الذى حدث هو أننى وجدت نفسى أُغادر الطابور، دون إستئذان، وبشكل مفاجئ. وكانت قدماى تقوداننى قسراً نحو موضع الأزيار تحت شجرة النيم الضخمة. لم أكن أشعر بأى عطش. كل الذى فعلته، أننى وقفت عند الأزيار أنظر ناحية المراحيض، عند الطرف الشمالى للمدرسة، عندما خرج أستاذ عمر النور من خلف الحائط، الذى يستر صف المراحيض. ومضى فى طريقه نحو الحنفيات. غسل يديه، ثم جاء إلى حيث الأزيار.
أستاذ عمر النور، من أبناء الجزيرة إسلانج، شمال المدينة. تحديداً، من السروراب. تخرج فى معهد المعلمين العالى، وصار إلى تدريس التاريخ فى المدارس الثانوية.
يمكننى القول بأنه كان إنساناً جيداً، بمقاييس الجودة فى ذلك الزمان. كان صديقاً لنا بحكم قرابته لفاروق الطاهر المك، صديقى وزميلى فى الفصل. وقد كنا، فى كثير من الأحيان، نقضى عطلة نهاية الأسبوع، عند أهله فى السروراب. وكنا نراه ونجالسه خارج حوش المدرسة، أحياناً، عند أهله فى شمال المدينة، أو فى مقهى يوسف الفكى بجوار السينما الوطنية، بعض أمسيات الخميس.
شعرت بوخذ مؤلم فى عينَىَّ، حتى إننى فكرت أن أدعكهما. ولكن يدىَّ رفضتا أن تبرحا مكانهما إلى جانبى. وكأننى أُصبت بشلل ما.
وقف الرجل فى مواجهتى تماما، يفصل بيننا زير أسود كبير. علت وجهه إبتسامة وادعة وهو يحاول تحيتى، بينما انشغلت يده مع علبة اللبن المجفف الفارغة، والتى نستخدمها، بديلاً عن الكوب، لشرب الماء. تجمدت يده فى الهواء، ثم ارتعشت قليلا، وعيناه لا تزالان تنظران ناحيتى، وقد اختفى السواد بداخلهما، واستحالتا إلى بياض جيرى، تخالطه بعض غبشة. واستحال الألم فى عينىَّ، إلى شبه لهيب لايطاق، وقد إمتلأتا بماءٍ، سال على خدى حتى لامس شفتى، ونزل بعضه إلى فمى. كان طعمه مثل اللبن الرائب، وله رائحة مثل البول. ثم خر جسده إلى الارض دفعة واحدة، دون أن تفارق الابتسامة الوادعة شفتيه.
تركته فى ذلك المكان، واستدرت عائداً إلى الطابور العسكرى، المنتصب على ملعب الكرة الطائرة، أمام البوفيه.
ما لم ألحظه من قبل، وأثار بعضاً من استغرابى، هو أن الطابور كان مكتملاً! ولايوجد أى خلل فى صفوفه المتراصة! فقد كنا فى مجموعنا ثلاثين طالباً. وكنا نشكل ستة صفوف بواقع خمسة طلاب عسكريين فى كل صف ويقف اسماعيل روما، رقيب أول الفصيلة، فى مقدمتنا، بينما فى مؤخرة الصفوف، يقف الوكيل عريف فتحى حسن بشير. وكان موقعى الدائم فى منتصف الصف الأول، نسبة إلى قامتى القصيرة نسبياً. ولكننى، وأنا اقترب حثيثاً من الطابور، لم ألحظ ان مكانى خالٍ! بل كنت أقف فى مكانى بالضبط! ورأيتنى منتبه مثل البقية إلى عمنا الصول وهو يشرح شيئاً. واقتربت من نفسى، قليلاً، قليلاً، وأنا أتاملنى فى صفائى ذاك، حتى التحمت بنفسى فى هدوء، وصوت عمنا الصول يجلجل فى السكون ببعض أسماء أجزاء البندقية فى يده.
ولم ينخرب انضباطنا، إلا حين وصلت مسامعنا أصوات صراخ وعويل الطلاب وهم يتعثرون فى جثة أستاذ عمر النورقرب المزيرة.
فى اليوم التالى، سألت اسماعيل روما، إن كان قد لاحظ شيئاً غريباً فى طابورالأمس،فقال شيئاً عن قطة سوداء عبرت مسرعة أمام الطابور، وهو أمر يحدث كثيراً، حيث تخبئ جوالات الفحم خلف البوفيه، جيوشاً من الفئران، تتربص بها كتائب من مليشيات القطط السمينة، مختلفة الأحجام والألوان.
مرة وجد أولاد العوادة، رأس قط مذبوح، ومدفون فى الخلاء، شرق المدرسة. وقد سرت إشاعة خبيثة بين الطلاب أن صالح عكود، يقوم بذبح القطط، وطبخها. وتقديمها لنا باعتبار أنها لحم ضأن. الأمر الذى جعلنا لانأكل فى البوفيه، سوى الفول، والعدس الصريح. حتى حصلت حادثة العقرب.
سمعنا أن عقرباً صغيراً، قد تم العثور عليه، داخل العدس المطبوخ، فى القدر الكبير، قبل لحظات من جرس فسحة الفطور. وعلى الرغم من أننا توقفنا عن أكل العدس، فترة ليست قصيرة. إلا أننا عدنا لتناوله، تدريجيا، ثم، ولأن ذاكرة الإنسان، فى مثل هذه الأمور، قصيرة جداً، رحنا نلتهمه بنفس درجة الشراهة القديمة. لأن طعم العدس فى مطاعم المدارس، يختلف عن طعم أى عدس آخر.
