من أشمل وأفضل ما قرأت عن الرياء هذا الجزء من خطبة للدكتور محمد راتب النابلسي:
المسلم أحياناً يقول: أنا لا أشرب الخمر، أنا لا أزني، أنا لا أسرق ولكن كثيراً من الذنوب الصغيرة يرتكبها وهو مصرٌّ عليها، وسوف ترون ـ أيها الإخوة ـ ماذا يعني أن يصرَّ المرء على صغيرة، إنه إن أصرَّ عليها انقلبت إلى كبيرة، لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار.
روى الإمام أحمد والطبراني عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
((إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ))
[أخرجه أحمد]
أيها الإخوة الكرام، مأخذ المسلمين اليوم مما يحقرونه من أعمالهم، من محقَّرات الذنوب الصغيرة إذا أُصرَّ عليها كانت في فعلها أن تضع حجاباً بينك وبين الله كالكبيرة، الفعل واحد، هذا التيار الكهربائي إذا انقطع تعطلت كل الآلات فسواء أكان القطع بين طرفي التيار واسعاً أم دقيقاً، مادام التيار قد انقطع تعطلت كل الآلات.
أيها الإخوة الكرام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة رضوان الله عليها:
((يَا عَائِشُ إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ طَالِبًا))
[أخرجه أحمد والدارمي]
أيها الإخوة الكرام، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:
((إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم، ولكن رضي فيما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم))
فالمسلم اليوم الملتزم بالمعنى الواسع، لا يأكل مالاً حراماً، ولا يزني ولا يسرق، ولا يقتل، ولكن مخالفات كثيرة جداً في بيته، وفي عمله وفي حديثه، وفي كسب ماله، وفي إنفاق ماله، هذه الذنوب التي يحتقرها، ويزدريها، ويراها ليست بشيء، ربما اجتمعت فأهلكته.
((إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم، ولكن رضي فيما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم))
أيها الإخوة الكرام، مثل أضعه بين أيديكم، لو أن طريقاً عريضاً مستقيماً على جانبه واد سحيق، يركب إنسان مركبة، لو حرف المقود قيد أنملة واحدة، وأصر على هذا الانحراف وثبته، لقاده هذا الميل الطفيف إلى عمق الوادي.
الكبيرة أن يحرف المقود فجأة تسعين درجة، أما الصغيرة أن يحرفه قيد أنملة، ويثبت هذا الانحراف، يثبته حتى يقوده شيئاً فشيئاً إلى طرف الطريق، وإلى عمق الوادي، هذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام:
((لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار))
النبي عليه الصلاة والسلام معصوم بمفرده، بينما المؤمن الصادق لا تضره معصية، بمعنى أنه يستغفر الله منها سريعاً، قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)﴾
[سورة آل عمران]
أيها الإخوة الكرام، الصغائر، اقرأ كتاب الله، اقرأ سنة رسول الله، ادرس أحكام الفقه تجد أن أحداث كثيرة يفعلها المسلم وهي ليست وفق منهج الله، إن هذه المخالفات ولو بدت لك صغيرة، تجتمع على الرجل حتى تقيم حجاباً بينه وبين الله.
أيها الإخوة الكرام، هذا الذي يرتكب الكبائر وهو بعيد عن الله عز وجل، نقول أعماله الكبيرة، وانحرافاته الخطيرة قادته إلى هذا البعد، أما أن تكون الصغائر وبإمكان أي مسلم أن يدعها، أن تكون الصغائر حجاباً بينك وبين الله كالكبائر هذا غبن كبير، هذا انحراف خطير، هذا الخوف الثاني.
هذه المخاوف التي تزيد عن عشرة مخاوف في القرآن الكريم كلها جاء وصفها في كتاب الله يصف الله بها المؤمنين الصادقين، فمن لم يشعر بهذا الخوف فهناك مشكلة يجب أن يعالجها. المؤمن الصادق يخاف كما وصف الله خوفه، فإن لم نخف نحن هذه المخاوف ففي إيماننا خلل، وفي مراقبتنا لله ضعف.
