الـــــسر الغميــــــــس !!! النور يوسف محمد

حكــاوى الغيـــاب الطويـــــل !!! طارق صديق كانديــك

من الســودان وما بين سودانيــات سودانييــن !!! elmhasi

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > مكتبات > بركة ساكن

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 12-11-2008, 08:56 PM   #[1]
عبد العزيز بركة ساكن
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية عبد العزيز بركة ساكن
 
افتراضي


وَدْ أَمُونَةْ


عِطْرُ البَخُورِ الحَبشي يملأ القُطِيةَ، تأتي أصوات المكان مخترقة قش وأقصاب القُطِية عَبْر الظُلمة للداخل، واستطعنا أن نميز غِناءً جميلاً رقيقاً يتلمس سِكَكَه عبر الليل نحونا، قال ود أمونة: إنها بوشاي. ثم واصل في حكي تفاصيل السجن، تحدث بتلقائية وبساطة، بهدوء ورقة لا تتوفر في شخص غيره، ألم قِشي تقاسمني الوسادة البيضاء المستطيلة على طول عرض السرير، تخلف ساقيها مع ساقي، وبين وقت وآخر تتعمد حَكّ أخمصَ قدمي بأحد أظافر رجليها، مُثيرة شَبَقَاً وحشياً تؤجله دائماً حكايات ود أمونة المدهشة في السجن، الليل كعادته في هذه الشهور دافئ مَرِح، عَنّتْ فِكرةٌ لألم قِشِي، عبرت عنها بنهوض مفاجئ من حضني قائلة:
. حَأعمل ليكمُ قهوة-
هكذا يعبر الناس عن حبهم واهتمامهم بالآخر في هذه الأمكنة، بأن: يعملوا لك جَبَنة.
قال ود أمونة مواصلاً حكاية العازة، لم تستطع عازة أن تقنع أمه لكي تتركه معها عندما تخرج من السجن في الغد، وأرسلت لها الوسطاء من سجانين ومسجونين، وحتى مأمور السجن نفسه، ولم يقنعها سوى ما حدث لود أمونة في ذلك المساء: كنت في طريقي إلى عنبر النُسوان بعد أن عدت من مشوار كلفني به الشاويش خارج السجن، عندما وصل ود أمونة الممر المؤدي إلى الزنازين وهو الطريق الأقصر إلى الجزء الغربي من عنبر النُسوان حيث مقام أمه، إذا بيد ناعمة قوية تُمسك بذراعه، وأخرى توضع في فمه، كانت تفوح منها رائحة البصل والثوم مما جعله يتعرف بسهولة على الطباخ، ثم همس في أذنه
. ما تخاف، دا أنا-
ثم سُحبت الكف عن فمه، قال له ود أمونة
- عايز مني شنو؟
قال الطباخ
- إنت بكره ماشي مع عازة، طبعاً حيطلعوها من السجن، وإنت حتمشي معاها، وأنا جيت عشان أقول ليك مع السلامة، طالما إنت ما بادرت بالوداع، مُشْ عيب عليك يا ود أمونة، ما تقو لي مع السلامة؟
قال ود أمونة متضايقاً
. كويس، مع السلامة، يَلاّ فك يدي-
قال الطباخ محاولاً أن يكون رقيقاً ومهذباً
- لا.... ما كدا.. مع السلامة دي عندها طُقوس وفي احتفال صغير أنا عامله ليك في مخزن المطبخ برانا، أنا وإنت.. جِبت شمع وعندي ليك هدية، ملابس جديدة وجزمة وكرة وحلاوة وحاجات حتعجبك.
قال ود أمونة وهو يحاول نزع يده
. إذا ما فكيت يدي حأصرخ وأمي تسمع وحتجي تقتلك-
فأدخل الطباخ يده في جيبه وأخرجها قابضة على نقود لها رنين
قال له ود أمونة
. أخير ليك تفكني-
بيد الطباخ الممسكة بالنقود، أعاد النقود إلى جيبه وبسرعة ومهارة فتح زرار بنطاله وأخرجه، شئ لم يستطع ود أمونة تمييز معامله في الظلام ولكن عندما دفع به الطباخ إلى بطن و أمونة، أحس به ود أمونة قوياً وطويلاً، قال الطباخ
. الموضوع بسيط، وما بِيَاخُدْ دقيقة واحدة، وأنا أدْيّك أي حاجة عايزها-
وعندما مَدّ فَمَه الذي تفوح منه رائحة الصعوط مختلطة بسجائر البرنجي محمولة على عبق عَرَق العيش، بحركة رشيقة خاطفة أمسك ود أمونة بشئ الطباخ، كان مظلماً، كبيراً وأملس، أدخل ما يكفي في فمه وبين أضراسه الحادة نفذ وصية أمه بحذافيرها، الشئ الذي جعل كل من في السجن والذين يجاورونه والذين تصادف مرورهم في تلك الليلة بتلك الأنحاء، يقفزون رعباً في الهواء من جراء صرخة الطباخ العنيفة البائسة التي لم يسمع أحد في حياته مثلها ولن تتكرر في مقبل الأيام، صرخة أطارت العصافير الصغيرة النائمة في أشجار النيم في وسط السجن، جعلت السمبريات العجوزات الساكنات بالسنطة عند بِركة المياه جنوب السجن، تضرب بأجنحتها في ذعر، كانت الصرخات التي ألحقها بالصرخة الأول، أقل أهمية، لأن أحداً لم يسمعها سوى ود أمونة، كانت أكثر بؤساً ورعباً. ثم سقط.
بصقت رأس الذكر من خشمي، كان شئ مقرف.-
قالت لي أمي بعدما صلينا صلاة الصُبح في الساحة
- إنت حتمشي مع عازة إلى بيتهم، أنا تاني ما حأخاف عليك، إنت بس حافظ على أسنانك، حأديك قروش تشتري بيها مساويك.

رائحة قلي البُن الحبشي تملأ رئتي عبقاً لذيذاً، وصوت بُوشَاي الحُلو يغني، فيأتي به الهواء الدافئ من حي العُمدة إلى قُطِيّة أدّي شَهياً، قالت ألم قِشي:
بعد دا كله.. الطباخ شغال لِسَعْ في السجن، سمين زي البغل.-
تحركت ألم قِشي وهي تحمل المِقلاة تطوف بالقُطية مقربة إياها من أنوفنا، فنستنشق المزيد.
قال ود أمونة
- طلعت من السجن وأنا عمري عشر سنوات، لكن تقول راجل كبير، كنت بعرف كل شئ، ما تفوت عليّ كبيرة ولا صغيرة.
أضافت ألم قِشي في زهو
. ما شاء الله.. ود أمونة دا... أصلو ما تقول كان طفل في يوم من الأيام .
صبّت البُن في الفُنُدك وأخذت تدق بتنغيم اتبعته بغناء بلغة الحماسين.
قال لي ود أمونة معتذراً
- معليش شغلتك بحكايات السجن والأمور الفارغة دي، أنا حأخليك شوية مع ألم قِشي وحنتلاقى، أنا قاعد في قُطية ما بعيدة من هنا. بالغرفة سرير واحد ولكنه ضخم، يساوي سريرين كبيرين، يسمونه: السرير الدَبُل، مصنوع من السنط، له قوائم ضخمة ثقيلة، عليه مُلاءة بيضاء مطرزة بالكروشيه في شكل طاووسين كبيرين متقابلين بالفم، ويبدو النهج الحبشي واضحاً في فن الحياكة والتطريز،من حيث استخدام اللون الأصفر و الأحمر و الأخضر، كانت ألم قِشي كعادة الحبشيات تبدو في بشرة حمراء ناعمة وساقين طويلتين نحيفتين منتظمتين وجميليتين، عليهما نقوش حناء باهتة ووشم على القدم غريب، بدى لي كصليب أو خاتم سليمان، أو ربما وردة سحرية، على كلٍ، كان شهياً وطيباً وطازجاً
لا أفهم كثيراً في ممارسة الجنس، في صباي، أنا وغيري من صبية الحي، في أيام مراهقتنا الأولى، أتينا الأغنام والدحوش وحتى العُجول ولم يكن ذلك ممتعاً، ولكنه مهماً حيث تبدو كبيراً وفحلاً أمام أصحابك وإلا لُقبت بـ المرا، وهذا لا يجوز في حق أحدنا، ولكن، تجربة شريرة حدثت لي قبل ذلك أي قبل البلوغ بسنتين أو أقل، كانت الأكثر إدهاشاً وأكثر بقاء في ذهني وربما مازالت توجه بوصلة الجنس في ظلماء نفسي، إعتادت خالتي التَاية أن ترسلني إلى المِطحنة عند الصباح الباكر، قبل الذهاب إلى المدرسة، لكي أوصل جردل العيش إلى هناك ثم أعود لأخذه في نهاية اليوم وأنا عائد من المدرسة، أي بعد أن يتم طحنه حيث تقوم بإعداده لصنع كِسرَة يوم غد، التي تبيعها في السوق الكبير، صاحبة المطحنة امرأة شابة ليس لديها أطفال، يعمل زوجها في سوق الخضار، وكعادته لا يعود إلا عند المغرب، وهي سيدة معروفة في مجتمع المراهقين بصورة جيدة وكل واحد منهم له معها قِصة، ربما أغرب من قصتها معي، ولكن ربما الشئ الذي يميز حكايتها معي؛ هي أنها كانت تضربني ضرباً مبرحاً، لا أدري لماذا في ذلك الوقت، ولكني فهمت فيما بعد بعض الشئ، عندما أعود لأخذ الطحين كانت تأخذني إلى داخل المنزل عبر باب داخلي للمطحنة، وهناك تخلع ملابسها وملابسي، في أول مرة شرحت لي وأرتني إياه، وخفت خوفاً حقيقياً عندما رأيته لأول مرة، كان لا يشبه كل التصورات التي رسمتها له و أصحابي، كن نظن أنه شيئاً جميلاً، جذاباً مثل الوردة، ولكن هذا الشيء الذي أمامي شيئاً آخر، إنه أشبه بفأر كبير على ظهره شعر أسود مرعب،له فم كبير وربما أسنان أيضاً، بل له رائحةٌ كريهة،لا أدري كيف خُدعنا به طوال تلك السنوات، فلم آلفه أبداً،ولكنها بخبرة المرأة المجربة التي تعرف كيف تُثير، أذالت مخاوفي، ثم عرفتُ كل شئ، أو ما ظننت أنه كل شيء، ولكنها كانت تطلب مني غير الإيلاج أن أقذف، بالأحرى كانت تأمرني قائلة:
. بُول … بُول..... بُول -
وأنا لا أعرف كيف أبُول هناك، وليس لدي بُول في مثانتي، فكنت أقول لها ذلك فتغضب فتضربني قائلة:
. بُول، بُول الرُجال، إنتَ مَاكْ راجل-
ولم أعرف بُول الرجال هذا إلا بعد سنوات كثيرة، عندما جاءتني في الحلم هي ذاتها عارية، وبحلق فيّ فأرها المتوحش ، وضربتني عندما اشتد بها الشبق.
. بُووووووووول-
فبللت ملابسي بسائل دافئ، له رائحة اللالوب الذي كنت أكثر من أكله في تلك الأيام، خرج البُول في لذة و ألم مُدهشين. ثم لم أبل في سيدة بالفعل أبداً، حيث لم تتح لي فُرصة لذلك، أو أنني كنت خجولاً أمام النساء، ولم تصادفني من هي في جُرأة تلك المرأة، أو لست أدري ما هي حكايتي بالضبط، كل ما امتحنت به جسدي، كانت لمسات أخت صديقي الدافئة البريئة، إذن بعد خمسة وثلاثين عاماً هائنزا وجهاً لوجه مع امرأة، ولأول مرة في حياتي: امرأة فعلية مجربة وخبيرة وأنا رجل كبير في السن راشد وبالغ ولا خبرة لي في النساء، ولا أدري كيف فَهِمَتْ ألم قِشي ذلك، ولكنها قامت بكل شئ بنفسها، بدءاً من لِبسِ الواقي؛ انتهاءً بالبُول، بُول الرُجَال، كانت تسحبه من أعماقي بِجُنونٍ ولذةٍ لا يوصفان.



