زول و قول (حلب .. و .. عرب)
في تلك الفترة كنت شديد الإعجاب بفئتين، فئة (العرب) و (الحلب).
كان العرب، أي البدو يجيئون من اللامكان ويذهبون الى اللامكان، كانوا أناسا يتسمون بالغرابة، يجيئون الى قرانا بآلاف الإبل في فصل الصيف، ثم يرحلون دون أن أدري، وأنا آنذاك طفل، ولا أعرف الوجهة التي يقصدونها.
حين يصلون المنطقة، كانوا يدخلون على قراها حيوية شديدة، لأن أفراحهم وطريقتهم في الغناء مختلفة، عما أعتدنا عليه. كنا نطلق على رقصتهم اسم "الجابودي". يقف الرجال في حلقة الرقص ويحمحمون بأصوات مكتومة (حم .. حم .. حم)، ثم تدخل بناتهن البدويات الى دائرة الرقص ويرقصن رقصا بديعا .. كان المشهد بالنسبة لنا قمة في الإثارة.... والنشوة.
وبعض هؤلاء استقروا في المنطقة، وقد تعرضت لهذه الفئة في رواية (عرس الزين). كان الذين استقروا يبيعون للأهالي الحليب واللبن، وعندما يحين وقت جمع التمر، يعملون في جمعه، لقاء أجر أو جزء من الكمية التي تحصد، وبعضهم تزاوج مع أهل المنطقة، كما أن بعض شباب المنطقة تزوجوا من بناتهم، وهن في غاية الجمال، ورغم ذلك ظلوا منعزلين واعتقد ان ذلك مرده الى أنهم لم يمتلكوا أرضا زراعية، وهي عادة تكون مقياسا لمدى أصالة صاحبها وتجذره في المنطقة.. ورغم أن الحواجز بدأت تزول لكن لا تزال هناك خطوط واضحة بين العرب (البدو) وأهل البلد.
الفئة الثانية وكنا نطلق عليهم لفظة "الحلب" ، وهم في الواقع جزء من الغجر الذين كانوا يجوبون قرى شمال السودان، وهؤلاء في سلوكهم كثير من التحرر. حديثهم صريح جدا ويصل الى حد البذاءة.. كانوا يجيئون لقرانا لاصلاح الأدوات المنزلية، ونساؤهن يحملن معهن العطور والتوابل والملابس لنساء القرى. ويقيمون في الأطراف، وحين يرحلون كنا ونحن صغار نسير معهم مسافات طويلة. هاتان الفئتان كانتا تشكلان أجواء ثقافية غريبة وجذابة.
حديث الطيب صالح في كتاب ( على الدرب .. مع الطيب صالح) لطلحة جبريل
|
