الـــــسر الغميــــــــس !!! النور يوسف محمد

حكــاوى الغيـــاب الطويـــــل !!! طارق صديق كانديــك

من الســودان وما بين سودانيــات سودانييــن !!! elmhasi

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > نــــــوافــــــــــــــذ

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 02-03-2012, 04:10 PM   #[16]
اسمر
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

14

كان اول شىء فعله ابوك عند عودته هو السؤال عن اخيه لماذا جاء ؟ لماذا عاد سريعا ؟ قلت له فى هدؤ مصطنع : (انه جاء ليرى قبر ابيه وعاد ، اما من اين جاء والى اين ذهب فذلك ما لا اعلمه) فنظر الى طويلا ، اشحت بوجهى بعيدا لاتحاشى نظراته ، كنت اخشى ان تفضحنى عيونى ، حملق ابوك فى طويلا ثم ذهب لشأنه .


سارت بنا الحياة ، كنت تكبرين مع الايام وتزدادين شبها بأمك كل يوم ، كأنها بعثت من خلالك من جديد ، كان نفور ابيك منك يزداد مع الايام ، ربما لانك تذكرينه بها وبأخيه الذى غاب الى المجهول ، وبنظرات العتاب فى عين ابيه قبيل وفاته ، كنت اكيدة ان ثمة بذرة شك غامض ولدت فى داخله ، كان كل شىء يتأرجح أمام ناظريه ، لم يعد متأكدا من شىء حتى شكه القاتل الذى عذبنا لم يعد اكيدا منه ، كانت ثمة شواهد كثيرة تؤكد لى صحة ظنى هذا ، قلت له ذات مرة : (لماذا لا تتزوج يا بنى انت لا زلت شابا ؟) لكن مجرد الفكرة كانت امرا مثيرا لدهشته ، عبر عن نفوره بشكل قاطع وحازم ، جعلنى لا اجرؤ على طرق ذلك الباب ثانية ابدا . لم يخطر ببالى حينها انه يفكر فى امك وان الشك يمزقه ، قلت لنفسى ربما كان الجرح لا زال نديا ، ربما لم يحن الاوان لذلك بعد ، فلنترك كل شىء للايام ، وتركت كل شىء للايام حتى جاء عمك وحادثنى وحادثته ، وغاب وحين جاء ابوك وسأل عنه وعن سبب مجيئه كان فى عينيه شىء ما لم اره من قبل ، او لعلنى لم انتبه لوجوده فى عيونه طيلة تلك السنوات ، كان بالعيون ضراعة وحنين ، وشىء اقرب الى الدموع ، شىء لا تراه فى عيون الناس حين تجىء سيرة من يكرهون ، شىء اعرفه وحدى ، اعرفه جيدا ، ذلك الظمأ والحنين الى الدم ، الى تؤام الروح ،لم يكن ابيك غاضبا وهو يسأل ، كان فى صوته لهفة وفضول اكثر مما فيه غضب واستنكار ، وكان وهو يحادثنى ينظر الى بقوة ويلاحقنى بنظراته فى اصرار بحثا عن شىء ما ، وفهمت ، فهمت اخيرا عم كان يبحث ، كان يبحث عن صدى ما قاله عمك لى فى عيونى ، كان يريد ان يخترق وجهى ليقراء فيه ما يزيل عن صدره ذلك الكابوس الثقيل الرابض فوقه ، وفى ذلك اليوم ادركت سر نظراته الطويلة المتسائلة التى اضحت تلاحقنى فى الحاح اينما ذهبت بعد زيارة عمك القصيرة ورحيله .


وهنت قدرتى على الاحتمال ، كدت – فى لحظات كثيرة – ان آخذه بين ذراعى واجهش بالبكاء واروى له كل شىء ، لكن اشفاقى عليه من الحقيقة المرة كان اقوى من كل شىء ، كنت اراه يتمزق امامى وبيدى ترياقه الشافى ، ولكن لم يكن بمقدورى المراهنة على ان الحقيقة لن تشفيه بل ستقتله ، وحين اخلو الى نفسى كنت ابكى بلا لنقطاع ، ارفع يدى الى السماء فى قنوط واقول : (ياربى ان رحمتك وسعت كل شىء فارحمنا ، كيف نخرج من هذا القفص يا ربى ، كيف ؟ ياربى اننى اشكو اليك قلة حيلتى وحيرتى فى امرى، قبل ان تنجلى الحقيقة كنت احسبها ملاذنا الآمن والان حين تبدت صارت قفصا من نوع اخر ، قيودا من حرير ليس بمقدورنا الانعتاق منها ابدا) ، كان الصباح لا يجىء ابدا يا صغيرتى وانا مرتمية هناك اتمتم فى خفوت وضراعة خشية ان يسمعنى ابيك الذى لا ينفك يروح ويجىء فى الدار الساكنة ويبدد وقع اقدامه السكون حولى وترن كناقوس فتأخذ معها سكينتى تنتزعنى من افكارى ترحل بعيدا ، تلتمع صورة جدك هادءا ينظر الى فى اشفاق عظيم ، وحين احادثه تتبدد الصورة كفقاعة صابون صغيرة يلهو بها طفل ويرتد الصمت لموقعه من جديد