عبد العزيز بركة ساكن غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 13-11-2008, 10:45 AM   #[2]
أسامة الكاشف
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية أسامة الكاشف
 
افتراضي

العزيز ساكن
متابعنك دخلت المنبر وانسحبت براحه
حتى تكتمل الرؤية نرجو المواصلة
فكلما "اتسعت الرؤية .. ضاقت العبارة"



أسامة الكاشف غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 13-11-2008, 11:46 AM   #[3]
عبد العزيز بركة ساكن
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية عبد العزيز بركة ساكن
 
افتراضي


مُخْتَار عَلي، كُلّيقَةْ،
الجلابي سُماعين.

ثم واصل مختار علي الحكاية، يستطيع الآن مختار علي المَشي لقضاء الحاجة وحده، بل أن يذهب للدكان عند ناصية الطريق، ويشتري حجارة البطارية. قال
- لما قلنا كدا بسم الله ودخلنا السمسم، كَبّرْ الجلابي سُماعين ثلاث مرات.. الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر...الله أكبر... لَمّنْ الخَلا كُلهُ صَنّ يَوُوُوُوُ.
ثم جاء الجلابي سُماعين بخروفين كبيرين أقرنين، كرامة وسلامة وطلب منهم أن يذبحونهما وقتما شاؤا.
عندما يكون السمسم جيداً، فتياً مرصوصاً كالدرر على ساق حمراء شامخة، يجبر الجنقوجوراي على الإنحناء لحصاده، حينها يصبح الحصاد مهرجاناً من الرقص، يغني الجنقو لحناً واحداً ثرياً، حلواً على إيقاع ضربات المنِجل، خشخشة ربط الكُلّيقَةْ ورميها بالخلف، متعة الانجاز:
كُلّيقَةْ
كُلّيقَةْ
كُلّيقَةْ
كُلّيقَةْ
تصنع (حِلة) و الحِلة، استطاعوا هذا العام أن يرفعوا سعرها إلى ثمانية جُنيهات، وهو ثلاثة أضغاف سعرها في العام الماضي، كل ضربة مِنْجَل هي جزء من ثروة كبيرة، كل ربطة كُلّيقَةْ، كُراع بوليس: هي بعض الحلم يتحقق، كل حِلة انجزت؛ هي ثمانية جنيهات تنضاف إليها ثمانيات أخريات، ثم ثمانيات أخريات، ثم تسلم إلى الخالة؛ بالحلة:
ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية +....
ث م ا، +
م، نيـ +، م
ا، ة + ث
نيـ، ث ـ ث + نية
ة، م + ة
+ نما، ن.. ية.... + + + نية
وأحس مختار علي برأسه ثقيلة، بيديه مشلولتين، رجليه؛ أين هي رجلاه؟
أحس أنه ينسحب، قليلاً قليلاً، ينـ.... سـ، حب،، من حقل السمسم، حقل الحياة،
أبّكر آدم ما لاحظ إنُهُ أنا اتأخرت، يمكن إلا عندما وقعت في الواطا تَبْ، حتين شافاني.-

