فاطمه المرنيسى (نساء على اجنحة الحلم)..
يستشف من كتاب المرنيسي «نساء على أجنحة الحلم» ذاك الرابط الوهمي الذي يجعل الإنسان المضطهد‚ حتى لو كان أميا‚ يتعاطف ويتماهى مع معاناة أمثاله‚ فثمة ما يدفع المرأة المضطهدة إلى رفض الرق والعبودية والتمييز الطبقي والعرقي لأن التعسف الممارس ضد أي إنسان بدعوى أنه امرأة أو عبد أو أسود أو قروي أو قبيح أو كافر يكاد يكون نفسه‚فساهمت مأساة السودانية مينة مثلا التي اختطفت وبيعت في سوق النخاسة في تعميق الحس الإنساني لدى الطفلة فاطمة وجعلها ترفض العبودية‚فشرعت تطلب من مينة أن تقص عليها قصة خروجها من البئر مرارا وتكرارا‚ لتتخلص الطفلة من مخاوفها الدفينة‚ وليصبح الاختباء في جرار الزيتون الضخمة من هواياتها المفضلة‚تقول مينة: «هناك دائما قطعة من السماء يمكنك النظر إليها‚ولذلك لا تخفضي بصرك أبدا‚ ارفعيه عاليا وانطلقي لأن لك أجنحة» (ص183)‚تتعلم الصغيرة من مينة أن المرأة إذا أرادت أن تحرر نفسها‚ فيجب أن ترعب سجانها بلمعة عينيها الواثقتين
يستطيع قارئ كتاب المرنيسي أن يرى أن فرض القيود على النساء ليس في مصلحتهن بقدر ما هو في مصلحة الرجال الذين يخافون من حرية المرأة واستعدادها للطيران حال إخراجها أو خروجها من القفص‚كما يبرز الكتاب استعداد النساء للتضامن معا فيما عدا بعض النساء الأكبر سنا اللواتي طال ترويضهن‚ أو الخبيثات الغيورات اللواتي يرين في إرضاء الرجال ما يحقق مصالحهن ضد الأخريات‚ فلا يردن حتى أن يفهمن هاجس الحرية لدى الأخريات والتوق لحياة خارج نطاق الحريم‚فيسمن المتمردات بمختلف الصفات السيئة الجاهزة دائما للتداول بهدف تنفير الرجال منهن لأنهن يعرفن في أعماقهن أن الرجال في سرهم ينجذبون للمتمردات لأن إشباع حاجاتهن العاطفية يكون أصعب‚ مما يشكل تحديا أكبر لرجولتهم‚ لذا لا بد من تشويه سمعتهن حتى لا يختاروا الزواج منهن‚
لم يكن الحريم رغم كل القيود‚ وربما بسببها‚ خلوا من المهتمات بالفن ولا سيما التمثيل‚ فشامة المراهقة ابنة عم فاطمة كانت مولعة به‚ فتعد عروضا مسرحية داخل الحريم‚ وتعرضها أمام النساء الأخريات اللواتي كن يشاركن فيها ويتابعنها باهتمام رغم أن بعضهن كن يرين أنها تنطوي على تجاوز للحدود‚ وتبث أفكارا سيئة‚
لكن تمكنت فاطمة الصغيرة من التعرف على سير الشخصيات النسائية الشهيرة من خلال عروض شامة المسرحية‚فلاحظت أن حياة النساء الرائدات والمناصرات لقضية المرأة لم تكن تدور «إلا حول النضال والزيجات الشقية‚ وتخلو من الســـعادة والليالي الجميلة أو المحبين المولهين» (ص143)‚ بعكس حياة اسمهان مثلا التي كانت نموذج المرأة المحبب للمراهقات والشابات العربيات في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي‚ فحياتها مليئة بالأنس والمغامرات‚وفسر الملل الذي يميز حياة المناضلات الشخصية للطفلة فاطمة بأنهن كن يعتبرن العلاقات العاطفية بعيدة عن السياسة أو لأنهن كن يمارسن الرقابة الذاتية حتى لا يتهمن باللاأخلاقية‚فقررت الصغيرة بعقلها الطفولي المحب للفرح بأنه «إذا كان علي خوض الصراع ذات يوم من أجل تحرر المرأة‚ لن أتخلى بالتأكيد عن مباهج الحياة» (ص144)‚ كما لو أنها أرادت أن تكون عائشة التيمورية‚ وزينب فواز‚ وهدى شعراوي‚ وأسمهان في آن معا‚
ساهمت قراءات شامة واهتماماتها ومسرحها في الحريم أيضا في لفت نظر فاطمة الصغيرة إلى قصص الحب التي كانت تحدث بين الخلفاء وجارية محددة من جواريهم‚ كقصة دنانير الجارية المغنية التي فتن بها هارون الرشيد‚ولم تتوان «فاطمة الكبيرة» في كتاباتها المختلفة عن البحث في ذلك بشكل معمق لتجد أن ذكاء الجواري وثقافتهن أو فنهن بالدرجة الأولى‚ لا جمالهن‚ مكنهن من لفت نظر الخلفاء إليهن مثل حبابة جارية يزيد الثاني بن عبد الملك‚ والخيزران أم الخليفة العباسي المهدي‚فأصبحن يشاركن في مقاليد الحكم‚ ولو بشكل خفي‚وربما كن أكثر حظا من الحرائر اللواتي كانت علاقاتهن بأزواجهن امتدادا لعلاقاتهن بآبائهن بصفتهم رجالا لا يمكن اللعب معهم‚ولا يسعني هنا سوى أن أتذكر ماسة في مسرحية سعد الله ونوس «طقوس الإشارات والتحولات» التي قالت لأخيها وهو يتقدم لذبحها بالخنجر: «أنا يا صفوان حكاية‚ والحكاية لا تقتل»‚
( جزء من مقال لـ سوسن عصفور)
المصدر( اتجاهات ثقافية ..الوطن)
ونواصل
غيداء
|