ثم سرت إشاعة أخرى تقول إن أولاد العوادة إنما يصنعون هذه المآسى صنعاً! فهم من عثر على رأس القط الذبيح. وعبد الحافظ العوادى هو من وجد العقرب داخل إناء العدس. وطه العوادى هومن إكتشف الثعبان داخل فصل الرازى. ونمر العوادى، وحده، من شاهد البعاتى، وهو يقفز خارج سور المدرسة، من جهة المقابر، فجراً، بعد أن شرب الحليب، والذى يتركه الباعة، عادة، أمام باب مطعم المدرسة.
فى الحقيقة، كان أولاد العوادة يشكلون عبئاً على العملية التعليمية برمتها. على الرغم من أنهم كانوا من المبرزين فى دراستهم. كانوا عصبة، وأُولى بأس. يحلون معاً، ويرحلون معاً. ولا أذكر أننى رأيت أحدهم يسير وحده، داخل أو خارج المدرسة، إلا مرة، أو مرتين. حتى كان ذلك الصباح الماطر، قرب نهاية العام الدراسى. أذكره جيداً الآن. كنا فى الحصة الاولى، وكان المطر يهطل بغزارة فى الخارج، لهذا كان جميع الطلاب داخل الفصول. وجدتنى أنهض من مقعدى، وأُغادر الفصل، لأسير فى آلية غريبة، ناحية معمل العلوم، على الجانب الشمالى الشرقى من المدرسة.
كان طلبة فصل ابن رشد، يتحلقون حول المنضدة المستطيلة، فى منتصف المعمل. ربما كانوا يقومون بإجراء واحدة من تجاربهم المعملية، وكان أستاذ السيسى يتحدث بصوته الخافت، عند السبورة العريضة، المتدلية من السقف، بإرتفاع حائط المعمل.
وقفت خارج باب المعمل، تحت كثافة قطرات المطر المتساقط علىَّ، دون أن أكترث. كان ظهرى مسنود إلى الإطار الخشبى للباب، ووجهى بإتجاه بوابة المدرسة الكبيرة، فى منتصف الحائط الشرقى للمدرسة.
كان أولاد العوادة الثلاثة قادمون من ناحية البوابة فى اتجاهى، وهم يهرولون وقد رفعوا فوق رؤوسهم ألواحاً من الورق المقوى أو الكرتون، لا أذكر. وكانوا، كعادتهم، يتضاحكون فى جلبة عظيمة.
فى المقدمة كان نمر العوادة، والذى تخطانى إلى داخل المعمل. ثم تلاه حافظ، كما كنا نناديه، ولسبب ما تأخر طه عن رفيقيه ببضع خطوات، جعلته فى مواجهتى تماماً. تجمّد الولد، وهو يحدق فى عينىَّ فى إستسلام مخيف!
تركته فى مكانه ذاك، وعدت إلى مكانى فى الفصل.
حين تخطيت عتبة المدخل، رفعت بصرى، فرأَيْتـَنى. كنتُ أجلسُ هادئا أكتب شيئاً على الكراسة المفتوحة أمامى. وكان بقية الطلاب منهمكون فى نفس الأمر، بينما كان صوت أستاذ جعفر القوز يجلجل من آخر الفصل بأبيات من الشعر لا أذكر لمن من الشعراء.
واصلت سيرى بنفس الهدوء والآلية التى خرجت بها، ثم وجدتنى التحم بنفسى مع رعشة خفيفة، تشبه رعشة حمى الملاريا عند بداية طور النقاهة. رأيتنى، وقد كنت جافاً تماماً، وكأننى ماسرت تحت كل تلك الأمطار، ثم، وبعد لحظات نسيت الأمر كله، حتى سمعت جلبة وصراخاً فى بعض نواحى المدرسة، وقيل لنا، إن طه العوادى، قد داهمته اعراض إلتهاب الزائدة الدودية، وإنه قبل أن يتم نقله الى المستشفى، أخرج دماً من فمه، ثم مات.


هاهو الموت يقترب منى. لقد جاء دورى إذن. والروح ترتفع الى اعلى جسدى مخلفة جسدا لاحراك به، جسدى.
تمدَّدَت إنشغلاتى بأفعال الموت، لتشمل مئات، بل آلاف الناس. الذين أعرفهم، والذين لم التق بهم، إلا لحظة التقاء العيون المصيرية. رجالا ونساء. شيوخا وأطفال. لم أتردد لحظة، حين يداهمنى الأمر، فى الإيفاء بمتطلبات المهمة الموكولة الىَّ! صرف النظر عن درجة القرابة التى تربطنى بالضحايا. وربما كان هذا سبباً فى اننى لا أعرف معنى الحزن! فأنا لم أحزن على وفاة إنسان قط. لم أحزن حتى عند وفاة والدى، والذى راح ضمن كوكبة من الرجال، ذهبوا لأداء واجب عزاء فى المسلمية شمال مدنى، حين إنقلبت بهم العربة نواحى المسعودية. وأن كنت قد شعرت ببعض الحزن عند موت أمى. وإن لم يدم ذلك الحزن إلا يوماً أو بعض يوم.
الغريب، أننى أخذت فيمن أرحتهم من عذاب الدنيا، عدداً من الحيوانات!! تحديداً، قطتين، ومعزة،وتمساح، وعتود!