أسبوع بأكلمه قضاه مختار علي مريضاً في التاية، وحيداً، حيث يذهب الجميع إلى العمل يتركونه مع الفئران، الزرازير، أولاد أبرق، عشوشاي وكلب الخفير.
- والله لمّان تقول جاتني نفسِيّات، كلمت سماعين الجلابي قلت ليهُ أنا يمكن أموت هنا في الخلا دا ساكت، وديني الحِلة، عندي أختاً لي هناك متزوجة، وديني ليها، وشالاني جاباني هنا، رماني رمية واحدة، بت عمي، أختي سافرت إلى همدائييت، راجلها اشتغل هناك في التهريب.
لم يره الجلابي سُمَاعِين مرة أخرى، كأنما رمي بشئ قذر في وادٍ مهمل مهجور، كان قد وعده بأن يحضر المساعد الطبي أو يأخذه إلى المستشفى المحلي، أو حتى ينادي له الفكي علي ود الزغراد، وهو زول يده لاحقة، لكنه هرب منه هروباً، كما وصفه بعض الجنقو فيما بعد: هروب جبان.
ولكن بارك الله في الأخوات الأخوان، علي رأسهم الصافية، وهي غزالة سوداء نحيلة، قل نحلة لأنها دائمة الحركة، لها رائحة متميزة، عبارة عن صُنان مختلط ببقية الليلة الماضية وعرق كدح دؤوب، هذه السيدة البسيطة الهزيلة، التي يتبعها لفيف من الجنقو كظل لها، المسالمة، من يحتفي بالأخوان ومجالسهم، الطيبة، هي ذاتها الحيوان الشرس الضاري في المشروعات الزراعية، الذي، عندما يقتحم حقل السمسم يرمي الحِلة خلف الحلة خلف الحلة خلف الحلة خلف الحلة خلف الحلة.
وكأنها تعمل بماكينة، ما شاء الله، ينجح الجلابي صاحب المشروع حتماً إذا نجح في أن يضم الصافية إلى فريق عمله، حكى مختار علي
قالت لي الصافية
. أنا حأدب ليكم سُماعين ود الحايل-
. حَأخَليهُ يَبْكي بِدِموعُهُ
جابت لي الممرضة، جابت لي الفكي علي ود الزغراد بنفسه، جابت لي القِضيم، جابت لي العدسية، جابت لي أم جَلاجِلْ وعِرْقَهَا المُرْ، سوت لي المديدة، الفيتريتة الحمراء وعصيدة الدُخُنْ، قاطعة الشايقي ؛ وهو كما يعرف الجميع جعلي، ولكنه ملقب بالشايقي لآثار شلوخ في وجهه
- قالوا الصافية دي فيها جنس مرا؟
وعضّ يده في ألم، ثم أضاف: لو كان بتنعرس، و الله أعرسها.
ضحك الجميع في آن واحد، ولو أن بعضهم يخالفه الرأي، بل يحتفظ في أضابير وعيه برأي عكس ما طُرح تماماً، لكنهم ضحكوا، تململ البعض، آثروا الاستماع، الكلام عن النساء وفيهن مثل أكل المُوليتة، مُر، حارق ولكنه لذيذ، دائماً له طعم متجدد، ربما لأنه يحرك حنيناً منطوياً في ذواتهم عن أم جميلة فُقدت في موطن ما، أو أخت حنينة لم تنس تماماً ولكنها مختبئة في ركن غيب الذاكرة بعيدة قريبة في آن واحد، أو بنت استحال إنجابها، وربما زوجة، عشيقة، صديقة لم تتبين ملامحها بعد في موطن جاءوا جميعاً منه إلى هنا، ولكن ؛ أيضاً للصافية خصوصيتها، هنالك جوانب مظلمة في حياتها، خاصة فيما يتعلق بنشاطها الجسدي، وكل ما يدور في هذا الشأن ليس سوى اسطورات صغيرات تَمْخِرن في أودية وخيران دافئة، تحت سنطات وسيالات عجفاوات، وعلى حوافر الثعالب والأرانب والحَلُوٌفْات المكان، أسطورات حالمات وديعات.
قال له مختار علي متحدياً، وقد نسي أم تناسى حكايته
إنت لقيتها وين؟-
قال أبّكر آدم
. لو ما لقيتها ما بكون سمعت بحكايتها مع وَدْ فُور؟! يا أخوي لو ما مُتنا؛ شقينا المقابر-
حسناً، سوف لا نتطرق إلى هذه الحكاية الآن، لأنها معروفة ومكرورة وقد يتولد لدى البعض بأننا نعرف كل ما يحيط بها، وهذا مجانب للحقيقة، فكل شخص في هذا المكان يحتفظ برواية خاصة به عن الصافية وود فور، حُكيت من قبل من قِبل عشرات الأشخاص، نساء ورجال وأطفال، وكل حكاية ما كانت تشبه الأخرى، وما جاءت به، ما يُشبه الندوة في بيت أدَاليا دَانيال يوم مريستها؛ كان شيئاً آخر.
الجناح الذي خصتنا به الأم من بيتها الكبير المتسع، يقع في آخر صف من القطاطي الملحقة برواكيب صغيرة ممتدة في شريط قد يصل طوله مائتين متراً، وهو موقع شبه مهجور، وربما خاص. اكتمل المزاج بالشيشة حيث برع في إعدادها ود أمونة الذي لم يحتمل بقاءنا بدون نساء يَحَلين طعم المؤانسة (القعدة) ويكسبن بعض المال، ولم تعجبه فكرة أننا نكتفي بهذا الوحش - في نظره ـ الصافية، وذكر في أذني اسم ألم قِشي كلما وجد فرصة لفعل ذلك، لأنه لا يعرف عني زهدي في النساء، ظل يلاحقني، إلى أن لاحظتْ ذلك الصافية، فتحدثت معه بأسلوب غليظ، حرمنا من نكاته وملاحظاته الجميلة عن الحِلة وناسها وعن السجن، وحرمنا من نفحات عطر راقٍ يَنْسِمها. صمت، ثم، خرج.
قالت لنا الصافية من بين قرقرات الشيشة، وكأنها تمتص العالم كله في نفس واحد من النارجيلة.
- البلد دي أسستها حَبُوبَتِي الصافية، أنا سموني عليها. لمّان جات هِنا، كان البلد ما فيها غير المرافعين والقرود والحَلُوٌفْ والجنون، البلد كُلها غابة كِتِر ولالُوب ونَبَكْ.
حَكَتْ لنا حكايات كثيرة ممتعة، عن المكان قبل عشرات السنين، عن سُجناء يهربون ب(الفِرو) من سجن (الحُمرة) بأثيوبيا، عن جنون يسكنون ويتزاوجون مع البشر،
عن بشر يتحولون إلى حيوانات وغربان، عن أناس يموتون ثم يحيون في شكل بعاعيت.
وعن أناس عندما يموتون ويحيون سبع مرات يتحولون إلى أبي لمبة. وعن بشر يأكلون البشر، وعن....... عن.-
إلى أن قاطعها صديقي سائلاً
- قولي لينا حكايتك شُنُو مع ود فور؟
أنا والحق يُقال، خفت ولأول مرة في حياتي أخشى ردود أفعال لا استطيع أن أتنبأ بها إطلاقاً، نهضتْ، مدتْ (خرطوش) الشيشة إليّ، دون أن تنظر إلى أيّ مِنَا، مشتْ نحو قُطيةٍ تبعد قليلاً عن مَجلسنا، القطية الأكبر حجماً، منذ أن غابت الشمس أضاءها ود أمونة مع بقية القطاطي الفارغة، حتى لا يتخذها الشيطانُ مسكناً، اختفت هناك، لم يُسْمَعْ لها حس، لم استطع أن أتفوه بكلمة، ولو أنني كنت في أشد الحاجة لكي ألومه، وأن أكرر ملحوظتي عن سلوكه الفظ، وطريقته المباشرة الفجة عند مخاطبة الناس.
. تعلم الكياسة، تعلم كيف تخاطب الناس-
لم اتفوه بكلمة واحدة، وضعتُ (الخرطوش) جانباً، نهضتُ، ناديتُ بأعلى صوتي
؟ يا ود أمونة -
وفي لمح البصر، وكأنما كان ينتظر خلف الباب مترقباً النداء، جاء ووقف أمامي في أدب وهدوء قائلاً
نعم ؟-
قلت له
. أرح... نمشي-
لم يَقُل إلى أين، ولكنه مضى أمامي ومشيت خلفه، كنا نهرول هرولة، دخلنا زقاقاً ضيقاً، أفضى بنا إلى زقاق ضيق، عبر صف من الرواكيب والقطاطي، عبرنا شجرتي نيم خلف زريبة، تبيناها من رائحة روث الأغنام والبهائم، تفوح منها رائحة (المُشٌك) ثم يتلوى بنا زقاق آخر، ليلفظنا خارج بيت الأم في طريق رحبة يؤمها السكارى والعاشقون ولفيف من خلق الله من الجنقو والجلابة وبعض عساكر الجيش. ومضى ود أمونة، ومضيت خلفه صامتا. إلى أن دخل بيت مختار علي، حينها قال لي
-إنت عايز بيت مختار علي، مش كدا؟
قلت له
أيوه.-
ولم أسأله كيف عرف ذلك، دخلنا، وجدنا مختار علي وقد خلد إلى النوم، استيقظ بمجرد أن ولجنا الحوش الكبير وصاح
- منو ؟
قال ود أمونة
. نحنا يا مختار -
- مرحبا، اتفضلوا.
قال لي ود أمونة مستأذناً
- أنا عندي شُغُل في بيت الأم، لو ما كدا كنت قعدت معاكم، الليلة في ضيوف كُتار في البيت،، نتلاقى الصباح.
ودون أن ينتظر رداً مني، ذهب واختفى في الأزقة التي حتماً ستسلمه إلى أزقة، التي سوف تلقي به في بيت الأم.
بيني وبين نفسي كنت قد فسرت هروب ود أمونة مني وادعاءه المشغولية بعودته السريعة إلي بيت الأم، كان يريد أن يشهد بأم عينيه ماذا سيجري ما بين صاحبي والصافية، سألني مختار علي بصوت نعسان مرهق عن صاحبي، قلت له
. تركته في بيت أدّي مع الصافية-
قال محتجاً وقد طار النعاس من عينيه
لييه ؟ -
قلت له في برود
. رغبته -
قال وقد جلس
لكن مع الصافية؟ -
قلت مؤكداً
. نعم مع الصافية-
قال لي
؟ ما سمعت قصتها مع ود فور-
قلت ببرود
. ولكن قصتها معك كانت مختلفة-
قال محتجاً
. الموضوع مختلف، معاي براو، ومع ود فور براو-
قلت له
هل أنت متأكد من أن قصتها مع ود فور صحيحة؟ -
قال مستسلماً
- في الحقيقة مافي زول متأكد من الحصل بالضبط لود فور، ولكن الناس كلها متأكدة إنو حصل ليهُ شئ، كويس؟ كعب؟ الله يعلم. المهم ربنا يستر.
قلت له وقد عاد واضطجع في السرير
- ما يهمني إنو ما حتقتله، لأنه ما بيموت بالساهل، وكل شئ غير الموت، هو تجربة مفيدة في حياة الزول، بتنفعه وما بتضره، كعب الموت بس.
ولكي ينهي النقاش سألني مختار إذا كنت أرغب في النوم داخل القُطِية مثلما يحب صديقي، أكدت له أنها رغبتي أنا أيضاً، وأنني معتاد على ذلك منذ صغري، طالما لم تكن لديّ رغبة في النوم، قلت لنفسي لأجرجرنه في الكلام ولو في الموضوعات التي يحبها كبار السن مثله.
ليك كم سنة هنا؟ -
انقلب على جنبه الأيسر ليقابلني وجهاً لوجه
- والله ما بتذكر أنا جيت هنا متين، أول مرة، لكن من ما كانت (الحِلة) دي بيت واحد كبير مزروب بشوك الكتر والسيال المرافعين والثعالب تحوم والشمس في نص السما، كان الجلابة البيزرعوا هنا، محسوبين على أصابع اليد الواحدة، والأرض المزروعة ذاتها كانت صغيرة وضيقة، كنت أنا وكيل مشروع، أكبر مشروع، ما بشوف التاجر الجلابي دا إلا يوم الحصاد وبس، كل البوابير والعمال تحت إدارتي أنا، ولكن نحنا ما فينا فايدة، الواحد بيلقى العشرة والعشرين في زمن القرش الواحد عندو قيمة، ولكن الواحد مننا يشيل القروش وينكسر في كنابي المريسة في (الحُمرة) في فريق قرش
دي حلوة
دي مُرّة
دي حامضة
دي فطيرة
دي خميرة
دي فتاة، ودي عزباء، دي شرموطة، ودي شريفة. لحدي ما يكمل الفي جيبهُ، وتاني يبدأ من جديد. أكثر من أربعين سنة بالصورة دي، يمكن حتى تقوم الساعة دا لو ما انتهى الواحد مننا في شجرة الموت، في فريق قرش، و تبقى سوء الخاتمة.
قلت له مندهشاً
شجرة الموت؟ تقصد سدرة المنتهى؟ -
- لا، دي شجرة الموت دي شجرة كبيرة في الحُمرة في فريق قرش، لمّان يكبر الجنقوجوراي خلاص ويقرّب من الموت أو يمرض مرض تاني مافي عافية بعده، يمشي وحده أو ترميه الحَبَشية صاحبة البيت في الشجرة دي حتى يموت، الأخوان ما بيقصروا منه يدوهُ الفيها النصيب كان طعام، كان قُرُوش، كان هُدُوم، كان شراب،كان تُمباك.
قلت له ثائراً
لييه ما يرجعوه لأهله؟ -
- مافي زول يقبل يرجع لأهله بعد العمر دا كله، يرجع ليهم زول موت؟ عيب والله؟
ثم حدثني أن الجنقوجوراي، أي جنقوجوراي، يأتي إلى هنا للعمل موسم واحد فقط ويقول لنفسه إنه بعد هذا الموسم سوف يعود لأهله، يبسط أمه وأخواته ويتزوج، فيعمل موسمه الأول، ولكن أولاد الحرام وبنات الحرام دائماً له بالمرصاد، فيشرب قروشه كلها مريسة وعرقي وينوم مع النسوان ويصاحب، ويقول السنة الجاية بعد حصاد السمسم مباشرة سوف أعود إلى أهلي، وهكذا، إلى أن يبلغ من العمر عتياً، فيمرض و يموت، قال ضاحكاً
. أنا في حياتي ما شفت جنقوجوراي واحد رجع لأهله!! إلا إذا جاء أهله وساقوه من هِنا-
؟ غريبة-
ثم أضفت وقد طغى على ذهني موضوع الشجرة الغريبة
؟ أنا أتمنى أشوف شجرة الموت دي-
. في حي قرش، شجرة مشهورة في الحُمرة، جنب بيت العُمدة دَوَدَةْ،هي مصير الزيّنا ديل-
قلت له مشفقاً
إنت أهلك وين يا مختار؟ -
قال في حسرة
- أنا ما عندي أهل، أنا حسي عمري اتجاوز الستين، بعد دا في أم ولا أب ولا أخوان بيكونوا موجودين؟ وأنا كنت أصغرواحد في الأسرة.
أولاد أخوانك وأخواتك وين؟ -
- لا أعرفهم، ولا هم يعرفوني. وقريتنا ذاتها في دارفور انمسحت بالواطا، ضربتها الحكومة. أنا مصيري بس شجرة الموت يا ولدي. وأنا ما ندمان على شئ، والله عشت زي ما عايز. واستمتعت بحياتي في شبابي، وحتى الآن أنا بعمل وبجيب دخل، وأنا مقتنع أنه أي إنسان ضاق نُسْوَانْ البلد دي، وشرب مريستها تاني ما بيفارق عيشتها، وأنا لا خليت نساوين ولا مرايس. من خشم القربة حتى فريق قرش في الحُمرة، ومن الحواتة حتى الفزرا، بس أنصحك يا ولدي؛ ما تفرط في حياتك.
قلت بيني وبين نفسي: والله فرطتُ وإنتهي.
قلت له
. الله يستر.... الله يستر-
استيقظنا مبكرين كعادة ناس البلد هنا، ينامون مع الدجاج ويستيقظون معه، ما عدا السكارى والعشاق، يسهرون إلى ما بعد منتصف الليل، ويستيقظون مبكراً، تركت له ما تبقى لديّ من تُمباك وقصدت بيت الأم مباشرة، كانت الشوارع تضج بالمارة القادمين من القرى القريبة في طريقهم إلى سوق الجمعة، البربارات مشحونة بالسمسم، القرويون يقتسمون ظهرها الضيق، مرّ أمامي لوري،ثمّ كارو لماء الشرب، ناداني الطفل الذي يقود الحمار باسمي، عندما التفت إليه معيراَ إياه كل انتباهي خاطبني قائلاً
. صاحِبك أُمبارح نجمتو الصافية-
قلت مندهشاًً
شنو؟ -
قال مكرراً في استمتاع خاص ولذة قوالاتية بالغة
. صاحِبك الصافية أُمبارح ورتُهُ نجوم النهار-
قلت بسرعة
- وين؟
قال وهو يطرق برميل الماء إعلاناً لمائه
. أمبارح، بعد ما مشيت خليتُهُ،وسبتُهُ إنت وود أمونة في بيت أدّي مع الصافية-