كنت اشابه فى حالى ذلك ورقة صغيرة تلهو بها الامواج فى قسوة ، ولم يبد لى ابدا ان ثمة شاطىء سألقى قلوعى عنده ابدا ، ، فاستسلمت لمصيرى ، لكن الايام كانت حبلى بما هو اقسى ، ورحل ابوك دونما سابق إنذار ، لم يك يشكو شيئا حتى حين فتحت باب الدار فى ذلك المساء الحزين وبدا لى عند المدخل شاحبا وهو بالكاد يتنفس ، حتى حين انطلقت عقيرتى بالصياح فى خوف ودهشة وانا اقوده وهو مترنح الخطى الى الفراش القريب ، حتى تلك اللحظة لم يخطر لى ان ساعة الرحيل قد حانت ابدا ، مددته على الفراش وهو يتصبب عرقا وينظر الى وجهى فى استسلام عجيب ، نزعت حذاؤه وبللت قطعة قماش بالماء واخذت امررها على جبهته فى هستيريا ،امسك بيدى ونظر الى طويلا وهو يقول بصوت خافت : (لا فائدة يا امى ، لا فائدة ) قلت له بانفعال بالغ : (لا تقل شيئا ، انها مجرد حمى وستزول ) هز رأسه باصرار وهو يحاول ان يرسم ابتسامة على وجهه الشاحب ، ثم امسك بيدى بقوة اكبر وهو يحاول الاستواء جالسا واخذ يتمتم : (امى اخر ما اطلبه هو الحقيقة ، ارجوك ، انا اعلم انك تعلمين شيئا وتخفينه عنى ، ارجوك لا تدعينى اقابل ربى بعيون معصوبة ) اشحت بوجهى ثانية ، دفع يدى بعيدا وهو يتمتم فى ضراعة : (امى ارجوك ، لا وقت ، أتوسل اليك) انهارت اخر سدود مقاومتى ، لم يعد بمقدورى الصمود اكثر مما فعلت ، فى عبارات لاهثة سريعة اخبرته الحقيقة ، انتشرت على الوجه الشاحب طمأنينة عميقة ، غدا طفلا من جديد ، اتسعت على الوجه ابتسامة ، ثم اغرورقت العيون بالدموع ، واخذ يرتج بلا انقطاع ، امسك وجهى بيد ترتجف ، قربنى منه ، همس بصوت خافت : (سامحينى يا امى ، سامحينى) لم افعل شيئا ، اخذت رأسه فى حجرى واجهشت بالبكاء ، سكنت يده الممسكة بى ، تراخت قليلا ، انتفضت فى جزع وانا احس البرودة تسرى فى الاطراف ، هززته بقوة ، رفعت وجهه المبلل بالدموع الى وجهى ، رفع الى اجفانا ناعسة واخذ يتمتم بعبارات لاهثة متقطعة : (عبدالله يا امى ، قولى له : اننى تعذبت كثيرا لاجله ، امى ،قولى له .. ) ثم هوت اليد الممسكة بى فى سكون وشخصت العيون نحو السماء وانطلقت صرختى طويلة وحادة كالعواء فى الدار الساكنة .

وصمتت جدتى طويلا ، لم تقل شيئا اخر ، ولم اقل شيئا ، ولم تمض سوى ايام قلائل وغادرت جدتى الدنيا ، مرة واحدة والى الابد ، وصوتها لا يزال يرن فى اذنى كأنها البارحة ، هذا كل شىء ، فماذا لديك ؟) قلت لها دونما تردد : (لا شىء ، لا شىء البتة ) غاب صوتها وغابت فى الزحام ، كانت لا تمشى بل تطير ، والريح تلعب باطراف فستانها الابيض كما تلعب باوراق الشجر الجافة ، وهى لا تمشى ، بل تطير عاليا صوب السماء .


انتهت


صلاح الدين سر الختم على


كتبت فى مارس – ابريل – مايو – يونيو – يوليو 1998 م


شندى - الخرطوم



اسمر غير متصل  
 

تعليقات الفيسبوك


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 11:11 AM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.