كانت القطة الصغيرة قد قفزت، لتوها، من حائط فى الجوار، إلى الطريق. فوجدتنى أمامها، مباشرة. رفعت رأسها، تنظر إلىَّ، ثم ماءت موائاً كئيباً، موحشاً، كنواح خرساء عند قبر طفلها! ونفشت جسمها الهزيل، وضخّمته، حتى صارت فى حجم النعجة. ثم كشرت عن أنيابها، ثم أصدرت صرخة يائسة، وهربت مندفعة من أمامى! لم تتجاوز فى فرارها ذاك سوى بضع قفزات، لتجد نفسها تحت عجلات سيارة مسرعة، عَجَنَتْهَا فى مكانها ذاك، ومضت لاتعبأ بشئ.
أما القطة الثانية، فقد كانت ترقد فى سلام، عند مزيرة التومة، زوجة خالى النور عبد الكريم. وجدتُ مقعداً خشبياً، فجلست عليه، أرقبها فى نومتها تلك. تمطت، ثم تثاءبت قليلاً، ثم رفعت رأسها تنظر نحوى، قليلاً، ثم عادت تواصل نومها. انتظرت قليلاً، ثم قمت إلى حيث مرقدها. لمستها بطرف حذائى، فى حذر، فلم تتحرك. أخذت مكنسة من القش، كانت مركونة إلى جوار المزيرة، وضربتها، فلم تتحرك. ألقيت بالمكنسة، ورحت فى حال سبيلى.
المدهش إنه، وفى حالة تعاملى مع غير البشر، لم أكن أحس بذلك الوخذ المؤلم فى عينى. حتى مع حالات الموت الفورى! ففى حالة العنزة، مثلاً، وكنت حينها فى بداية أيام عملى، كقارئ للعدادات، تبع الإدارة المركزية للكهرباء، وكانت درجة الحرارة، فى ذلك النهار، قد وصلت إلى ما لايمكن احتماله، فرحت أتصبب عرقاً، استعنت عليه بمنديل، بنفسجى اللون، فى طرفه رسم بائس، لقلب يقطر دماً، أو ماءً، لا أعرف.
عند منحنى الزقاق، الموازى للمجلس البلدى، والمفضى إلى الشارع، الذى يقود إلى السوق الكبير، وقد كان علىَّ أن أدخل بيوت الشارع بيتاً بيتاً، وعلى الجانبين، بغرض قراءة، وتسجيل بيانات العدادات، حتى آخر بيت، قبل المدرسة الأميرية، مباشرة. وهناك عند المنحنى، كانت العنزة تقف فوق تل صغير من القمامة، المتكومة، إلى جانب أحد الحوائط. كانت سوداء، يخالط شعرها بعض بياضٍ خشن. كانت تمضغ شيئاً فى استرخاء، أو لعله بعض استمتاع، فلم أتوقف عندها،بل واصلت مسيرى، وإن كانت عيناى قد تركزتا بشكل جدىٍّ على عينيها، وهى غير عابئة بى، إطلاقاً، ثم رفعت عينيها إلى عينىَّ. إن هى إلا نظرة واحدة فقط، ثم تكومت على الأرض جثة هامدة.
أما التمساح، فلم تكن حكايته تختلف كثيراً عن بقية حكاوى الموت.
كنت فى حى الموردة، أجلس فى الخيمة، مع المعزيين، فى وفاة زوج إبنة عمتى ثريا النضيف، حين وجدتنى اندفع بقوة عجيبة، مغادراً الخيمة، ثم الحى بكامله، فى اتجاه شاطئ نهر النيل. كان هنالك خروف مربوط، إلى وتد خشبى، غريب الشكل. وكنت قد أدركت من الوهلة الاولى، أنه ليس هدفى! فجلست عند حافة النهر، أحدق فى مكان ما، وسط النهر. هناك قرب الشاطئ الآخر، رأيت كتلة سوداء تتحرك فى استرخاء يميناً ويساراً. ثم اندفعت، فى شئ من السرعة، ناحية الجنوب. فظللت أتابعها ببصرٍ حاد، حتى اختفت مع خط أفق الماء، ولم تغفل عيناى لحظة، عن نقطة اختفائها، لتعود وتظهر مرة أخرى متجهة إلى منحدر النهر شمالاً. ثم، وبشكل مفاجئ تماماً، غيرت اتجاهها، وإندفعت، فى سرعة عالية، إلى حيث أجلس، لا تكاد تفصلنى عن الزبد الذى يتكسر عند اليابسة، إلا خطوة واحدة، أو أقل. وظللت فى مكانى لا أتحرك، والشئ الأسود يندفع ناحيتى، وقد زادت سرعته، لدرجة أننى رأيت الماء تحته ينشطر إلى جزئين، يرتفعان الى جانبيه، فيتركا شريطا طويلاً خلفه. وظللت، فى إطمئنانى ذاك، لا أتحرك. ثم ارتفع، وهو لايزال على سرعته، فظهرتمساح كبير، يلمع الماء فوق جلده الداكن السواد. وظل يقترب من مجلسى ذاك، حتى وصل إلى المياه الضحلة، فوق حِصِى الشاطئ، ليخرح بجسمه كله، ثم يبدأ فى الركض على أربع، وفمه مفتوح إلى آخره، كاشفاً عن تركيبة غريبة من الأسنان الحادة، بعضها فوق بعضٍ، وبعضٌ تحت بعض. ولم يبق بينى وبينه سوى بضع خطوات. كانت عيناه غريبتين. ليس فيهما بياض، انما هما بًنيتين، لامعتين، يشطرهما خيط بلون الطوب المحروق الداكن من أعلى إلى أسفل. وكانتا قد تركزتا فى عينىَّ بشكل مصيرى، حين دوى صوت طلق نارىٍ فى مكان ما من خلفى، ثم ارتفع ذلك الجسد الضخم فى الهوا،ثم سقط مرة أخرى فوق الماء. ورأيته يرفس برجليه وذيله بعنفٍ ثم همد مرة واحدة، والمياه من حوله تكتسى باحمرار غزير.