سُوقْ العُمَالْ

افتقدت ود أمونة بمجرد دخولي إلى حوش بيت الأم، كان غيابه واضحاً
قالت لي ألم قِشي
ود أمونة قاعد يَعلِّمْ العروس. -
؟ يَعلِّمْ العروس؟ يعلمها شنو -
يعلمها الرقيص، إنت ما عارف إنه ود أمونة فنان؟ ورقاص وحَنّان وحلاق برضو؟ -
هززت رأسي إيجاباً و لكنني كنت أقصد بيني وبين نفسي: نفياً تاماً
أضافت في شهية
. بت أبرهيت، حيعرسها محمد عوض سَوّاق البربارا، يمكن سمعت بحمدو -
هززت رأسي إيجاباً بما يعني: إلى حد ما
قالت لي ألم قِشي
. ود أمونة لو ما الله ستر كان حيجي بت -
ضحكت وقلت
، وبيعمل عمل البنات. ظاهر عليه ما راجل-
قالت وهي تضحك
- مافي (مَرَا) جربتهُ حتى الآن، ومافي راجل برضو جربهُ حسب علمنا و معرفتنا. غير حكاية الطباخ الفي السجن لمّان كان صغير، تاني مافي شئ. حسي هو راجل عمره ثمانية وعشرين سنة، ولكن أبوه غير معروف.
قاطعتها
. قال أبوه يماني-
عشان لونُهُ الأصفر ولاّ شُنو؟-
. هو قال كدا؛ أمه قالت ليهُ-
قالت وهي تدلك رجليّ يعجينة دلكة
. أي زول عارف قصة أمه-
حكت له أن أمونة عندما هربت من أسرتها قبل ثمانية وعشرين عاماً، وكانت أسرتها في قرية نائية في الغرب، أن سائق اللوري الذي صادفته في الطريق مارس معها الجنس، وأن المساعد الذي يعمل معه أيضاً مارس معها الجنس، وأن الجلابي صاحب العربة أيضاً، وعندما وصلت مدينة القضارف، صاحب الكارو الذي استقلته لحلة البنات أيضاً مارس معها الجنس، ثم اليماني صاحب الدكان، النذير شيخ الحلة، ود جبرين صاحب اللوكاندة وراجل المرأة التي استضافتها في الحلة،و الأستاذ زكريا المُعلم بمرحلة الأساس، ثم حبلت بود أمونة. وهذه الحكاية أنا سمعتها مباشرة من كلتوم بت فضل وهي أعز صديقات أمّونَة.
ولكن ود أمونة طلع يشبه منو؟-
- والله أنا الجماعة ديلك كلهم ما شفتهم، ولكن لونو دا لون أمه، إنت ما شفت أمه، أمه بيضاء وجميلة زي القمر، بالرغم من إنها كبيرة حسي، ولكنها جميلة
وين هي؟ -
- متزوجة من عسكري سجون في القضارف، ولدت ليهُ بِتْ،كان شُفت أمه الليلة تقول عمرها ثلاثين سنة، دلكة وخُمرة وحِنّة ودلال.
ثم أضافت
يمكن أمه هي الخربتهُ؟ -
كييف؟-
كان مُدلّع.-
. لكنه قضى معظم حياته في السجن-
- برضو في السجن كان مُدلّع دلعنهُ السجينات والمساجين والعساكر، تحت تحت الناس بيقولوا العساكر كانوا بيستعملوه.
الجو صحوٌ والسماء زرقاء وصافية، كنا نجلس تحت الراكوبة الكبيرة أمام القطية، وهي أجمل الأمكنة للونسة وشرب القهوة، ولا أظن أن أول من ابتكر الراكوبة كان يعني بها شيئاً آخر غير الموانسة، سألتني:
. وين صاحِبَك-
. مع مختار علي-
. صاحِبك دا زول غريب-
هززت رأسي إيجاباً
أضافت
. يوم حيكتلوه-
قلت لها:
. لا، مافي زول حيكتله، دا ما النوع البيموت مكتول-
قالت:
- والله في الحُمرة في فريق قرش ما بياخد عشرة دقايق، شفت العملية العملتها فيُهُ الصافية؟
قلت لها:
- الناس هنا يزيدوا الحكايات، وكل زول بيحكي الشئ البيتخيلهُ كواقع.
ثم أخذت تحكي لي القصة كما تظن أنها الحقيقة، وقاطعتها عدة مرات، محاولاً محاصرتها لكشف تناقض قد يبدو لي هنا أو هناك في الحكاية، ولكنها مضت في حكيها بثبات وثقة العارف المتأكد، ثقة من شاف، ولو أنها وغيرها لم يروا شيئاً، وهذا حسب ادعائي أنا أيضاً، لكنني فضلت عدم الخُوض في هذا الموضوع، خاصة بعدما انضم إلينا ود أمُونة، كانت تفوح منه رائحة الخُمرة والعطور النُسوانية البلدية، كان ناعماً لامعاً ونسوانياً أكثر مما رأيته من قبل، قال إنه مستعجل واشتكى من أن العروس شَتَرا ولم يستطع أن يرقصها إلا على الأغاني الحبشية.
- وحتى الأغاني الحبشية بالله ويامين، الدلُوكَة في جِهة والرقيص في جِهة، وووب علينا من دي شَغَلانَةْ.
خاطبني قائلاً
صَاحْبَك أُمْبَارحْ الصافية طَلّعتْ مَيَتِيِنُهُ.-
وأخذ يقهقه بالضحك إلى أن سمعنا صوت صديقي يلقي السلام
؟ شُنُو مبسوطين كِدا يا شباب -
استأذن ود أمونة مُدعياً أنه مشغول بالعروس. تناولنا وجبة الإفطار فيما يشبه الصمت وخرجنا إلى سوق العمال، حين وصلنا كانت هناك بوادر ثورة على الجلابة في سوق العمال، وبدى لنا أن الأمر جدير بالمشاهدة، فمثل هذه الحوادث نادراً ما تحدث، تركنا ألم قِشي في المنزل.
سوق العمال في كل سبت، عند الميدان الكبير الذي يقع جنب المركز الصحي الذي شيدته منظمة عابرة تسمى (كرستيان أوت ريتش)، كمقر لرعاية الأمومة والطفولة، احتلته فيما بعد مؤسسة التأمين الصحي التجارية مشردة الأمهات والأطفال، فيعرف الآن بميدان التأمين الصحي، تحت شُجَيرات النيم الخمس، يقع سُوق (على الله) يؤمه العتالة، الجنقو، البناءون، النجارون والسماسرة، كانت لاندروفرات، باربارات، بكاسي ولواري الجلابة تصطف عند الجانب الجنوبي من السُوق، قُرب موقف الشُواك، حيث سُوق الميكانيكية والحدادين، الزيوت والإسبيرات. التجار الجلابة في جلاليبهم الكبيرة، أوجههم المنعمة، يتوسطون حلقات العمال يساومون، يفاصلون، يخادعون، يحاورون، يجادلون، يتاجرون ويسترضون، قالت لي جنقوجورايةٌ جميلةٌ بُنِيّةٌ استفسرناها، شرحت لنا ما يحدث:
أول مرة يحدث في البلد دي يتفق الجنقو على سعر واحد، كلهم بدون فرز. -
كان واضحاً أنّ ثمّة أمراً قد تمّ ترتيبه وأن اتفاقاً ما قد وَقع بين العاملين، كانت وجوههم السوداء والبُنية، الغبشاء والتي يبدو عليها ما تبقى من ليلة الأمس واضحاً جلياً، تلك الوجوه المرحة المتسامحة غير المبالية، تبدو اليوم أكثر جدية وخطورة، تنطق جملة واحدة فقط:
. حِلة السمسم بتسعة جنيه-
يقول التجار بسعر ثمانية، ويشتكون بأن الثمانية التي يعطونها الآن مقابل أن يقطع الجنقوجوراي حلة واحدة من السمسم لا تطُاق، فكيف التسعة؟

