الـــــسر الغميــــــــس !!! النور يوسف محمد

حكــاوى الغيـــاب الطويـــــل !!! طارق صديق كانديــك

من الســودان وما بين سودانيــات سودانييــن !!! elmhasi

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > نــــــوافــــــــــــــذ > الســــــرد والحكــايـــــة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 01-08-2010, 01:58 PM   #[1]
معاوية محمد الحسن
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية معاوية محمد الحسن
 
افتراضي صورة شبح القطار أو ما يتراءي للمسافر عبر نوافذ الليل (جزء من سيرة كائنات هامشية)

تعرف يا صديقي أن قطار (بابنوسة ) المتجه إلي الخرطوم كان ينهب الأرض الخضراء الممتدة طول البصر ذات يوم و أنا طفل" في نحو السادسة , منظر المسافرين , وجوههم المكدودة المنهكة , رائحة الأمتعة و طعم تلك الفطائر المصنوعة من عسل البلح و السمن (زاد المسافرين ) و منظر المحطات الصغيرة في تلك النجوع الفقيرة التي كان القطار يتوقف فيها و مشهد أمي بشلوخها الستة و أنا أقاوم رغبة عنيفة للتبول و هي تقرصني في فخذي حاثة" أياي علي الصبر كي لا أرتكب فعلة الصبية أمام الغرباء , ظل عالقا بذاكرتي إلي الآن , صوت عجلات القطار و طعم ماء (القلة ) في رواكيب السندات و المحطات الصغيرة , روائح الخريف و مشاهد العربان و هم يسوقون قطعان الماشية أمامهم . كنت أسال أمي :
-أمي نحنا مسافرين وين ؟
-الخرطوم يا ولد .
أما أبي فقد كان يمدد ساقيه الكبيرتين و هو في اللباس العسكري و ينام طوال الطريق و لا يستيقظ الا عندما يتوقف القطار في أحدي المحطات و عيناه محمرتين. كان منقولا من (جوبا ) الي الخرطوم . تلك المدينة الحلم و كان يبدو لي ساعتها أنه سعيد بانجازه ضمن جماعات أخري من الجنود ارتكاب أعمال إبادة في قري كاملة لكن في الحقيقة لم يكن أبي و هو عائد من الحرب يبدو جميلا علي الإطلاق ,علي العكس كان وجهه كالصخر و عيناه باردتين مثل عيني نسر عجوز .أخبرتني أمي و نحن علي متن القطار المتجه إلي الخرطوم ذاك اليوم أن الخرطوم بلاد كبيرة ..كبيرة جدا , بها شوارع مسفلتة و سيارات كثيرة و هناك عمارات شاهقة و حدائق و كثير من الايسكريم و الحلوى . تصور أن كل ذلك لم يلهب خيالي بقدر ما كانت صور القتلى في المعارك تفعل ذلك . كان الخفير (أجاك ) و هو من دينكا في بلاد أخري أسمها (أب يي ) رجلا طيبا , فارع الطول و أفلج الثنايا , يعمل في مدرسة (يامبيو ) الابتدائية قبل أن يبعثوا به إلينا في مدرسة (جوبا ) . يجلس معنا و يحكي عن الغزلان و الفهود و النمور و صيد البراري و عن الحرب . لم أره يحارب و لا تخيلت ذلك مطلقا . لكني صدقت كل ما كان يقوله عن شراسة ما يجري هناك في تلك البلدات الحدودية الصغيرة الواقعة تحت سيطرة المتمردين . كانوا يدفنوهم أحياءا في الغالب و ربما ألقوا بهم في النهر أو أحرقوا بالنار, حكي لي (أجاك) و أنا في تلك السن الصغيرة أهوال القتال الدائر في الأحراش وقتها و كنت أحيانا أسمع قعقعات القنابل و زخات الرصاص في نواحي متفرقة من المدينة فتهرع أمي ساعتها لتوفير الحماية بأية طريقة و حين بات في حكم المؤكد أن المتمردين سوف يهاجمون تلك المدينة طلبت السلطات من الضباط و الجنود أجلاء أسرهم بأسرع فرصة و هكذا كنا نتوجه في ذاك اليوم بالقطار إلي (بابنوسة ) و منها إلي (الخرطوم ) مرورا بمدن و بلدات كثيرة . .