قمت من مكانى ذاك، أنفض التراب، الذى علق بجلبابى السمنى اللون، ولم أعبا حتى بالنظر ناحية مصدر الطلق النارى، بل، ولم أعبا بالرجال والنساء والاطفال، الذين دفعهم الفضول للخروج، والتجمهر فى مجموعات صغيرة، ما أن تتكون، حتى تنضم إلى جموع أخرى متجهين ناحية شاطئ النهر. وعدت إلى بيت العزاء.
بعد نحو شهر أويزيد، وقد كنت أسير امام مركز الشرطة، لفت انتباهى بعض الجنود، وهم يقومون بتعليق الجسد الضخم فوق بوابة المركز. وكانت العينان لاتزالان مركزتين على عينىَّ، فأدرت بصرى الى الناحية الاخرى ومضيت فى حال سبيلى.
أحس بالبرودة تسرى فى كامل جسدى. وهاهى قواى تخور بالتدريج. وأنا لا أزال أُحدق فى عينىَّ، المنعكستين من المرآة، أمامى.
كنت أقوم بأداء مهامى الجنائزية، فى اتقان دقيق. ولم أكن لاتوقف عند حائط، أو سلك شائك منصوب امامى. كنت اتخطى أية عقبة، فى طريقى، للوصول الى هدفى. وكنت ادخل اكثر الامكنة حصانة، وأتجاوز اكثفها حراسة. مثلما حدث مع ذلك الشخص، الذى يبدو أنه من المهمين فى البلاد.
كانت جمهرة من الناس، تقف على الرصيف، عتد مدخل البلدية. رجال فى جلابيب بيضاء، تعلوهم عمائم، مبرومة فوق رؤوسهم. وبعض فى بذلات افرنجيات، غالبها رمادى اللون، وقليلات ذات لون أزرق، أو أسود. ورجال فى قمصان وسراويل، مختلف ألوانها. وكانت نساء فى ثياب بيضاء، خالصة، من غير سوء. بعض يحمل لافتات كبيرة من القماش، عليها كتابات كثيرة. وآخرون يحملون أوراقا ملونة.
كان الشارع نظيفا على غير العادة. وخال تماما من حركة السير المعتادة فى مثل هذا الوقت من الصباح. كان رجال الشرطة ينتشرون مثل النمل، فى أزيائهم العسكرية، يحملون البنادق، والعصى، وكل ما من شأنه أن يساهم فى ايذاء الناس. وكان رجال الأمن فى مختلف انواع ملابسهم المدنية، من جلابيب وملابس افرنجية، بقمصانها ذات الاكمام الطويلة، وذات الاكمام القصيرة. بعضها محشور بداخل السراويل، والبعض يترهل فوقها منسدلا بغير ترتيب، أو هندمة. يمنعون المتطفلين، والسابلة، والعوام، من الاقتراب من المكان. فلم يكن هنالك الزحام اليومى عند كشك بيع الدمغات. ولم يكن هنالك ناس يجلسون، كما العادة، على احجار الرصيف. ولم يكن ثمة مجموعات ملمومة تتجادل بصوت مرتفع عند ناصية من نواصى المبنى، ولم يكن الزحام اليومى حول بائعات الطعام. بل لم تكن النسوة البائعات، بثيابهن الملونات، وسلالهن السعفية الكبيرة، والقدور الضخمة، المصنوعة من الالمونيوم، مرصوصة، عادة، امامهن. اختفين فجأة. بل اختفى كل مظهر من مظاهر الحياة اليومية التى تطرز المكان، وتمنحه شخصيته، التى يتعارف عليها الناس. فلا المكان عاد نفس المكان. ولا الشخوص هم الشخوص. فى ذلك الصباح، لاحظت أن كل شئ تغير.
زحفتُ بين الجموع، متخطيا الافراد والجماعات، ومخترقا الصفوف، حتى وجدتنى فى الصف الاول. وكان صوت سرينة الشرطة، فى خلفية المشهد، يرتفع قليلا قليلا، حتى صار من العلو، تحسبه قد التصق بأذنيك. ثم لاح عند الناصية شرطى على دراجة بخارية، كانت مصدرا للسرينة المزعجة. تلتها عربة من عربات الشرطة الزرقاء، ثم عربة اخرى بيضاء، ثم لحظات وتتالت العربات، وتكاثرت، متجهة نحو مكان وقوفنا. لحظات، ثم وقفت واحدة بالضبط امامنا. كانت سوداء كبيرة، ليست ممن اعتدنا على رؤيتهن فى الطرقات. وانفتح بابها، فتقدم اضخم الحاضرين، خطوات، لحظة وقوف العربة، لاستقبال الاضخم منه، الذى ترجل من جوفها فى جلباب ابيض، تعلوه، هو الآخر، عمامة، منبرمة فى شموخ فوق رأسه، ونزل فى تمهل يليق بالشخصيات المهمة، يحمل عصاة من الابنوس فى يده، سرعان ماحولها الى يده الأخرى، ليصافح الرجل امامه.
