امدرمان موت الجهوية والطبقية
امدرمان موت الجهوية والطبقية
زقاق الصابرين اخي الطيب وابني الطيب
اليوم اول نوفمبر 2013 اتي ابني الطيب وهو فرح جدا . السبب ان سيدة عجوز شاهدته في المقهي الذي يعمل فيه ، وقدمته الي احدي دور الموضة في الدنمارك . لاكثر من 30 سنة صار للرجال والنساء السود حظوة في مجال العرض لان الملابس تبدو اجمل لانهم اجمل من البيض حسب تفكير الاسكندنافيين . واتفقوا معه لان يعمل معهم كعارض ازياء لمجوعة ملابس الخريف والشتاء . وقد يسلفوه لشركات اخري .
كان فرحا كشاب في العشرين ، لايريد ان يلتحق بالجامعة مباشرة . ويريد ان يسافر ويعمل في الاول . الطيب كان سعيدا لان الملابس ستصنع علي مقاسه . وهذا شيء غير مصدق . فقلت له ان عمه الطيب الذي يحمل اسمه كانت له دار ازياء كاملة في السودان ونحن في السودان لا نشتري الملابس الجاهزة ، حتي السراويل الداخلية . واتسعت عينا الطيب وهو غير مصدق . وكان يقول انه لم يسمع بانه حتي المليونيرات
لهم سراويل داخلية من صنع الخياط .
قبل سفرنا الي اوربا اعطاني الطيب لفافة . وبالسؤال ، قال ,, ديل اربعة ساتر عورة ليك واربعة لي اخوك . الطيب الذي كان مليونير البيت كان يتكفل بالسينما والعشاء للجميع والمنزل عادة يمتليء بالشباب من ساكنين دائمين او موسميين ولا يشتكي ويقوم بخياطة الملابس للجميع بدون اجر ، كامدرماني قح . وعندما سافرنا كان هو الشقيق الذي رعي اشقائنا الصغار . وعندما قدمت ابني الطيب قبل ثلاثة سنوات الي الصحفي كمال حنفي رحمة الله عليه سالني اذا كان الاسم تيمنا بصديق والد زوجته وخالي اسماعيل خليل . والطيب يزور الوالد اسماعيل يوميا ويرعاه
سراويل الطيب اصابت فتاة اوربية بالدهشة ، وهي ابنة دبلوماسي في براغ ارتبطت بي . فعندما كانت تنظم دولابي شاهدت السراويل . وعندما كان اهلها يمنعونها من مقابلتي . فانا افريقي مسكين اتت به الاشتراكية من احدي الاشجار . ولكن عندما عرفوا ان ذالك الافريقي كل ملابسه من الخياط حتي سراويله الداخلية تغيروا قليلا .
كلما افكر في شقيقي الطيب ، احمد الله كثيرا علي نعمة معرفته . ويؤلمني انني لست بجانبه . وتذكرت موضوع زقاق الصابرين .
زمان في السينما في اللوج كان في بوفيه بقدم شاي و كنافه و باسطه وليموناده، و جرسونات .
في واحد كورك في الجرسون ( زح ياخ انته واقف هنا ليه ؟ ) ، و تأثرا بثقافة السينما قال الجرسون ( انا هنا علي طلب الجمهور ) .
و علي طلب رضا نكتب عن زقاق الصابرين .
مدخلي علي الزقاق كان اخي الطيب سعد الفكي . الذي حضر من الشريق من الرباطاب و عمل جرسونا في الداخله ( اتبره ) ، ثم حضر لاخته فاطنه التي كانت تسكن خلف منزل ال مدثر و الاخ مصطفي مدثر يعرفه جيدا كصديق و احد ابناء الحي .
الطيب بدأ كخياط مبتدئ في الزقاق ثم صار احد معالم الزقاق . و رئيسا لنادي الربيع الذي تأسس في سنه 1927 اي قبل فريق المريخ و الهلال و بعد فريق المورده .
اذكر ان الاخ عبدالعظيم مهدي عبدالرحمن الذي صار مدير للكليه الحربيه كان يمازح الطيب عندما يقول انه خياط ( خياط شنو ياخ ، انته بتخيط العراريق ابو اباطا اسود .) .قديما كانت هنالك عراريق بدون اكمام من الدموريه وزن عشره . و تعني عشره فتلات في عشره فتلات في كل سنتيمتر مربع و هنالك رقعه سوداء في منطقه الابط . و كان هذا ما يرتديه اغلب السودانيين . و تظهر هذه العراريق في رسومات و صور المهديه .