كنت مشحونا بطفولة عنيدة في تلك الأيام , طفولة اعتادت فعل التفكير و النفاذ إلي أعماق بعيدة و لذلك حينما ألقي رجال الجيش من القوات الحكومية القبض علي (أجاك ) في احد الأيام بتهمة التخابر مع جيش المتمردين كنت أبكي بحرقة .أستغرب الجميع ذلك و قال أبي :
-مجرد وغد .عميل لهؤلاء العبيد .
كنت أدرك حينها أن هذا اللفظ يطلق علي أصحاب البشرة السوداء و كنت أهرب من عقلي أحيانا إلي مسامات بشرتي و أمعن النظر فيها. لم يكن اللون الضد يتراءى لي واضحا فقد كانت بشرتي سمراء بل كانت داكنة السمرة إلي حد السواد . لا ليس سوادا يا صديقي بل هو لون متماهي و موغل في درجة من الضبابية غريبة .
تصور أنني ذات يوم جئت بشفرة حلاقة و حاولت أن أكشط هذه الطبقة اللونية اللعينة لأنفذ إلي لوني الحقيقي . لم يكن واضحا ..لا هو بأبيض كامل البياض و لا هو بأسود كجلد الفهود السوداء التي رأيتها مرة في الغابة .كنت أحسد رفاق الصف من أطفال تلك المناطق .لا أحد يحس ما أحس و لكنهم كانوا ينادونني دائما :
-مندوكورو
-بنجوز بتاع مندوكورو
في قشلالق الجيش كانت الحياة مفتوحة علي مصاريع أمل كبير و أحزان كثيرة . الليل و أشياؤه , رائحة خمر (العسلية ) و (الكجومورو ) . البيوت هي نفسها ..نفسها كما في زمان غابر , لا تختلف عن بعضها كثيرا لا في الطراز و التصميم و لا حتى في روائح الطعام التي تفوح منها . كان الانجليز قد أشادوا تلك البيوتات الصغيرة في زمان غابر كمساكن لصغار الضباط و الجنود لذلك لم يكلفوا أنفسهم كثيرا عناء أن يتقنوا بنائها .
كنت سعيدا بطفولتي تلك علي أية حال . تعرفت علي أطفال تلك البلاد الأبنوسيين . لم أكن أحس أنهم مختلفون عني كثيرا حتي أدركت ذلك يوما ما حين سألت :
-أبي لماذا تحاربون هناك ؟
كان يتهيأ للخروج . تزيا بالزي العسكري و أحكم رباط البوت ثم ضحك و قال كلاما كثيرا فهمت منه أنه لا يعرف لماذا بالضبط لكن عليه أن يحارب ثم التفت الي و قال :
لا ينبغي منذ اليوم فصاعدا أن تلعب مع هؤلاء الأطفال السود أنهم ليسوا مثلك . أنت (ود عرب ) فهمت ؟
كانت الطحالب تنمو في داخلي مثل قدر لعين !
طحالب الأسئلة الكبيرة و الحيرة البالغة و القطار يجتاز مجاهل الصحراء , كنت أري قطعان الماشية و هي تجفل من أمام القطار و طائر (السمبر ) الخريفي الجميل يزهو بالمطر و رائحة دعاش الخريف . ظللت طوال الرحلة أنقب عن وجوههم في ذاكرتي فأجدها باهتة الملامح , تطفو حينا و تغطس حينا . تجيء مثل البرق يلمع و يخبو , صوت قعقعات السلاح و زخات المطر , رائحة الحياة في حي (الملكية ) , منظر القطاطي و الأكواخ البائسة حين يداهمها مطر يوليو الغزير , تلك الأجساد الناحلة التي هدها سعال الدرن و الكلازار .
كانت الوجوه تطلع و تنزل منحدرات الوعي و صوت عجلات القطار يطغي أحيانا علي جلبة المسافرين , انتابني شعور بالكراهية تجاه أبي حين جاءتني صورة (أجاك ) و هم يقتادونه إلي ثكنة الجيش , كان يفترش طعامه علي باحة المدرسة . ضربوه أمام التلاميذ حتى كسروا عظم ساقه اليمني .