نظرت اليه، كان ضخما، فى غير افراط، لونه يميل الى البياض، وان ظل انفه افطساً، كأنوفنا جميعا، تميزه ثلاثة شلخات دقيقات، على صفحتى وجهه، مبتسما، فى نعومة ويسر. ثم صار الى مصافحة الناس امامه، واحدا تلو الواحد. رفع نظرة مهملة، ناحيتى، سرعان ماتسمرت مكانها. شعرت به يجاهد لانتزاع عينيه من عينىَّ، دون جدوى. وكانت عيناى قد امتلئتا بالدمع غزيراً جدا. ثم فى لحظة ما، سحبتهما من عينيه واستدرت اغادر المكان. عند الظهيرة، وقد كنت عائدا من السوق، احمل كيسا، من الورق، بداخله بعض الخضروات وقليل من اللحم، كانت اميرة قد ارسلتنى لشراءها، سمعت الناس يتهامسون عن وفاة مفاجئة، لواحد من الزعماء الكبار، لعله كان وزيراً أو أميراً لا أعرف. قيل ان عربة انقلبت به نواحى النيل الابيض، فى طريقه الى الدويم، او القطينة، لا أعرف. ولم أهتم بالامر على الإطلاق، فلدى من مشاغل الدنيا، والآخرة ما يجعل اهتمامى بمثل هذه الامور، بعض من اضاعة الطائل، فيما ليس من وراءه طائل.

كم أدرك الآن خواء حياتى!
لا أذكر أننى لعبت الكرة يوماً مع أقرانى.
ولم أمارس من ضروب اللهو فى طفولتى، سوى لعب البلى. وحتى ذلك هجرته بعد موت عمى السنوسى.
وتركت التدريب العسكرى بعد موت أستاذ عمر النور. وأعدت إليهم الزى الذى صرفوه لى فى بداية السنة.
لم أدخل السينما ولا مرة، فى حياتى.
لم أتعلم التدخين، أو تعاطى الصعوط، خلافاً لكل أولاد الحلة. ولم أقترب من الخمر بتاتا. والغريب اننى لم أركع فى حياتى ولا مرة!! بل ولم أدخل مسجداً قط. وحتى لا أعرف كيف هو شكل المسجد، من الداخل.
ولا أذكرأنني استمعت بتركيز لأية اغنية. ولم أحضر حفلا غنائيا، فى اية مناسبة، عدا يوم زواج نعمات بنت خالتى فتحية.
وفتحية لم تكن خالة لى بالتمام، وإن كنا نقول خالتى، تأدباً، كما عودونا.
ذلك اليوم، الذى أخذت فيه روح الرجل الذى جاء يغنى فى الحفل، فأخذت أحدق فيه طوال الليل، ولم يكن هو ينظر ناحيتى قط. كان كلما انتهى من الغناء، يدخل إلى الديوان فى حوش بابكر الحضرى، والد العروس. وكانوا يشربون قليلاً، ويأكلون قليلاً، ثم يعودون للغناء. وكنت أنا فى مكانى ذاك، لا أغادره، حتى انتهى الرجل من غناءه، وذهب فى معية نفر من الرجال إلى الديوان، وكان واضحاً أن الحفل قد انتهى. فتبعته إلى حيث جلس يشرب خمراً أفرنجياً، ووقفت غير بعيد منه أنظره، فرفع إلىَّ بصراً عليلاً ، بفعل ما عبَّه من شراب، ثم تناول الزجاجة، وراح يشرب منها وهو ينظر إلى، مباشرةً فى عينىَّ،حتى إذا أتى عليها، ألقى بها فارغة إلى الارض. تركته فى مكانه ذاك. وذهبت إلى سريرى لأنام. ومن مرقدى ذلك سمعت هرجاً وصياحاً، ولم اسأل. فى الصباح التالى سمعتهم يتحدثون عن أن الرجل راح كالمجنون يفرغ فى جوفه الزجاجة تلو الزجاجة، بعضهم قال إنه شرب ثلاث زجاجات، ويقولون أربع، وأقسم بعضهم إنهن سبع زجاجات. ولم ىكن الأمر يعنينى فى شئ، فعند الظهر جاء من يقول بأن الرجل قد مات، فى المستشفى جرَّاء كحولى.
وكنت قد تعلمت لعب الورق، فترة، ثم هجرته، مباشرة بعد يوم المرحاض. وهو اليوم الذى أخذت فيه روح العتود.
كان العتود مملوكاً لخالتى بنت بربر، وكان حراً، طليقاً، طوال الوقت. يقفز من مكان إلى آخر داخل حوش الكريماب، نسبة إلى جدى عبد الكريم. والحوش، كان أشبه بالمتاهة. يبدأ عند باب السنط الكبير، والذى يفتح على شارع الأمير شيخ الدين، ويمتد حتى باب الزنك، الذى يفتح على شارع الخليفة شريف.
بداخل الحوش، بُنيت مئات الغرف، مختلفة الأحجام، والأشكال، وإن طغى عليها كلها اللون الأغبش الداكن، بفعل الغبار، وبفعل طبقة الزبالة، المخلوطة بروث البهائم، والتى طُليت بها كل حجرات، وحوائط الحوش، بل والمدينة كلها.
وكانت كل مجموعة من الغرف والفراندات، قد فُصلت بحائط داخلى، به باب صغير، من الخشب، أو الزنك، وبعضها ليس فى مدخله سوى فتحة صغيرة فقط.
لا أذكر أن لصاً دخل االحوش. وإن كنت قد سمعت أن واحداً ساقه حظه الأعرج إليه، فى ماضٍ سحيق. واستيقظ السكان قرابة الفجر، على صوته، وهو يصرخ، طالباً معاونته على الخروج من هذا الشرك، الذى أوقع نفسه فيه. فالرجل ظل يدخل من حوش إلى آخر، ومن نفاج إلى نفاج، حتى أعيته الحيلة. فجلس على الارض يصرخ طالباً النجدة.