الزقاق كان مدرسه كامله ، اغلب الدكاكين عباره عن دكاكين الجاهز و الدكان عادة لا يزيد عن حوالي 3*3 متر او يزيد قليلا . و مكون من رفوف ، بنك للقص و ثلاثه او اربعه مكنات و خزنه علي الجنب . و هنالك بعض الترزيه مثل الخير الذي كان مثقفا يقرأ كل الجرائد اليوميه و ينتمي الي تنظيم الاخوان المسلمين ، و كان يقصده كثير من اعيان امدرمان لعمل الجلاليب و خاصه المكسوره دبل عمود . و خياطة الجلابيه تكلف 25 قرشا و العمود 10 قروش و هناك متخصصين في عمل العمود فقط . و اغلبهم نساء في منازلهن
و هنالك العم مقبل الذي كان ضخم الجسم و عندما يجلس للاستراحه علي التبروقه له سير عريض في شكل حلقه كبيره يمتد من ظهره الي ركبتيه و هو كذلك خياط جلاليب و عراريق .
الطيب بدا عمله مع عمنا شروني و كان يقوم بتطبيق القماش كطاقه كامله و يقوم بقصها بالمقص و يشكلها حسب المقاسات . و تبدأ باللباسات الصغيره للاطفال و الدسته بي 18 قرش سعر الجمله و لباسات كبيره الي الفساتين للنساء و الدسته بي 3 جنيه و 60 قرش .و سالته مره ( انتو يا الطيب هدومكم دي بتهد ؟ ) ، فكان رده ( من المروحه دي بتهد ) .
التعلمجي يبدأ بعقد اللساتك و يتطور لكي يشطب ثم يبدا في خياطة اللباسات و يتطور . و تعلق العينات علي الحبال كما يبدو في الصوره ، و يحضر المشترون من الاقاليم و يشترون البضاعه و يحملونها علي اللواري و تلبس كل الجزيره و غرب السودان و شرقه من سوق الشوام زقاق الصابرين و ما حوله . و كانها ملابس كرستيان ديور .
تبدأ الحياه في الصباح بالتحيات و الاخبار و نقاشات الكوره و السياسه . و يحضر صاحب البخور و هو يلقي بحفنات متواصله من البخور من مخلايته في المبخر و يتناول المعلوم من كل دكان بدون اي احتجاج . و اصحاب البخور يقسمون السوق فيما بينهم و لا يتعدي احدهم علي حدود الاخرين .
حتي الشحاذين كانوا يعرفون مناطقهم . الدخري كان اشهر مجنون في امدرمان و كان يسكن في الجامع الكبير و له جسم قوي بعضلات بارزه . و عندما يكون بحره عالي ينطلق محطما كل الحجاره و في بعض الاحيان يضعها علي قضيب الترماج و يقوم بتحطيمها بحجاره اكبر . و كثيرا ما يتوقف الترماج الي ان ينتهي الدخري من عمله و هو يقف عاريا كما ولدته امه .
مشكلة الدخري انه قذف ابنه بحجر في حالة غضب فاصابه في مقتل فاختل عقله . و كان يحضر لزقاق الصابرين ليشحذ فلوس طعامه و قد يتصدقون عليه بسروال او عراقي . و في احدي المرات اعطاني الطيب فريني ( يعني قرشين ) و هي قطعه صغيرة الحجم و لهذا يسمي الشخص قليل الحجم بالفريني . و عندما وضعت الفريني في يد الدخري لاحظت قطعا كبيرا فقلت له ( ده من شنو ؟ ) فنظر الي بحيره و تعجب و كانني بليد و قال ( من شنو ! ، ما من الجن . ) .
الزقاق كان دنيا كامله يتكسب منه كميه ضخمه من البشر . فهنالك السبابه امثال الاخ حموده النعيمابي الذي استلمت منه خطاب قبل شهور . و في مره كان يحمل مركوب نمر بالربل ( نوع من المطاط الفاخر ) . و المركوب يساوي 7 جنيهات و بينما هو يعرضه متنقلا بين الدكاكين ، مد احد اهل الباديه و هو يرتدي شقيانه و هي حذاء من الجلد الغير مدبوغ بسيور غير مدبوغه في قوة الصلب ، فقال له النعيمابي ( ها يا عربي ها ، دا مالك بيه ، ده بسوي ليك الحساسيه ) . فضحك الجميع حتي البدوي .