ياللمشهد !
لا أنساه يا صديقي ما حييت . كثيرون سمعوا عن اهوال الحرب و جنونها لكنني رأيت و سمعت . نعم أبصرت (الشول ) زوجة (أجاك ) و هي تتغوط جالسة علي عنقريب السنط إذ كانت قد فقدت ساقيها حينما تعرضت لأحد الألغام . أبصرت الآلاف يفرون يوميا باتجاه الحدود الجنوبية . كانوا يأتون المدينة من نواحي شتي و هم محملون علي ظهر ناقلات منظمات الإغاثة . فيقذفونهم في معسكرات تعيسة . يموتون بالعشرات يوميا و يلوذ الشبان منهم بالفرار جنوبا إلي بلاد قصية و شاحبة . كان منظرهم أشبه بأشباح أخر الليل ..لا لم يكونوا أشباحا كانوا مجرد كائنات سلبها الجوع و المرض كل شيء , حتى الأشباح تنبض عروقها بالحياة .. كانوا مجردين من الحياة يا صديقي .
رأيت جنود (الزبير باشا ) يعبرون بحر الغزال و هم يسوقون قوافل الرقيق و ماء السوباط احمرا من فيضانات الدم . رأيتهم يجلبون ريش النعام و العاج و سن الفيل و أشداقهم يقطر منها الدم . رأيتهم في صحراء العتمور و هم يمزقون أجساد العبيد بالسياط . أبصرت تلك الهوة الفاصلة بين الغابة و الصحراء , بين النهر و الفلاة الكبرى التي كان القطار يعبرها حين هبط الظلام و جنحت الكائنات جميعها للسكون خلا الحيات و دوابي الأرض . حاولت أن أتبين ملامح السماء الواسعة التي قامت فوقنا مثل قبة هائلة , سمعت أخر صيحات لطائر (السمبر ) و هو يعبر جنوبا , في شفق المغيب لمحته و هو يحلق عاليا .. عاليا و يتلاشي في الشفق .
-هالولويا
-هالو لويا
صرخ احد المسافرين الجنوبيين و كانوا قد وضعوا قدميه و يديه في القيد و هم يقودونه أسيرا إلي الخرطوم . كان احد ضباط المتمردين لكنه تحت وطأة التعذيب أصيب بلوثة عقلية .
حاول أن يمسك بنافذة القطار فينهض حتى يتمكن من الهرب , لكن جسده لم يكن يقوي علي الإتيان بأي فعل للمقاومة , أرتعش جسده الهزيل كله , كأنما أصيب بالصعق الكهربائي ثم تشنج و خبط رأسه عدة مرات بأحد المقاعد ثم صرخ
-هالو لويا .
في المعبر الفاصل بين الحياة و الموت , بين الشهيق و الزفير و بين انبلاج الفجر و خفوته يخيل إلي أني كنت أسمع صوت طبول التاريخ تهدر في أذني كشيء لا ينبغي احتماله , صوت خرير الأنهار و حفيف شجر الغابات . زمجرة الريح في الصحراء البكر التي لم تطأها قدم من قبل . الأسود و النمور و حيوانات الغاب و هي تخطر في زهو الطبيعة . كان الزنج يعبرون الأودية و الأنهار , يحملون الحراب و هم عراة . سمعتهم يرقصون حول دوائر النار و يقرعون الطبول و هم يحتسون الخمر و أشجار الباباي و المهوقني و الأبنوس تتمايل طربا .
سمعت حوافر خيل العربان و هي تنهب الفلاة . همهمات النخاسين إذ يلتهمون لحم الضحية و أعينهم تبرق في عتمة الغابة مثلما تبرق عينا الفهد و هو يبحث عن فريسة . سمعت أذان الفجر في بلاد الوثنيين يطلع مشروخا و لا صدي له و يشق أزيز طائرات الإغاثة مسمعي . رأيت النيل و هو يلهث من شدة العناء إذ يجتاز الصحاري و القفار صوب الشمال البعيد .
كان صوتهم المشروخ يطن في أذني :
-مندوكورو
-بنجوز بتاع مندكورو