أيها الإخوة الكرام، الخوف الثالث: أن يخاف المؤمن من الرياء والسمعة، في قوله أو عمله أو حاله، فالرياء أن يعمل الرجل العمل الحسن ليري الناس أنه عمل حسن، يريد به وجه الله، ولكنه في الحقيقة ينوي بهذا العمل الحسن عرض الحياة الدنيا، أما السمعة أن يعمل الرجل العمل الحسن لأجل أن يسمع من الناس ثناءً عليه، ومدحاً له، ولولا هذا الثناء، ولولا ذلك المديح لما عمل هذا العمل الحسن، المؤمن الصادق يخاف من الرياء ويخاف من السمعة، أن يتمنى أن يثني الناس عليه، ليطرب بهذا الثناء. قال الله عز وجل:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾
[سورة البقرة آية 264]
إذا أردت أن يثني الناس على عطائك، وعلى كرمك،وعلى إحسانك وأن يرتفع اسمك عالياً بين المحسنين، وأن يلهج الناس بالشكر لك، والامتنان من عملك، ولولا هذا ما فعلت هذا الخير، فهذا من الرياء، وذاك من السمعة.
روى الإمام أحمد عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ))
[أخرجه أحمد]
وقد روى الشيخان عن جندب بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ))
[أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه وأحمد]
قال الإمام المنذري: سمع أي أظهر علمه للناس رياءً، وأما سمع الله به: أي أظهر الله نيته الفاسدة في عمله يوم القيامة وفضحه على رؤوس الأشهاد.
وعن سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام:
((ما من عبد يقوم في الدنيا مقام سمعة ورياء إلا سمع الله به على رؤوس الخلائق يوم القيامة))
وروى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((من تزين بعمل الآخرة وهو لا يريدها ولا يطلبها لُعن في السماوات والأرض))
أيها الإخوة الكرام، وقد ورد في الأثر أنه
((من طلب الدنيا بعمل الآخرة طُمس وجهه ومحق ذكره، وأثبت اسمه في النار يوم القيامة))
أيها الإخوة الكرام، تعاهدوا قلوبكم، راقبوا نواياكم، امتحنوا إخلاصكم، هناك مؤشرات وهناك علامات، وهناك دلائل ؛ لأن السمعة والرياء يمحقان العمل كما تأكل النار الحطب.
أيها الإخوة الكرام، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ))
يقضى عليه: أي يحكم عليه
[أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وأحمد]
أيها الإخوة الكرام، هذا الحديث في صحيح مسلم، وهذا الحديث يقصم الظهر، إنفاق المال رياءً أو سمعة، طلب العلم وتعليمه رياءً أو سمعة، خوض المعارك رياءً أو سمعة، من دون إخلاص لله، من دون مراقبة له، من دون أن يرجو رحمته، هذا نفاق، ويوم القيامة يسمِّع الله به على رؤوس الأشهاد.
أيها الإخوة الكرام، الخوف الرابع الذي ينبغي للمؤمن أن يخافه، هذا وصف الله تعالى لهذا الخوف، خوف المؤمن على نفسه من النفاق، النفاق أن تكون هناك مسافة بين القول والعمل، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)﴾
[سورة الصف]
وقصة حنظلة الذي كان كاتب رسول الله مرَّ به الصديق رضي الله عنه وهو جالس في سكة من سكك المدينة يبكي، قال له الصديق: مالك يا حنظلة تبكي، قال: نافق حنظلة. قال: ولمَ يا أخي. قال: نكون مع رسول الله ونحن والجنة كهاتين، فإذا عافسنا الأهل ننسى، فقال الصديق: أنا كذلك يا أخي، انطلق بنا إلى رسول الله، فلما حدثا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث قال عليه الصلاة والسلام:
((أما نحن معاشر الأنبياء فتنام أعيننا، ولا تنام قلوبنا، أما أنتم يا أخي فساعة وساعة، لو بقيتم على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة، ولزارتكم في بيوتكم))
[أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد]
أيها الإخوة الكرام، فُهم من هذا أن المؤمن الصادق يخاف على نفسه من النفاق. يقول الإمام الحسن البصري: والله ما مضى مؤمن إلا وهو يخاف النفاق على نفسه.
ويقول الحسن البصري: والله ما أمن النفاق إلا منافق، ولا خاف النفاق إلا مؤمن.
وعن ابن أبي مليكة قال: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه.
وإبراهيم التيمي أحد التابعين قال: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً، أي خشيت أن يكذبني الناس إذا رأوا عملي مخالفاً لقولي.
خاف أن يقول الناس له لو كنت صادقاً لفعلت خلاف ذلك ؛ لأنه كان واعظاً، كان يخاف أن يكون واعظاً دون أن يكون متعظاً.
ابن آدم عظ نفسك، فإن وعظتها فعظ غيرك، وإلا فاستحي مني.