يعلم الجنقو، ويعلم الجلابة أن السمسم هو صاحب الكلمة الأخيرة، وما هذه المساومات و الحجج التي تدور الآن سوى مضيعة لوقت الجلابي، وفعلاً، عندما ارتفعت الشمس في قبة السماء، هبت ريح شمالية حارقة، أرقصت المكان، سُمعت أغنيات السمسم موقعة على دلوكة ود أمونة في محاولاته البائسة في ترقيص العروس الشتراء، فتفتقت السنابل السمينة ممزقة ثياباً يريد لها الجلابي أن تبقى إلى حين أن يصلها المنجل، منجل الجنقوجوراي الحنين، الشمس الآن في برج السمسم بالذات، القمر الذي سوف يطلع عندما تغيب الشمس، بفعل المدّ والجزر، هذان الفعلان الشيطانان، سوف يفتقان فساتين السنابل، فيندلق الذهب منها إلى الأرض، يلتقطه نمل نشط لا يكل ولا يمل العمل، فيحتفظ به في صوامع أمينة تحت الأرض لأيام الشدة، تحرسه بَرَكة الملكات الرؤومات، الجنقو متأكدون من أنهم سوف يكسبون الرهان، والجلابة أيضاً يعرفون أنهم سوف يخسرون، ولكن بعض الحوار قد يفيد، دخل الوسطاء، سماسرة، وكلاء مشاريع، داعرات شهيرات، أصحاب لكوندات، سائقو بوابير، تجار الكلام، واقترح البعض:
أن يأتوا بعمال من محلية الفشقة المجاورة، عمال مهرة ولا يكلفون كثيراً، و أن يتركوا هؤلاء الثائرين، وسوف يندمون.
ضحك الجنقو عندما سمعوا بذلك قائلين لبعضهم البعض.
هه.... الفشقة؟ يخلوا سمسم الفشقة لمنو؟ -
اقترح الجلابة لأنفسهم بصوت مسموع
نجيب عمال من معسكر اللاجئين. -
ضحك الجنقو قائلين
............؟؟ لاجئين-
أنتوا بتحلموا؟؟ اللاجئين في المعسكرات بقوا أغنى من المواطنين، يحمدوا ربنا الخلقهم.
وما في لاجيء فاضي لقطع السمسم.
اقترح الجنقو لأنفسهم بصوت مسموع
- أحسن نحن ذاتنا نسيب الشغلة بتاعة السمسم الما نافعة دي، ونشتغل مع شركة الاتصالات في حفر الكوابل.
قال جنقوجوراي بصوت عالٍ غليظ
. أنا لو أشتغل زي ود أمونة، ما بقطع السمسم بثمانية تاني-
قال الجلابة لأنفسهم بصوت عالٍ
. حنجيب عُمال من خشم القربة-
قال الجنقو لبعضهم البعض.
. إلا لو عايزين طَنَبَارة ومدرسين-
ثم هتفت الصافية قائلة
- أرح يا شباب نمشو، (القُوقُو) قال داير الحلة، أرح نكمل سَكَرة أمبارح، النسوان في انتظاركم يا أولاد.
وعندما تحرك فوج العمال نحو الحِلة، وعندما قاصد مباني البنك تحت التشييد، تحدث السمسم سراً لجيوب الجلابة فقالوا
. رضينا بالتسعة، وإن شاء ما تنفعكم وتبقى ليكم بالساحق والماحق والبلا المتلاحق-
قال الشايقي
. نحن قروشكم دي عندنا زي قروش الحرام، نشربها بالنهار نبولها بالليل-
قبل الجنقو ولكن ألا يذهبوا اليوم، بل غداً، لأن القُوقُو إذا اتجه إلى مكان ما، لابد أن يواصل مشواره سيكملون سكرة الأمس، فالقوقو يتجه نحو الحلة.
في الصباح الباكر غادروا إلى المشاريع، ما عدا مشروع الجلابي سُماعين قالوا إن عليه أن يتأدب، مما أعاد الاعتبار إلي مختار علي، فبكى من الفرح
ونحن راجعون إلى داخل الحِلة سألته
شنو حكايتك أمبارح مع الصافية؟ -
قال لي وهو ينظر بعيدا:ً
حأحكيها ليك بعدين، حتعرف كل شئ.-
قلت له:
. قالوا فعلت بك -
قال مندهشاً
فعلت بي شنو؟-
- قالوا إنو الصافية عندها (موضوع) زي بِتاع الرجال، وأكبر شوية، نُص حمار مثلاً. يعني قدر بتاع الدحش كدا.
قال وهو يبتلع ريقه في ضيق بيِّن
- حأحكي ليك، الموضوع مختلف تماماً الناس هنا مغرمين بالأساطير، هو موضوع غريب، لكن ما عنده علاقة ببتاع حمار ولا بتاع كلب، ولا بينة العقل التناسلي.
جلسنا على قهوة في سوق العيش قرب الصيدلية، كان الجنقو يعبرون أمامنا إلى بطن الحلة جماعات جماعات، يتحدثون بأصوات عالية وبلكنات كثيرة مختلفة، يثيرون الأغبرة من مشيهم السريع حيث يسحبون أرجلهم سحباً على الأرض، يضحكون وهم يحاكون الجلابة، أخذ أصحاب المطاعم يغلقون أماكنهم ونساء الشاي والطعام يفعلن الشئ نفسه لأنهن يعرفن أن السوق قد (سَبّحْ وَرَبّحْ) وأن الجنقو لا يقنعهم الآن سوى مجلس الشراب، على النساء أن يلحقن بهم في الحلة لكي يبعن لهم العرقي أو يهيئن لهم المفارش فهذه الأيام هي أيام الحصاد والمحصول هوالجنقوجوراي، دَيّنه مضمون ونقده أكثر ضماناً، بس كيف يدخل البيت
فالنساء يتخاطفونهم من الشوارع.
اعتذرت لنا صاحبة القهوة عن تقديم أي شئ لنا قائلة بوضوح
- الرزق دخل الحلة، وعندي عرقي خايفاه يبور، أخير ألحق أبيع كُباية كُبايتين، ولا شنو يا أخواني؟ ربنا أجل سفرهم الليلة، فرصة، ولاّ شنو يا أخواني؟
هززنا رأسينا معاً بالإيجاب، ونهضنا في وقت واحد من (البنبرين) مظهرين رضاءً تاماً بقرارها، بل عن طريق حركات مقصودة وهمهمات طيبة، أكدنا لها أنها تفعل الشئ الأكثر صواباً، وربُنَا يكون في عونها، تمنينا لها ذلك بصدق وإخلاص، مما جعلها تترك لنا (البَنَبَرينِ) في الراكوبة طالبة منا عندما نغادر أن ندخلهما الحجرة ونغلقها بالطبلة، التي تركتها دون إغلاق.
؟ سَمِح يا أخواني -
رد عليها بحنّية
. سَمِح يا أختي.. سَمِح-
قلت لها
شكراً-
وقالت وهي تنسحب وعلى رأسها قفة المهمات
. أنا بيتي جنب بيت الأم-
ونظرت إلى صاحبي نظرة فيها معانٍ كثيرة وتخيّل لكلينا أنها ابتسمت، الشئ الذي أكدته لنفسي أنها لم تبتسم، رأيت وقع ذلك حزناً طفيفاً على وجه صاحبي، ذهبتْ وهي تترنم بأغنية بنات هابطة، قال لي: تقصد شُنُو الزُولة دي؟
قلت له دون مبالاة
. تقصد موضوعك الأمبارح مع الصافية-
قال
لابد من أن ود أمونة هو النشر الدعاية دي؟ -
سألته
-إنت عَمَلتَ شنو بالضبط؟
و أكدت له أن ود أمونة كان يُرَقّصْ العَروس في ذلك الوقت، بعد ما قام يتوصيلي الي بيت مختار علي، سمعت صوته يغني بـالدلوكة: اللُوليّة يَسْحَرُوك يا لُولَة الحَبَشِيةْ.
وتقريباً ناس الحلة كلهم كانوا يسمعونه، صمت صمتاً طويلاً، وهي صفة يتسم بها أيضاً خاصة إذا كان يفكر في أمر شائك. لم أجد سبباً وجيهاً يمنعه من أن يخبرني بالحقيقة فبيني وبينه دائماً الصراحة والوضوح. وليست الحواجز والصمت.
مرّ أمامنا نفر من ضباط الجيش، يتبخترون في مشيهم كالطواويس، سألنا موظفون من شركة الاتصالات ما إذا كانت (بخيتة) موجودة، قلنا لهم إنها في المنزل. فذهبوا نحو الميس، كان صديقي يعرف بعضهم ومن بين هذا البعض مدير الشركة، مرّ بنا عمال يلبسون أفرولات زرقاء وسوداء وبيضاء عليها بقع من الزيت، تشهد الحلة هذه الأيام نهضة تنموية ينظر إليها الجميع بعين التفاؤل والتقدير، ويهتم الأهالي ويشجعون مظاهرها الخارجية وتنظم البنات الأغنيات عن المعلمين وضباط المحلية والشرطيين ومهندسي شركة الاتصالات، وحتى عمال طلمبة الوقود بشارع همدائييت.
سألنا رجل وهو يدخل نصفه في الراكوبة:
بخيتة مشت وين؟ -
قلت له: في البيت.
:فنظر إلى صاحبي نظرة فاحصة وقال
إنتو جُداد في البلد دي مش كدا؟ -
قلت له: نعم.
نازلين في بيت الأم؟
قلت له: نعم.
ابتسم ابتسامة عريضة، أظهرت أسناناً متفرقة بُنية بفعل التسوس والصعوط، فسّر صاحبي هذه الابتسامة بأنها نوع من السُخرية أو الشماتة، وحكى لي ما أسماه كل شئ حدث بينه وبين الصافية، حتى يغلق هذا الباب على الأقل من جهتي.


(سَبَعَهْ يُومْ عَوَضِّيهْ بَعِيدْ)

البلد، ويقصد الحِلة، ليس بها في الماضي سوى المرافعين، الحَلُوٌفْ، أبوالقدح والقرود والثعالب، وفي كل مكان تلقى الجنون، في الكرب وطرف البحر وحتى في باطن الحِلة
ساكنة مع الناس. الحِلة كانت عبارة عن بيت واحد كبير جداً مزروب بالشوك، بيت طوله حوالى ألف متر وعرضه أكثر من ذلك بكثير، ومحروس بالكلاب وهو بيت الصافية الحبوبة، في الداخل كان مقسم لبيوت كثيرة، كلها قطاطي من القش والقصب ورواكيب كبيرة من حطب الكتر والدهاسير، وفي المنتصف توجد مطامير الذرة والدخن وخمارات الكَوَلْ، كل الجُدد القادمين إلى الحِلة، يجدون لأنفسهم براحات يبنون فيها قطاطيهم داخل هذا الحوش الكبير، أما العابرون إلى جهات أثيوبيا وإريتريا، أو الصعيد، الذين أتى بهم الطريق، فإنهم يُستضَافون في ديوان الجَدة الصافية، حيث توجد زاوية الصلاة وسبيل للمياه والمستراح؛ وهو عبارة عن حفرة معروشة بالحطب القوي والقش تستخدم كمرحاض. وقد عبر بهذا الديوان حجاج جاءوا من تشاد، نيجيريا، النيجر والكميرون، وحتى مغاربة بيض الوجوه لهم ذقون ولحى طويلة شقراء، استراحوا هنا، وهم يمضون نحو باب المندب إلى اليمن ثم إلى مكة، كان بعضهم يقيم لأكثر من عام، فيتخذ لنفسه أرضاً، يقوم بفلاحتها وزرعها بالسمسم والدخن، وقد يتزوجون وينجبون الأطفال.
منزل واحد كان مركز الدنيا، وامرأة واحدة كانت سمعتها تملأ الشرق كله، وقد نقل سيرتها الحجاج إلى بيت الله الحرام بمكة، ولمّا رجعوا لأهلهم، حكوا لهم عنها كذلك، في الحقيقة، ما كانت الصافية الجدة هي مؤسسة هذا النزل، ولكنها الأشهر بين صافيات كثيرات عِشْنَ في هذا المكان، سُلالة جد جاء هارباً من سجن في الحُمرة، في سنة موسومة بسنة النَجَمة أم ضَنَبْ وهي نجمة لا تظهر إلا في السنوات التي سوف تشهد أحداثاً عظيمة، كما تعلمون، كان نجماً كبيراً تبختر في السماء بذيله الطويل لأسبوع كامل، جدها أُتِهِمَ في أثيوبيا بسرقة بيت (القِشي) نفسه، وسيقتلونه بالتأكيد، ضرباً أو جوعاً، المسجونون في ذلك الزمن الغابر، يخرجون في مجموعات، يُرْبطون على حبل واحد من التيل، يُطَوّفون بالأحياء والأسواق والمطاعم، يأكلون البقايا ويسألون الناس الطعام والمال، التباكو والصعوط، وهي الوسيلة الوحيدة للحفاظ على الحياة وتجنب الموت جوعاً، فالسجن ليس مسئولاً عن طعام الناس، يكفي أنه يوفر لهم سَقفاً يقيهم المطر وحر الشمس. كان الجد عبد الرَازِقْ مع بعض أصدقائه في مطعم بالحُمرة، قُرب سُوق همدائييت، وهو سوق يؤمه لفيف من السودانيين للبيع والشراء، ولأنهم يأتون عن طريق همدائييت عابرين نهر سيتيت فسمي بهذا الاسم، كانوا يتناولون الزِقْنِي بـالأنجيرا، والشطة الدليخ وهي وجبتهم المفضلة في أثيوبيا، عندما رأى توأمه عبد الرزّاق مربوطاً من قدميه في حبل من التيل مع عشرين من المساجين، كانت (حالته بالبلا) ووجهه أصبح عظاماً من الجوع، تفوح منه رائحة كريهة، احتضنا بعضهما البعض إلى أن فرّق بينهما السجان والمسجونون المتعجلون حيث إن زمن البحث عن الطعام لا يمكن تضييعه في علاقات اجتماعية لا فائدة تُرجى منها، وتكلما بلغة تخص قبيلتهما، ثم أعطى توأمه طعاماً ومالاً ووعداً صادقاً.
يعرف عبد الرازق عن توأمه أنه خجول وعديم الحيلة، ولا يمكن أن يسرق شيئاً مهما صغُر وأُهْمِل، ويعرف أيضاً أن عبد الرزّاق قد يموت بالسجن إذا لم ينجده، الحبشة بلد غُربة، وهو لا يعرف رجلاً مسؤولاً أو وجيهاً أثيوبياً يستعين به، وحتى صاحبة البار التي كان دائماً ما يختلف إليها قالت له عندما حدثها عن محنة أخيه وتوأمه:
. لا، القشي حيقتلني-
وهو ليس لديه مال للرشوة، أمامه بديل واحد فقط، ومضى نحوه دون تردد، عليه أن ينقذ توأمه، مهما كلف ذلك. كان مختار علي يحكي لنا الحكاية كأنما حضر كل حادثة منها أو أنه أحد أبطالها، على الرغم من أنه يؤرخ لذلك بين حين وآخر قائلاً
. دا حصل من أكثر من مية وخمسين سنة