كنت متكئا على السرير الخشبى، المجدول بالحبال، والخالى تماماً من أى فرش، عند الحائط الذى يفصل حوش خالتى الرحمة عن بقية المستعمرة. وكان العتود يطارد بضع دجاجات، لا أعرف بالضبط، من يملكها. فلقد درجت على رؤيتها، فى الأيام الفائتة، تنتقل من حوش إلى حوش، تنقد ماتيسر من أطراف الزِرِّيعة، المشرورة فى أكثر من موضع. وكنت فى إتكائتى تلك، احتسى كوبا من الشاى الأحمر، بعد وجبة غداء كبيرة من الكسرة والبامية المفروكة، والسَلَطَة الخضراء المنوَّعة. وأنا أنظر إلى العتود فى تكاسل، ودون اى إهتمام حقيقى، حين دفر جدى عبد الكريم باب الزنك القصير، ودخل إلى حوش الرحمة. فاعتدلت فى جلستى، إحتراما لرجل العائلة الاول. ولكنه اتجه مباشرة إلى المرحاض خلف غرفة الرحمة، وعاد يحمل الإبريق ليملأه من الحنفية، قرب باب الحوش، ثم عاد به إلى المرحاض مرة أخرى.
عدت، واتكأت على السرير، مرة أخرى. ومددت يدى لآخذ كوب الشاى من على الأرض تحتى، عندما سمعت صرخة جدى. ظننت أن عقربا قد لدغته، أو أن ثعبانا هاجمه، فقفزت أركض ناحية المرحاض. والتقطت عوداً خشبيا غليظاً، وجدته فى طريقى. ولم أكد اجتاز غرفة خالتى الرحمة، حتى قفز خالى بابكر الصول من فوق الحائط، إلى داخل الحوش، وفى يده بندقيته، وهو يتسائل فى انزعاج بائن، عما حدث لوالده، الذى خرج من باب المرحاض وهو يلطم ويصرخ بشكل هيستيرى، مما يؤكد أن مكروهاً كبيراً ألم به. كان الحوش قد امتلأ عن آخره بالرجال والنساء والأطفال، وكان جدى مفزوعا يحكى فيما يشبه الهذيان، والناس من حوله يتصايحون. وعلمت أنه ما أن رفع جلبابه ليجلس على (المُرتَفَق) كما يسميه، حتى إنزلق جُزلانه إلى داخل الحفرة تحته.
كان الرجل منهاراً تماماً، وقد فهمت إن الجزلان كان بداخله أكثر من سبعمائة جنيه من القطع الورقية المختلفة. ففى ذلك الوقت من شهر رجب، يقوم الناس بشراء مايكفيهم من ذرة، لتزريعها، ومن ثم طحنها، لتنشغل النساء، بعد ذلك، بتجهيز، وتحضير العجين اللازم لعمل الحلومر. فشهر رمضان، ومايسبقه من شهور، تعتبر قمة موسم ازدهار سوق العيوش. وجدى عبدالكريم، كان تاجراً فى زريبة العيش. وضياع المال الذى كان بداخل الجزلان، يعنى خسارة جسيمة، لايستطيع احتمالها.
عمل خالى بابكر، على مساعدة والده المنهار، حتى أجلسه على السرير، الذى كنت قد تركته قبل قليل، واسرعت خالتى الرحمة، بعمل كوب كبير من عصير الليمون، وهى تنتحب، حزناً على مصاب والدها. بينما غادر خالى الحوش فترة ليست بالقصيرة، ثم عاد، وفى معيته ثلاثة رجال، غرباء، لم أرهم من قبل. وكانوا يحملون أدوات الحفر المعتادة، من فؤوس ومعاول وغيرها، وراحوا يتحدثون مع خالى، على غير مسمع منى، وإن كنت أراهم يتجادلون مع الرجل الذى كان، طوال الوقت يشير بكلتا يديه، كعادته عندما يتحدث. ثم خلعوا ملابسهم، ووضعوها إلى جانب الحائط القريب، وقد بدت أجسادهم الحالكة السمرة، بارزة العضلات، تلمع تحت الشمس. ثم بدأوا يحفرون عند محيط المرحاض، بعد أن هدموا حائطه الخارجى. حتى أحدثوا فتحة على جانب أرضيته، ثم طلبوا فانوساً، اسرعت به اليهم خالتى بلح الشام، فأشعلوه ثم ربطوه بأحد الحبال التى جلبوها معهم، وأنزلوه داخل البئر. وتعلقت بهم أبصار كافة سكان الحوش، من رجال ونساء وأطفال وقطط وكلاب وطيور متنوعة. تفرقوا فى كافة أركان الحوش، بعضهم يجلس على الأرض، او على ماتيسر من مقاعد وحجارة وغيرها، وبعض يقف أو يتكئ على أحد الحوائط. والجميع فى وجوم، لاتسمع معه إلا الهمسات، تدور بين الرجال، وهم قد مدوا أبصارهم، يفحصون بها محتويات البئر تحتهم، وقد وقف خالى الصول فوقهم يتفحص، ويجادل، ويشير بكلتا يديه.