حين عبر القطار (المجلد ) في ساعات الفجر الأولي كان أبي ما يزال غاطا في النوم و هو يكدس قدميه الكبيرتين وسط الأمتعة و الأسير يصرخ , يتفوه بعبارات و كلمات غريبة ..دينق مااادينق ..طمبرة .. أويل ..ألالويا .. كسم جنا عرب ....ووي وووي .. هلا لويا ..هلالويا . سودان فور اول ...سودان يوناتيد كنتري ...نيو سودان ...سوقني معاك جوبا !!
لمحت زرقة السماء تتلاشي تحت زحف ضياء الفجر , خطر في بالي أن الإله يبتسم للكائنات بطريقة ما , حدقت في وجه الأسير, كان قد بدأ يخمد شيئا ما .أغمض جفنيه و راح في غفوة هي غفوة المكلوم لكنه لم يهجع طويلا إذ أنه و عندما توقفت عجلات القطار في أخر المحطات كان قد بدأ يفيق و ينخرط في هذيانه المحموم ثانية .
طالبتني أمي و نحن نشرف علي تخوم الخرطوم أن أكون أكثر تهذيبا عندما نقابل أولئك الذين زعمت أنهم أقربائي , عمتي و أولادها و جدتي التي كانت قد أنفقت سنينا عددا و هي تبيع سندوتشات الطعمية و الفول و الدندورما لرواد السينما الوطنية حتي أفل نجم تلك السينما بعد أن أخذ روادها بالتناقص يوما بعد أخر حين لم يتبق لهم في تلك الأيام وقتا للفراغ ينفقونه في هكذا نشاطات حيث كانوا يركضون منذ الصباح و حتي المساء في طلب العيش و بهذا صارت جدتي تنفق كل نهارها تحتسي القهوة و تسامر الفاقة و خيالات الأيام الماضية الجميلة و هي تلعن الزمن و الآم الروماتيزم .
لم أكترث لما قالته أمي بل ظللت متعلقا بنافذة القطار و أنا أنظر في لهفة إلي مشاهد الطريق المفضية إلي داخل المدينة الكبيرة , هالتني حشود البشر المتكدسين في كل ناحية , صفوف المنازل الكثيرة و البنايات الشاهقة , و أمي تصلح من هندامي و تمسح ما علق بي من غبار الرحلة . أذكر أن روحي كانت قد أنتشت قليلا لكن تلك الأصوات لم تبرحني . أصوات الأطفال البؤساء في تلك الأنحاء . بطونهم المنتفخة ليس من تخمة و لكن جراء الجوع و أمراض البلهارسيا و الكلازار . حين كبرت بعد ذلك لا شك أني كنت قد تعلمت أسماء أمراض كثيرة و صرت أقدر علي أن أدرك سر تلك الصيحات :
-مندوكورو !
-بنجوز بتاع مندوكورو !
حين أطلق السائق صافرته الطويلة , كانت جلبة المسافرين قد بدأت تعلو بصورة غريبة و كان ثمة نفر من ركاب الدرجة الثالثة يركضون هنا و هناك و هم يتصايحون فزعا بينما أطلقت أحدي النسوة صرخة داوية فهرع رجال البوليس و العساكر علي متن القطار إلي حيث كان يرقد الرجل الجنوبي الأسير و قد خبأ أخر بريق في عينيه اللتين صارتا جاحظتين في كامل جحوظهما بينما علت ابتسامة غريبة وجهه الغارق في الموت .



معاوية محمد الحسن غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 04-08-2010, 01:33 AM   #[2]
اشرف السر
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية اشرف السر
 
افتراضي

ورأيتُ ما رأيته يا معاوية، وبين الغابة والصحراء وشاح من دمٍ غالٍ .
اصبت التوفيق حين اخترت الطفل لضمير السارد..
إلى الأمام...



التوقيع:

اشرف السر غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

تعليقات الفيسبوك


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 01:14 AM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.