كنا نسير ببطء عبر الأزقة، لا نهدف لمكان بعينه، هي فكرة مختار علي، أن نتمشى قليلاً في شمس الصباح؛ لأن بها فيتامينات مهمة، وأكد لي أنه حتى الثعابين تطلع من جحورها لتأخذ منها قوة النظر، صحته بدت في تحسن ملحوظ اليوم، كان متفائلاً ويضحك لأتفه الأسباب، يتحدث بصوت عالٍ وهو ما ليس من طبيعته في شئ، وجدنا نفسينا ندخل زقاق بيت أداليا دانيال، التي فاجأتنا من أعلى صريف بيتها:
- يا مختار علي، إنت وصاحبك تعالوا جُوه، صاحبكم ذاتو قاعد هنا في بيتي، تعالوا أشربوا ليكم مريسة وونسوا خشم خشمين.
قبلنا الدعوة الكريمة شاكرين، فالدنيا صباح والمريسة أطيب ما يُستفتح، به وونسة الصباح هي مصيدة حكايات الليلة السابقة، سميتها وصديقي:جريدة الصباح، فالمريسة تطلق الخيال، الذي بدوره يطلق اللسان، فينفتح القلب للقلب مباشرة وتهبط ملائكة الحكايات الرائعة في المجالس فتحلو.
وجدناه يجلس على بَنْبَرٍ كبير، كشيخ أسطوري نُسِي من مذبحة العَنَجْ، على بَنْبَرٍ آخر، قربه العَجُوز، وهو أشهر مغنِ يستخدم أُم ْكِيكِيْ، في الحِلة والحلال المجاورة أيضاً، بالأحرى، لم ير الساكنون مغنياً يستخدم أُم ْكِيكِيْ غيره، ولم يسمعوا به مجرد سَمَعٍ، يبدو أنهما أنهيا فاصلاً ممتعاً من الأغنيات، حيث إنهما الآن يتحدثان عن مناسبة أغنية:

سَبعَهْ يوم
عَوَضِيّهْ بَعَيدْ
أبو اللّقَنَي
رُوَدَاي بقنيص.

فالتقطنا بقية كلام نطق به العجوز
- ناس الكَلَشْ هم أصحابها الحقيقيين، أنا جبتها من قيسان، وسمعتهم يغنوها في قنيص والكرمك، وحتى حي الزهور وفي يابُوس، وكل حفلات الروصيرص، لكن أنا أول زول يغنيها بأُم ْكِيكِيْ.
التفت إلى صديقي قائلاً في انشراح
- وين إنت يا أبو الشباب؟
ضحكَ، ضحكتْ أداليا دانيال، ضحكَ مختار علي وضحكَ هو في هستريا، قال لي
. إنت الوحيد البتضحك عن معرفة-
قالت أداليا وهي تهزّ صدرها الناهد فيما يشبه الرقص
، يوم ليك و يومين عليك. كلنا عارفين يا أخوي، الدنيا أصلها كدا-
أحضرت أداليا دانيال العسلية والمريسة، أحضرت الأم فِتْفِتْ بالشطة الخضراء والفول الدكوة، قالت
. عندي مُوليتة-
قال العجوز
. أنا أحب المُوليتة-
سألتها
-عندك أبُنْغَازَي؟
قالت وهي تشير بإصبع عليه خاتمٌ كبيرٌ من الذهب إلى الشطة.
. فيها، الشطة فيها أبنغازي-
قدمت لنا أداليا الكؤوس الأولى بيديها الناعمتين السوداوين، تبدو الحناء على أظافرها رقيقة ساحرة، شهية وأكثر سوادا، بمنزلها أيضاً قليل من الجنقو، حيث سافر الجميع في الصباح الباكر لقطع السمسم، كان مختار علي بين حين وآخر يذكر الناس بانتصاره على إسماعيل الجلابي.
. سُماعين ود الكِدِك، ما لقى جنقوجوراي واحد يمشي معاهُ-
ودون رد أو تعليق من الحاضرين، أخذ العجور يغني بصوته الشجي:

قيسان البعيدة...
قيسان البعيدة، عندي فُوقُو الحبيبة.
قيسان البعيدة، عندي فُوقُو الحبيبة.
ولأن كل أغانيه جماعية، يستحيل أداؤها بدون كورس، أخذنا نردد خلفه المقاطع الأولى من الأغنية، وليست تلك مهمة صعبة، حيث إن كل الأغاني معروفة لدى الجميع، أنا وصديقي غريبين، ولكن ترديد جملتين لحنيتين بالسلم الخماسي، بهما كلمتان من اللغة العربية وخمس كلمات من الأنقسنا ليس بالأمر العسير، ولو أننا قد (نشتُر)نشذ عن اللحن و الإيقاع أحياناً، ولكننا نغني خلفة بإصرار وحماس؛ مدتنا به عسلية ومريسة أداليا دانيال بجمالها ومذاقها الحلو، في الحقيقة لا يُوجَدْ غُرباء هنا في الحلة؛ بمحرد أن تنزلك بربارا أو يلقي بك بصٌ كئيب أو تهبط من ظهر لاندروفر أو يرمي بك لوري في الحِلة، أو بمكان ما في السُوق، تصبح أحد أفراد الحِلة المؤسسين، وتعرف كل شئ عن كل شئ بحمد الله، في ذات اللحظة وذات مكان الوصول.
رَقصتْ أداليا دانيال بصدرها المملوء باللبن بصورة رائعة، خلدت في ذهني إلى الأبد، تبرع جنقوجوراي شاب من قبائل المابان بالأنقسنا بأداء إيقاع الكَلَشْ السريع الصعب، بواسطة وعاء بلاستيكي يُستخدم لتقديم المريسة، عندما انتهت الأغنية، صفقنا جميعاً لأنفسنا، حيث كانت الأغنية من أداء الجميع، رقصت أداليا دانيال عنا بصدرها الناهد الوافر، مما جعلنا نطلب باقي المريسة (البايرة) عندها. لأن الجنقو الفدادة ذهبوا، وأعطيناها ثمن جردلين من المريسة لم نشربهما، بِحُرّ إرادتنا ووعينا، وحَشَر لها صديقي في فراغ ما بين النهدين (في ما يُسْمَى بوادي الكَدايسْْ)، ورقة نقدية كبيرةُ، همس لي مختار علي في أذني ونحن ننصرف
لو ما عملت كِدا كان تبيع مريستها الحامضة دي لمنو؟! وعسليتها البايرة؟ -
وضعنا سريرينا قُرب قُرب في المساء، كان الضوء الباهت يأتينا من داخل القُطية في شكل عمود خضم، حكى لي عن أسرة الصافية كما طلبت منه.
الجدة ووالدها عبد الرازق، حدثني أن الجد جاء إلى هنا بعد هروبه العجيب من سجن الحُمرة وعلى رأسه (الفِرو)، وهو أول شَخص في تاريخ الحبشة يهرب بـالفِرو، وربما في إيطاليا ذاتها، لأن الإيطاليين هم الذين جاءوا بالفِرو إلى الحَبَشَة، وكان يُستخدم لتأديب الثوار واللصوص.
شربنا قهوة أعدتها لنا إحدى الجارات وناولتها لنا من على الصَرِيفْ، مُذكرة إيانا بأن اليوم هو عيد القديس يُوهَنِس، باركنا لها العيد وأعتذرنا على المُباركة المتأخرة لأننا ما كنا نعلم بأن اليوم هو يوم عيد القديس يُوهَنِس.
قالت لي الجارة
. ألم قِشي تسلّم عليك-
سألتها بسرعة
- وين ألم قِشي؟
قالت وبصوتها احتفالية جذلة
-هي قاعدة معانا هنا، عايز تشوفها؟
وجودنا في بيت مختار علي، حرمنا من حضور الاحتفال العظيم الذي أقامته أدّي في منزلها احتفاءً بعيد القديس يُوهَنِس، وحرمنا من وجبة الديوك الحمر والأم بَابَا، ولو أنه لم يكن هناك رقص وغناء نسبة لإنشغال ود أمونة بتعليم العروس الشتراء، إلا أن اليوم كما حُكي لنا لاحقاً كان
. خطير-
على حسب تعبير ألم قِشي، وأشير هنا إلى أن ألم قِشي هو الاسم الذي يلاحقني في هذه الأيام، وأنا وهي متهمان بأننا ننوي القيام بخطوة ما كانوا يتوقعونها، يقولون إننا سوف نتزوج في عيد الأضحى القادم، وأقل الأقوال تفاؤلاً بعلاقتنا هي أنني أحُبها حُباً شديداً، وهي أيضاً متأكدة من حُبي لها، مثلها مثل الجميع إلا أنا، لا أعرف شيئاً عن هذا الحُبْ، كل ما أعرفه أن ألم قِشي أول من أنهت عذريتي بصورة واضحة وطبيعية وأنها ؛ لحد ما كسرت حاجز الخُوف الذي بيني وبين المرأة؛ والحق يُقال أيضاً، كنت دائماً ما أتخيل نفسي بأنني سوف أفشل مع النساء حالما تُتَاحُ لي الفرصة كاملة في ذلك، لذا كنّ يخفنني، كما أنني كنت مُقْتَنِعَاً بفكرة غريبة مفادها: أنني إذا فشلت مع المرأة الأولى، سوف أصبح عُنِّيناً بقية حياتي، أي سوف أفشل مع جميع النساء. ولم تنفع الشهادات الهشة التي كنت أستعين بها للدفاع عن رجولتي من حين لآخر، مثلاً ذكري صاحبة الطحّانة التي اغتصبتني وأنا طفل، وذكري أخت زميلي، ذكري دَحَشَةٌ ومِعزة أتيتهما وأصحابي المراهقين، ذكري كلبةٍ ألبسناها طَبقاً من السَعف حول عنقها و اغتصبناها، وأستاذة الجامعة وغيرها من الممارسات غير السوية المقرفة، ألم قِشي هي التي أعادت لي ثقتي بنفسي بِحَرفية عالية، بذكاء بالغ، في متعة مدهشة، وجدت نفسي أتعامل مع امرأة كاملة طبيعية وإنسانة. أتينا الفِعْلَ في ليلة واحدة ما لا يقل عن عشر مرات، أو قل الليل كله وعند الفجر وقبل وبعد الإفطار، أعطيتها أجرها بكرم سخي، ثم لم نفعل مرة أخرى ولو أننا تقابلنا وشربنا القهوة معاً وتلامسنا، أما مسألة الحُبْ والزواج وغيره وغيره، لم أعرف عنها شيئاً، ولم أفكر فيهما أبداً، وإذا صَدَقتُ القَول، أنا لم أحب في حياتي مطلقاً، وغالباً ما يصفني أصدقائي بأنني: بارد.
ألم قِشي سيدة طويلة، لها بشرة ذهبية ناعمة، بل قل حَمراء، عيناها كبيرتان بالطريقة الحَبشية حيث يُحيطُ بهما ظل ثقيل يضيف إليهما سِحراً خاصاً بساكني المناطق الجبلية والهضاب العالية ذات المُنَاخاتِ المطيرة، فوق ذلك لم تكن بالسيدة الفاتنة فتنة ظاهرة صارخة،على الرغم من أن لها جسدٌ شهواني، وإلا لأصبحت عاملة بار ناجحة في الحُمرة أو قُنْدَرْ أو حتى أديس أبابا ذاتها، ولكن ما يبدو من فتنتها أبعدها، كما تقول دائماً، عن منافسة البَارِسْتَاتْ المحترفات شكلاً و مهارةً هنالك، وقادها إلى الأراضي السودانية الجديدة، حيث شِيِعَ وعُلمَ عن السُودانيين حُبهم للحبشيات وتفضيلهن على نسائهم الوطنيات وسبب ذلك، كما تؤكد ألم قِشي:
الطَهَارةَ وعَدَمْ الحِنيّة. وعدم الحِنِيّةْ سببه الطهارة برضو.-
قلتُ للجارة الطيبة
. قولي لألم قِشي مَبروك عيد القديس يُوهَنِس، وأنا حأجيها بعد شوية عندكم-
أصدرتْ الجارةُ صوتاً بباطن لسانها،وشفطت كمية من الهواء بنخريها فيما يعني في هذه الأنحاء: حسناً.
ساعدتُ مختار علِي عَلَى الإستحمام، وذلك لأول مرة تقريباً يستحم، منذ أكثر من أسبوعين، أي مُنذ أن أُصيبَ، حيث نُصح بعدم الاقتراب من الماء، حتى لمجرد الوضوء للصلاة، عليه بالتيمم، نَصحهُ أفراد كثيرون أصيبوا فيما قبل بـضربة الدم، وهو التصنيف المحلي لمرضه المجهول.
عندما فرغنا من الاستحمام، وجدناها في انتظارنا خارج القُطية، في الراكوبة مضجعةً على عَنَقَريبٍ عجوز دون لحاف، تُظهر عُري سَاقيها بصورة استعراضية إيروسية في غاية الإغواء.قالت طالما أنا رافض أن أزورها، فبادرت هي بالزيارة، ولكنها أكدت أيضا، أنها سوف لا تكرر هذه المحاولة: كُلنا عِندنَا عِزة نَفِسْ.
تشاغل مُخْتَار عَليْ بأمر ملابسه و نظافته الشخصية.
سأعترف هُنا، أن ألم قِشي أحَبتني، ولكن في ظاهر الأمر أنا الذي أغير عليها، لأنني طلبت منها أن تترك العمل مع أدّي كفتاة مَبيت، وتعمل طباخة في مَيسِ شركة الاتصالات الجديدة، قلت مُعلقاً ومحبباً الفكرة:
. عمل شريف-
قالت بِغنج وهي تحاول أن تخفي عري ساقيها بحركة أخرى أكثر إثارة.
عملي مع أدّي عمل شريف.-
قلت لها
. على الأقل أنا شايفه غير شريف-
قالت بإصرار
-أنا شَايفَاهُ عكس كِدَا تَماماً، دَا شُغُل، العايز يدفع، وأنا بصراحة ما قاعدة استمتع إطلاقاً بالرُجَالْ: شُغُل يَعْنِي شُغُلْ.
وأكدتها باللغة التِجْرِنة ( سَرِِحْ سَرِحْ بَيُوْ) ثم أضافت:
-العَيب فيهُ شُنُو؟

عرفتُ فيما بعد، بعد سنوات كثيرة، وذلك بعد أن قرأت كتاب نَقْدُ الفِكرِِ اليَوَمِي لمهدي عامل، أن العيب الذي فيه تربيتي أنا، القيم الخاصة بي كآخر أقيم في ظرف مختلف ونوع مختلف وثقافة مختلفة، تراني اعترف بأنها فتحت لي آفاقاً إنسانية فيما يخص علاقتي بالمرأة، وتراني استمتعت تماماً بالفعل الجِنسي معها، ولكنني رغم ذلك أنظر إلى الأمر كله بميزان الخطأ والصواب، وهذا فضح لرجل انتهازي يسكن في خبايا شخص مدعٍ آخر وهُمَا أَنا، هذه شزوفرينيا أعاني منها كثيراً، ولا أظن أن الأمر له علاقة بالدين أو السُلوك الشخصي، المسألة معرفة فحسب طالما كُنا، أنا وهي نُدرك أن الخير والشر و كل الديانات والكُفْر أيضاً من ذات المصدر، وأن العمل مقدس. ناداني ومختار علي في هدوء، خاطبني قائلاً
. تعال حأحكي ليك موضوع الصافية-
قلت له متعجباً
. إنت مُش حكيته لي أمبارح-
قال وفي فمه ابتسامة تعبة
-الحكاية القصيتها ليك قطعتها من رأسي، إنت حاصرتني وأنا حاولت أفوتك، تعال يا مختار علي كون شاهدا على ما أقول، هي حكاية على كل حال ظريفة، ولا رأيكم شنو؟
أشرنا برأسينا في وقت واحد إيجاباً وجلسنا على عنقريب وبنبر قربه.

استيقَظَ على إثر نداء الصافيةِ له، كان قد نام على الكُرسي الذي تركتُه عليه، دخل القُطية الكبيرة، كانت شبه خالية من الأثاث، عدا سريرين من خشب السُنط مفروشين بلحافين لم يتبين تفاصيلهما، الإضاءة، لحد ما جيدة، طلبتَ منه أن يجلس في السرير الآخر، جلسَ
قالت له
-عايز تعرف حكايتي مع ود فُور؟
رد عليها بدبلوماسية ليست من طبيعته
. لو ما بزعجك الموضوع دا-
قالت وهي تأخذ نفساً طويلاً من الشيشة فتصدر صوتاً بائساً-
. كُويّس-
الخريف الفات كنتُ شغالة في مشروع الزبيدي، تعرف مشروع الزبيدي؟!
وقبل أن تسمع إجابته واصلت الحكاية، كانت هي المرأة الوحيدة بين عشرين رجلاً من الجنقو، وتستطيع أن تتذكر أسماءهم، اليوم، الشهر والساعة.
أنا وود فور كنا ماسكين مقاولة سوا في مشروع الزبيدي.-
كانا يعملان في فريق واحد، لاحظتْ أن ود فور في الآونة الأخيرة كان يتقرب منها كثيراً، و دائماً ما يضع نفسه في مجموعة العمل التي تضمها، ولاحظتْ أنه يتعمد الالتصاق بها ومداعبتها، وبغريزة المرأة، تلك الغريزة التي لا تُخيب، عرفتْ أنه يرغب فيها كامرأة، وعرفت أنها تريد ذلك ولأي مدى، إنها سوف لا ترفضه، إذا طلبها للزواج، فهو شاب ونشط ومسئول و الأهم أنه كان دائماً ما يحترمها، فهي ترغب في أن يكون لها أطفالٌ وبيت ورجل، وفوق ذلك كله، لها رغباتها التي يجب أن تُشبَعْ، لذا لم تدفعه عنها ولم تستمله إليها، تركته يقوم بالدور كاملاً، وهي طريقة تجيد النساء تمريرها للرجل الغبي المتعجل العاشق الأعمى، وهي صفات لحسن الحظ، يشترك فيها الرجال كلهم.
قلت لنفسي يا بِتْ خلي المسألة على الله.-
وبلع المسكين الطُعم، أطلق المبادرة تلو المبادرة تلو المبادرة، إلى أن نفدتْ حِيله الصغيرة المسكينة، التي أجادت الصافيةُ ادعاء تجاهلها.
- قال لي، والدُنُيا ليل ولكن القمر أبيض في السما وكل شئ واضح، قال لي:
يا الصافية أرحكي معاي للحفيرة نَوَنُسُو، أنا ما قادر أنوم شايفة القمرة بيضا كيف؟