من العاده ان يأكل الجميع معا الا ان البعض كان يأتيهم فطور خاص من المنزل و عمنا( ... ) كان مختلفا و قد اصاب بعض التعليم و عندما وضع الفطور امامه اتي احد البدو مارا فكشكر له عمنا قائلا اتفضل . فجلس البدوي بدون تردد، و بلقمه واحده اخذ نصف البيض من الصحن فصرخ العم فزعا ( لا ..لا .. ده بيض ...ده بيض ) . فصارت هذه الجمله تردد في زقاق الصابرين عندما يلتبس الامر علي اي انسان و يقولون ( لا ..لا ...ده بيض ).
الجلاليب كانت تخيط علي ثلاثه انواع في العاده و هي كرشليق و تعني بزراير ، او دركسون بالفتحه المستديره ، او في احيان نادره بي لياقه و كرشليق و هذه يستعملها بعض سائقي التاكسي و معلمي القهاوي . و القماش عادة هو البوبلين و المتر يساوي 20 قرش و قديما كان هناك قماش يسمونه ( بنك مصر) له خطوط عريضه او قماش هزاز فيه خطوط لامعه يسمونه الالاجه يلبسه المعلمون و كبار التجار . العراريق و السراويل عادة من الدبلان او قماش خفيف للعراريق يسمونه الساكوبيس و هذه الكلمه يوصف بها الشخص الضعيف و يقولون ( ده ساكوبيس ساكت ) . و هناك ايضا لبس تكسب و تعني جيب من الامام و من الخلف ، او جناح ام جكو و عادة لانها واسعه تحتاج لسته امتار او خمسه امتار و نصف بدلا عن خمسه امتار . و كما كان يقول العم مقبل ( الترزي شغله تحت .... ما يسلمو للزبون الا يدفع ، كان الزبون شال حاجته ما بجي راجع يدفع ) .
في سنه 1985 اردت ان اعمل توكيل شرعي فاخذت الاخ بله و الطيب سعد للمحكمه و لاحظت ان الطيب يتراجع . و بسؤاله عرفت ان كاتب المحكمه الشرعيه قد اخذ من الطيب سته جلاليب و سته عراريق و سراويل و وعد بالحضور للدفع و لم يرجع . و الكاتب الشرعي كان يرتدي احدي الجلاليب . و الطيب كان يخاف احراجه . فاضطررنا للذهاب الي المحكمه في الخرطوم .تلك كانت اخلاق اهل زقاق الصابرين .
سمعت الطيب يقول لميرغني و هو كذلك اسطي في احد الدكاكين و هو شاب نحيل يرتدي البنطلون ( غا و سا ) . و عندما سالت عرفت ان المقصود بها الزبون الذي يضيع الوقت و لا يشتري .
ميرغني استعار دراجتي الرالي الدبل و عندما تأخر ارجعها و عليها جرسين بلونين مختلفين زادا من جمال الدراجه التي كنت اعتني بها .
في نهاية الشارع بعد القهوة الصغيره و المطعم كان السمكريه منهم صديقي عبدالسخي ، و الخير العجلاتي الذي بدأ حياته كصبي عجلاتي مع العم عبدالكريم العجلاتي في بداية شارع كرري و هو خال كمال الجزولي ومجدي و حسن و الاخرين .
السمكريه كذلك كانت لهم مجموعتهم الخاصه و طريقة حياتهم . و عندما تضايق طسم من امرأة اتت بصفيحة خبيز و ارادت لحمها مباشرة و طسم مشغول و المرأه تنق ، فطوح بالصفيحه قائلا ( جننتينا ، هي صفيحه و لا اسطول ) .
في الشتاء كنا نأكل كثيرا الطماطم بالدكوه و الكسره من هجوه في الانجيرا او سوق الكسره غرب سوق الطواقي . و هذه الاكله لا تزال منذ ايام زقاق الصابرين هي اكلتي المفضله .
الخال النور الحاج حمد من حوش حاج حمد المشهور في بيت المال كان يعمل في سوق الشمس بالقرب من سوق التمارا و عندما تشتد الشمس يحضر الي دكان الطيب سعد و يزيح العمل من البنك و يستلقي او يجلس تحت المروحه . و عندما يحتج الطيب يقول له النور ( انته ياخ في بيت اختي ما بتترقد تحت المروحه ، هو كان ما المروحه دي انا بجيك ! ) .الطيب بمثابة الشقيق لنا ، و عندما اتيت به الي المنزل كنت انا في الرابع عشر و هو في حوالي الثامنه عشر من عمره و صار من اهل المنزل . و لا يعمل اي شئ بدون استشارته . و ابنائه يحملون اسمائنا ، الشنقيطي و شوقي و اسعد .و لي ابن يحمل اسمه. و عندما اتصل شوقي الطيب قبل شهور بخصوص المصاريف الجامعيه قلت له ( انته بتين دخلته الجامعه ؟ ) و كان رده ( انته يا عم شوقي طولته بره نسيت السنين ) .