استقر رأى الرجال أخيرا، فتوقفوا عن الجدل، وجلبوا حبلاً ثانياً، ربطوه على وسط واحد منهم، فارع الطول، ثم سرعان ماوقف عند حافة الفتحة، بعد أن وضع فوق أنفه مشبكاً خشبياً صغيراً، مما يُستعمل عادة فى تثبيت الملابس على حبل الغسيل، وقد راح أحد رفيقيه يحكم لف طرفه الآخر حول معصمه، فى إصرار وجودى صارم، بينما أمسك الآخر بالحبل من نقطة ما، قريبة بعض الشئ من صاحبه، والذى راح يتدلى، قليلاً، قليلاً، حتى إختفى داخل البئر. قمت من مكانى ووقفت بجانب خالى، أنظر إلى الرجل، وقد لامست قدماه سطح الماء تحته، وهو لايزال ينحدر نحو الأسفل، فى صمت وهدوء. إقشعر بدنى قليلاً عندما غاصت قدماه داخل بركة تعوم فوقها أشكال وأحجام متنوعة من الغائط، ولكن الرجل لم يكن ليهتم بذلك، فلقد إستمر فى الغوص إلى أسفل.وكنت أرى سطح الماء الراكد، والمعبأ بالكتل السوداء، يقترب قليلاً، قليلاً، من رأسه، ومن فمه، ومن أنفه تحديداً، حتى اختفى تماماً تحت الماء، ورحت أتابع ببصرى الحبل الضخم، وهو لايزال ينزلق فى سلاسةٍ، وهدوء.
خيل إلىَّ أن دهراً قد مر قبل أن أرى الحبل يهتز بعنف. فقام صاحباه بجرّه فى سرعة وقوة. رأيت الرجل معها ينسل من تحت البركة، قافزاً كالسمكة، ناثراً حوله إعصاراً من الماء والغائط، ثم راح يتأرجح داخل فضاء البئر، ورأيته يمسك بالحبل فوق رأسه بيدٍ، بينما أطبقت يده الأخرى على الجزلان فى تصميم.
راح صاحباه يسحبانه قليلاً، قليلاً حتى ظهر رأسه خارجاً من الفتحة عند طرف أرضية المرحاض، والعيون قد تعلقت به، فى صمت، ثم راح بقية جسده ينسل تدريجياً، حتى ظهرت يده الممسكة بالجزلان، لتنطلق الزغاريد عالياً. وتنطلق معها ثلاث رصاصات من بندقية خالى الصول.
جلس البطل قرب الفجوة، عند حافة المرحاض، وهو يدعك جسده بقطعة من صابون الفنيك، أحضرتها بنت بربر، بينما انهالت فوق جسده المياه، مندفعة من خرطوم أسود طويل، أمسك به أحد الرجلين، يزيل به ماعلق فى جسد صاحبه، ثم يبارى الشوائب المتساقطة بالماء المندفع، وإعادتها إلى الحفرة، بينما انهمك الرجل الآخر، فى غسل الجزلان، حتى بدا نظيفاً، ثم ناوله للصول، الذى قام بفتحه، وإخراج مافى جوفه من أوراق نقدية، غمسها فى وعاء نحاسى كبير، من تلك التى تستعمل فى غسل الملابس، ملأه بالماء والصابون، وجلس يدعكها ورقة، ورقة، ثم قام بنشرها على الأرض، حتى إمتلأ الحوش عن آخره، بأوراق مالية، أغلبها من فئة الخمس وعشرين، والخمسين قرشاً، وبعض الأوراق من فئة الواحد جنيه، وقليل جداً من الأوراق فئة الخمسة، والعشرة جنيهات.
هذا المشهد، إستحوذ على إهتمام كافة سكان الحوش، الذين وقفوا ينظرون من فوق الحائط، بعد أن أخلوا أماكنهم فى حوش خالتى الرحمة بأمر مباشر من الصول. لكنه لم يجذب إهتمامى بأى قدر، فقد كنت منجذباً، بالكامل، نحوالعتود، مصوبا نحوه نظرة عميقة، شعر بها فجأة، فرفع عينيه نحوى، فى إستسلام تام. ولم يتحرك من مكانه، حتى أمسك به عبد الكريم، ولد خالتى الرحمة، وكنا نناديه بجدُّو، لأنه سُمىَّ على اسم جدى. ثم تكاه على الأرض، وذبحه، كرامةً، كما قالت أمه. والعتود لايزال مُسمراً عينيه فى عينىَّ.
هائنذا، متسمر فى مكانى، أحدق فى صورتى، المنعكسة من المرآة، أمامى, وإحساسى يتعاظم بإنسلال روحى من جسدى، بوصة بوصة. تغادره من مكمن، إلى مكمن أعلى، مخلفةً فراغاً رهيباً تحتها. وبعض أطرافى قد تيبست وإلى الأبد، وبرودة لزجة تغمرها/ تغمرنى.
لا أذكر أننى إنشغلت بممارسة أية هواية، سوى أشغال الموت. لم أجمع الطوابع أو العملات الأجنبية. لم أكتب الشعر، ولم اهدر وقتى فى قراءة كتب الأدب. وحتى الصحف واخبار الرياضة لم تكن تعنينى فى شئ. بل ولا أذكر أننى اقمت علاقة من أى نوع، مع أية إمراة، أياً كانت! أدركت الآن فقط اننى لم أمارس الجنس قط ! بل ولم أمارس العادة السرية سوى مرة واحدة، حين تعلمتها على يد عوض نابرى، والذى كان يجاورنى فى الفصل، فى المدرسة الوسطى. ولم أجد فيها مايغرينى بتكرارها. ولم يحدث أن اختليت بإمراة غريبة، فى بيتٍ غريب، سوى مرة واحدة فقط!