تثاءب صديقي، شَرِبَ كَوباً من الماء كان على التربيزة جنبه، قفز على تفاصيل كثيرة كثيرة كثيرة، تحدث عما رآه فقط مهماً، قال: إنها أصرّت على أن تحكي تفاصيل تفاصيل، ما حدث بينها وود فور، ربما يكون هو الشخص الوحيد في الدنيا الذي يفهمها، إنها لم تحكها لأي كان من قبل، ما من أحد طلب منها ذلك، اكتفى الجميع بالإشاعة
قالت له بألم:
أنا تعبت، تعبت من الحكاية دي، عليك الله اسمعها كلها وما تزهج. -
وغرقت في التفاصيل. التفاصيل، التفاصيل. أكدنا له، أنا و مختار على أنه ليس مطالبا بأن يختصر، فالليل طويل و نحن ليس لدينا ما نفعله بما يتبقى منه، خُذْ راحتك.
قال قالت له
، مشينا الحفير، طلعنا فوق الدُولَة-
كان ذلك المكان هو الوحيد الذي لم ينمُ به عُشب الخريف، هي تخاف من الثعابين حصراً، ولا تخاف شيئاً آخر، طمأنها بأنه يمتلك ضَامِنْ عَشَرةْ مُجرب، وأراها له مربوطاً بصورة محكمة على ذراعه اليُسرى، سوياً مع سِكينته، فرشا برشاً صغيراً أتيا به، قالت لي فجأة، وقد علا شهيقها وزفيرها
؟ قام جاري-
قال لها مندهشا
-منو؟
قالت وهي تُمسك بيده بشفقة
. ود فور، قام جاري مني-
- لييه؟
قال محتجاً.
قالت بصوت عميق مخنوق بعبرة مُرّة
. جرى مني أنا، جرى ود فور-
ثم هدأت قليلاً وهي تقول
- كنتَ عايزاه، وبدأنا كل شئ، في الحقيقة كنتُ في حالة قريبة من الغيبوبة، ولكنه قام جاري، فجأة جرى زي المجنون.
أحسست أنها لا تستطيع أن تشرح أكثر من ذلك، من الأحسن ألا أطالبها أو أجبرها على الحكي، أحسست بالشفقة تجاهها، قررت في الحال أن أضاجعها، وذلك لما توصلت إليه من تحليل، متعجل بعض الشئ، وسريع لحالتها وهو:
أنها تفتقد الرجل في حياتها، الذين يحيطون بها لم يعرفوا المرأة فيها، ما عدا ود فور، ولم ينتبهوا إلى الإنسانة البائسة ولا يفهمون شيئاً عن حاجاتها الصغيرة الحقيقية. باختصار كانوا يعاملونها كرجل في ثوب امرأة لا أكثر.

صُدِمتُ لاكتشاف الحقيقة، أو ما أسميته بالحقيقة الأولى. وهي أن رائحة جَسَدَهَا لا تُطاق، وقالت صراحة في ذلك:
. معليش، ما كان عندي وقت لنفسي-
وقامت لأجلي بمسح جسدها بالماء، مُستخدمة مُلاءة قديمة من مُلاءات الأم أدّي، كانت لا ترتدي شَيئاً تَحتْ فستانها، وهذه فضيلة، لأنني لا أُطِيقُ رؤية ملابس المرأة الداخلية متسخة أو ممزقة، ولديّ فُوبيا سِرية منْ ذلك، فبمجرد رؤيتي لما ذكرت، أصاب بالعجز الجنسي التام، كانت تحتفظ بِعطر نسائي بلدي الصنع (خُمرة) في القُوقُو، لم تستخدمه من قبل. قالت إنها اشترته من بائعة (دلالية) متجولة قبل عام، وأخذت تدلك أطرافها به، عطر قوي جداً، كان تافهاً، لم يَرقُ لي إطلاقاً، الأمر لا يحتاج إلى كل هذا المجهود من جانبها لأن الفكرة بسيطة، كما شرحتها لنفسي:
سوف أحاول الجسد إلى أن يستجيب وتصل ذروة نشوتها ثم ينتهي كل شئ. لا أكثر ولا أقل.الأمر في الحقيقة أقرب لمقاولة، وهذا في ظني ما تحتاج إليه الصافية، واحتاج إليه أنا لأقنع نفسي بأنني قدمت لها عملاً خيراً وإنسانياً كبيراً بل ونادراً، فعلاً حُرمتْ منه طوال حياتها، وأتمنى أن أكون مخطئاً في هذه الفذلكة، اقترحَتْ هي اقتراحاً آخر، وهو أن أتركها تستحم استحماماً كاملاً، وقُوبِل هذا الاقتراحُ أيضاً من قبلي بالرفض، الموضوع لا يستحق كل هذا التعب.

قَامَتْ، أغلقتْ الباب بصورة جيدة، ربما خافتْ أن يقتحمنا أحد الزبائن، أو يتلصص علينا ود أمونة، أو قل ربما أنها خَشيتْ أن يهرب منها كما هرب ود فور من قبل، ولو أنه رفض فكرة قفل الباب، ولكن يبدو أن ذلك حدث بعد فوات الأوان.
اقترحتْ هي أيضاً اقتراحاً آخر. وهو أن تبقى الإضاءة كما هي، وافق.
ثم طرحتْ عليّ بسرعة مجموعة من الإجراءات لم يكن هناك داعٍ لطرحها في ذلك الوقت بالذات، كل ما أرجوه أن ينتهي هذا الموضوع وبأسرع ما يمكن.

المفاجأة الأخيرة، التي لولا قُوة عودي وعزيمتي وصبري على المكروه لكانت القاتلة. قال إنه ليس بالسهل أن يصف لنا ما شاهد، بدى ذلك واضحاً من الطريقة التي أخذ يتحدث بها.
لا يمكن لشخص مثلي أن يتخيل ذلك مجرد تخيل، بل لا يمكن أن يخطر ببال شيطان رجيم، إذا كان للشيطان بال، قالت بصوت حزين:
- مما ولدوني إلى اليوم، ما قطعت شعرة واحدة منه، قالوا حلاقتهُ تجيب النحس وسوء الحظ، وبرضو ما لقيت وقت، وقتي كلهُ للشُغُل، بعد دا، حأخلي بالي من نفسي شُوية
قلت لنفسي:
. الموضوع ما بيستحق، خلينا نخلص-
كنت مصمماً على أن أجعلها تدخل تجربة جديدة مثيرة في حياتها، تجربة لا تُنسى، بما يساوي نقطة تحول، قالت:
. قاعدة أنظفُهُ وأسرحو بالمشط كل يوم جمعة-
حكى لنا بالتفصيل المُمِل، في الحقيقة ليس مُمِلاً، بل مؤذياً وضاراً جداً، ثم أقسم وأقسم وقال:
.ْ الصافية انقلبتْ مَرَفَعِين-
قلنا بصوت واحد
-مرفعين؟
. مرفعين عديل كدا-
اللحظة التي وضع يده على عُري جَسَدها وبدأ يداعبها في أذنيها وأنفها الكبير، بدأ الصوف ينمو في جسدها، صُوف أسود غليظ خشن وقبيح، تماماً مثل صُوف الحِمار، كان ينمو بصورة مذهلة، بِسرعة رهيبة، ثم أخذتْ ملامحُ وجهها تتغير، برزت أنيَابُها، ثم أخذتْ تُصدر صوتاً غليظاً، ثم انقضتْ عليّ، كما لو كانت أسداً ضارياً، وأنا فريسةٌ بائسةٌ جريحة، حدث كل ذلك في ثوانٍ معدودات. لا أدري كيف تمكنتُ من الهرب، عبر الباب المغلق، أم عبر الشُبّاكْ الصغير،أو أنني قد اخترقت السياج اختراقاً، لا أدري ولكنني وجدت نفسي خارج القُطِيّةَ، خارج بيت أدّي، خارج الجِلة كلها، حدث ذلك،
في لمح البصر.
خلع جُلبابه وأراهما خُدوشاً في ظهره وإليتيه: ضحكنا.



التعديل الأخير تم بواسطة خالد الحاج ; 13-11-2008 الساعة 01:17 PM. سبب آخر: تنسيق
عبد العزيز بركة ساكن غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 13-11-2008, 11:51 AM   #[4]
عبد العزيز بركة ساكن
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية عبد العزيز بركة ساكن
 
افتراضي

اولا يا اسامة الكاشف، انت اسامة الكاشف اسطورة اسيوط مش كدا
الشخصان اللذان انتجا قصة حب (حنان- الكاشف) وربما انتجا اطفالاً أحلى.

تحية لك الأسايطة ، أشد على أياديكم يا أصدقاء

سنعود



عبد العزيز بركة ساكن غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 13-11-2008, 12:59 PM   #[5]
ناصر يوسف
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية ناصر يوسف
 
افتراضي

[align=justify]عبد العزيز يا بركه يا ساكن الخلايا يا زول يا مجنون ...

مُواطِنٌ صالحٌ أنت أظنك أو فلتُعطني مسافة أن أقرأك بعدُ حين ..

copy&pest علي الويندوز و Print out وجمعةٌ وسبتٌ سأقرأك بعيداً عن صخبها هي المدينة ...

إذ أنا وعِيالي سنكونُ بعيداً عن وسط المدينةِ الجوفاء ... وهُناك وعلي ضِفاف النيل بعيداً .. رُبما تكونُ قراءتك أبهي وأنضر ....

إذن إلي المُلتقي هُنا من جديد
[/align]



التوقيع:
ما بال أمتنا العبوس
قد ضل راعيها الجَلَوس .. الجُلوس
زي الأم ما ظلت تعوس
يدها تفتش عن ملاليم الفلوس
والمال يمشيها الهويني
بين جلباب المجوس من التيوس النجوس
ناصر يوسف غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 13-11-2008, 08:04 PM   #[6]
عبد العزيز بركة ساكن
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية عبد العزيز بركة ساكن
 
افتراضي

طارق
منير
باسر
شوقي بدري
لكم التحايا
وشكرا لمروركم الجميل،انا سعيد بأقلامكم

لنا عودة



عبد العزيز بركة ساكن غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 15-11-2008, 07:37 PM   #[7]
محمد عبدالله
:: كــاتب جديـــد ::
الصورة الرمزية محمد عبدالله
 
افتراضي

بركة ساكن سلام يا جميل.
كل شيء يبدأ معك بالصدفة.
في عام 2005 في يناير وبمحض الصدفة قرأت الطواحين ( ففرحت فرحا كدت معه أن اموت ) .
الطواحيين وجدتها عند صديقي الدكتور ناظم يعقوب .
وفي 2006 وجدت مجموعة اخري مع الدكتور قرنق توماس.
وحينها كان محتفيا احتفائا عميقا بفكرة ( قرية الدغل).
ووووووووووووووووو
والليلة يا ود بركة جيت خاشي بجاي ( لحدي ما صوف راسي وقف )
يازول ؟ ده منو؟
ده ما بركة ساكن.
خلينا نقرا شوية ونجي راجعين.*



محمد عبدالله غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

تعليقات الفيسبوك


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 06:17 PM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.