لا اظن ان هنالك اي مكان في العالم كانت توجد فيه روح من الزماله و التأخي و التكامل مثل زقاق الصابرين فاي شخص يموت يعتبر المصاب مصاب الجميع . و اي شخص يتزوج يكون الكشف دائرا ، و اي بيت يقع او مناسبه يكون اهل الزقاق كأسره واحده . و لقد تعلمت كثير من الدروس في الزقاق و سمعت كثير من القصص و كان كل السودان يمر بالزقاق كزبائن . و في منتصف الستينات ظهرت الماكينات الكهربائيه السريعه و تضاعف العمل و ظهر المطرز .
في احدي اجتماعات نقابة الخياطين كان الطيب يتحدث بحميه فقال شخص لا يعرف الطيب ( انته خياط ؟ ) فوضع الطيب ظهر يده امام عينيه قائلا ( ده ( د..ك) ! ) . فالمقص يترك هضاب علي ظهر يد الخياط خاصه خياطي الجاهز . لانهم يقصون عشرات الطبقات من القماش مره واحده .
و كثيرا ما يحضر شخص يحمل عجله علي كتفه و يقوم بسن المقصات في زقاق الصابرين و سوق الشوام .
في بدايه الديمقراطيه الثانيه ابدي الطيب تعبه من موضوع الخياطه . فاقترح الشنقيطي محل للسندوتشات و اعجبت انا بالفكره . و بدأنا في البحث عن المكان الا ان الطيب رجع و غير رأيه و قال ان زوجته رقيه قالت انه اذا بدأ يبيع الاكل فستعود الي الرباطاب و اضاف ( اودي وشي وين من ناس زقاق الصابرين ) . و اخيرا اقترح سيارة تاكسي ، و اضاف الشنقيطي فكرة بوتيك في ركن مدرسة الاحفاد شارع المورده .
و عندما سلمته مفتاح السياره و بدأ النجارين في عمل التخشيبه و اتت البضاعه من اوربا و الخليج بدأ الطيب مهموما فلم يكن في استطاعته ان يترك زقاق الصابرين . و لم تنقطع الزيارات من الجانبين .
في مايو 1969 و في حفل في منزلنا وسط خواجات و مبعوثين، جلس الطيب مع احد الرفاق من الزقاق و عندما ازداد الجمع احضرنا بعض الكاسات فنادانا الطيب و افرغ محتويات الكبايه في الكاسات قائلا ( يعني نحنه ناس زقاق الصابرين ديل ، الكبايات ام كرعين ديل الا نشوفهم في السينما ) .
زقاق الصابرين كان يمثل امدرمان . ابن عمتي عثمان عبدالمجيد ( كوارع ) استلم في سنة 1963 ثلاثه جنيه لشراء اسمنت و الاستعانه ببناء لتبليط ارضيه المطبخ . و والدته وقتها تسكن عند ابنها بابكر عبدالمجيد في منازل الجيش . و اضاع عثمان الفلوس و عندما حضر محتارا الي المنزل اخذه الشنقيطي الي زقاق الصابرين و دفع الطيب 150 قرش و اشترينا كيسين من الاسمنت بي 130 قرش و 15 قرش لعربة الكارو و قمت انا بتبليط ارضية المطبخ . و لهذا فالزقاق دائما في وجداني .
ما ان تغرب الشمس حتي يصير الزقاق ميتا و خاليا من اي حياة حتي من القطط و كأنه يرتاح من زحمة النهار و الباعه الذين يحضرون كل شئ من فاكهه و حلويات و صور و براويز و نتائج تعلق في الحائط .
في المساء عندما كنت اذهب الي العم رضوان و هو الكفيف الابيض اللون الذي يبيع راس النيفه عند نهاية الزقاق في شارع العناقريب و امامه لمبه تدل علي مكانه و ابنه قد صار وزيرا في الحكومه الديمقراطيه الاخيره . و الراس عنده يساوي 25 قرش و في العاده بي 15 قرش الا انها بحجم ضخم و كان والدي لا يقبل الا بها .
حتي النشالين و اللصوص كانوا يحضرون للزقاق و لقد سمعت الطيب يقول للضل مع بداية الشريعه و هو اكبر نشال في امدرمان ( و الله يا الضل خايفين عليك من القطع ) فتنهد الضل قائلا ( القطع ساهل ، الكلام الزيت المغلي ) .
و عندما كنت اطل الزقاق في الليل او المساء كان يبدو مختلفا و كانما هو زقاق اخر .
شوقي
شوقي والطيب
|