رأيتها فى السوق الشعبى، وركبتُ خلفها فى نفس البص، وقد لاحَظَت إهتمامى بها، فتبسَّمَت. ثم نَزَلَتْ لتركب بصاً آخراً، فتبعتها. وغادَرَتْه عند محطة السينما، فتدليتُ خلفها. ثم سارت مخترقة صفين من بيوت الحجر، تظلل شوارعها أشجار النيم الضخمة، ثم غادرتها إلى شارع جانبى، سارت فيه مسافة، وتوقفت عند بقالة فى إحدى نواصيه، بينما واصلتُ مسيرى، لا ألتفت خلفى، حتى وصلت نهاية الشارع. لم أتوقف، بل انحرفتُ يساراً، ثم يميناً، ثم يساراً، ثم يساراً مرة اخرى، وكنت على يقين، من أن المرأة تسير خلفى، وتتبعنى إلى... بيتها!
وقفتُ عند مجموعة أزيار، تحت إحدى أشجار النيم، واسعة الظل، والتفتُ خلفى، لأجد نفسى وجهاً لوجه أ.مام المرأة، التى تحاشت النظر الىَّ، بل نظَرَت فى قلق خلفها، قبل أن تدفر باب الحديد الكبير أمامها، وتدخل، وتتركه مفتوحاً، فلم أتردد على الإطلاق، بل دخلت خلفها. قادتنى عبر حوش فسيح، مرصوف بالطوب الأحمر، إلى فراندا، عالية السقف، أمام مجموعة من الغرف، لعلها ثلاث. تركتنى هناك، ودخلت إحدى الغرف, ثم خرجت لتجدنى واقفاً حيث تركتنى، فرفَعَتْ رأسها لتدعونى إلى الجلوس، وهمْهَمَتْ بكلمات لم أسْتَبِنْها، ولم تُكْمِلْها، فقد كنت أُصّوِّب نظرى نحو عينيها فى حزمٍ وتصميم. وقِفَتْ تنظر إلىَّ فى إستسلام وهدوء، قبل أن اتركها فى مكانها ذاك، وأخرج من البيت، والحى بكامله، عائداً إلى السوق الشعبى.
أحس الآن أن روحى تحفر لنفسها نفقاً فى صدرى، تتخذه سكةً لتأمين خروجها، بينما استحال بقية جسدى إلى كتلةٍ من اللحم البارد، الذى لاحياة فيه. ولايزال عقلى يعمل بكامل طاقته، يسترجع شريط حياتى، كلها، بينما يعتصر الألم عينىَّ، وقد بدأ السواد فى بؤبؤيهما يضيق قليلا قليلا، مفسحا المزيد من المساحة، لبياضهما، فيتمدد، وقد امتلأتا بدمع غزير.
يمكننى القول بأن واجباتى فى أشغال الموت، قد سارت بهدوء، دون أية متاعب. ولم أجد كبير عناء فى إستكمال ماهو موكولٌ إلىَّ من مهام جِسام، إلا حين كنت أقضى مهمتى مع خير السيد حاج المكى، أو الخير بلنجة، كما كانوا ينادونه. كان الخير فى بادئ حياته، جنديا فى الهجانة. وقيل أنه سكر يوماً فسقط من فوق الجمل، وأصيب بتلف فى عينه اليسرى، وصار أحوصاً، إذا نظر إليك، حسبته ينظر فى مكان آخر. وقد تعبت تعباً شديدا فى تركيز عينىَّ على عينيه، حيث كان نظرى يزوغ مع زوغان عينيه، وكان كلّما ركّزت بصرى عليه، أحس بأن تصويبى قد طاش. والرجل كان شرساً جداً. كثير الشجار.
وقفت أنظر إليه، وهو يأكل طعاماً، فى ماعون كبير، أمام دكان الزين العجلاتى، عند مدخل السوق الكبير، من جهة الشمال. فرفع رأسه ونظر نحوى، ثم هبَّ فجأة، وتقدم ناحيتى وهو يسبّنى، بنعوت كثيرة،كلها مما يُدخل فى أبواب الشرك بالله. وكنت، طيلة الوقت، أحاول أن أجد بصره لأركِّزعليه بصرى، بلا جدوى. وهو لايزال يتقدم نحوى بخطوات واسعات، فقررت تركيز بصرى فوق عين واحدة فقط. وقد نجح مسعاى، ولم يكن يفصل بيننا سوى أقل من خطوة واحدة، فرأيته قد هدأ دفعة واحدة، ثم توقف تماماً عن الحركة، وراح ينظر فى مكان ما، وإن كنت متأكداً للغاية. من أنه كان ينظر الىَّ. تركته فى ذاك المكان ومشيت.
مساء نفس اليوم، سمعت أنه اصيب بجرح كبير فى رأسه، إثر مشاجرة فى بار افتيمونز، نقل بعدها إلى المستشفى، حيث جاء خبر وفاته، قبل منتصف الليل.
أنظر الآن، فلا أجد للسواد مكان فى عينىَّ، وقد أصبح تنفّسى بطيئاً، وقد بلغت الروح بوابة الخروج الأبدى. يتشوش الصفاء فى عقلى، ويحل مكانه غمام أسود اللون، يتكثف بغزارة.
هى النهاية إذن .ِ



التوقيع: http://bayannagat.blogspot.com/2013/...post_4173.html

شهوة ان تكون الخصومة فى عزها
واضحة ..
غير مخدوشه بالعناق الجبان
فقبلات من لا اود حراشف سردينة
وابتسامته شعرة فى الحساء

من شهوات مريد
bayan غير متصل   رد مع اقتباس
 

تعليقات الفيسبوك


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 11:48 AM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.