أيها الإخوة الكرام، الخوف الخامس: خوف المؤمن أن يكون مقصراً في وفاء عهد الله وعهد رسول الله، قال تعالى:
﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)﴾
[سورة النحل]
وقال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)﴾
[سورة المؤمنون]
وقال تعالى:
﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾
[سورة البقرة آية 177]
وقال تعالى:
﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)﴾
[سورة الرعد]
جاء في صحيح البخاري:
((أن أبا بردة بن أبي موسى الأشعري وعبد الله بن عمر التقيا، فقال عبد الله بن عمر: يا أبا بردة هل تدري ما قال أبي عمر بن الخطاب لأبيك، أي أبا موسى الأشعري، قال: لا. قال عمر: قال أبي لأبيك: يا أبا موسى، أيسرك أن إسلامنا مع رسول الله وجهادنا معه يثبت أجره لنا في الآخرة، وأن كل عمل عملناه بعد رسول الله ننجو فيه كفافاً لا لنا ولا علينا، فقال أبوك، يعني أبو موسى الأشعري: لا والله يا أمير المؤمنين لقد جاهدنا مع رسول الله لقد جاهدنا بعد رسول الله وصلينا وتصدقنا وعملنا خيراً كثيراً وإنا لنرجو أجر ذلك، فقال أبي عمر: أما أنا يا أبا موسى، فأرجو أن يكون كل عمل عملته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون مقبولاً، وأن كل عمل عملته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج منه كفافاً لا لي ولا علي، فقال ابن أبي بردة: والله يا ابن عمر إن أباك خير من أبي ))
[أخرجه البخاري]
كلما ارتقى إيمانك اشتد خوفك، كلما رأيت مقام الله العظيم خفت أن لا يقبل عملك، خفت أن يحاسبك على شيء لا تدري ما هو.
أيها الإخوة الكرام، لما حضرت الوفاة سيدنا عمر بن الخطاب قال لابنه عبد الله: يا بني ضع رأسي على الأرض، ويح عمر إن لم يغفر الله له ".
ماذا نقول نحن ـ أيها الإخوة ـ عملاق الإسلام الذي عاش عمره في خدمة الحق، وكان مثلاً أعلى في العدل. أصابت المسلمين مجاعة فترك اللحم أربعة أشهر، فقرقر بطنه، فخاطبه، قال يا بطن، قرقر أو لا تقرقر فوالله لن تذوق اللحم حتى يشبع منه صبية المسلمين.
رأى جمالاً سمينة، قال: لمن هذه الجمال ؟ قالوا: لابنك عبد الله. قال: ايتوني به، فلما جاؤوا به قال: لمن هذه الجمال ؟ قال: هي لي اشتريتها بمالي، وبعثت بها إلى المرعى لتسمن فماذا فعلت ؟ قال: ويقول الناس ارعوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين، اسقوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلك يا بن أمير المؤمنين أعرفت لماذا هي سمينة ؟.. بع هذه الإبل وخذ رأسمالك، ورد الباقي إلى بيت مال المسلمين.
هذا الرجل النزيه، هذا الرجل الذي توخى العدل حتى صار مضرب المثل في العدل، هذا الرجل الذي كان يحرس قافلة، فبكى طفل وليد فذهب إلى أمه، وقال أرضعيه، فلما أرضعته سكت، ثم بكى، قال: أرضعيه، أرضعته فسكت، ثم بكى، فغضب، يبدو أنها لا ترضعه كفايته، ذهب إليها وقال: أرضعيه يا أمة السوء، قالت له وما شأنك أنت بنا، ما دخلك فينا، قالت: إني أفطمه، قال: ولمَ تفطيمنه ؟ قالت: إن عمر لا يعطينا العطاء إلا بعد الفطام، بكى عمر، وفي بعض الروايات أنه ضرب رأسه وقال: ويحك يا بن الخطاب كم قتلت من أبناء المسلمين، ثم ذهب ليصلي، فلم يسمع أصحابه قراءته من شدة بكائه.
هذا عمر يقول: يا بني ضع رأسي على الأرض، ويح عمر إن لم يغفر الله له.
هؤلاء الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، هؤلاء الذين يعتدون على حقوق الآخرين، هؤلاء الذين يبنون مجدهم على أنقاض الآخرين، كيف سيحاسبون يوم القيامة.
أيها الإخوة الكرام، أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً.
((اشتكى سلمان الفارسي فعاده سعد فرآه يبكي، قال له سعد: ما يبكيك يا أخي، أليس قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أليس توفي رسول الله وهو عنك راض، وترد عليه الحوض، وتلقى ربك وهو راض عنك، فقال سلمان: ما أبكي واحدة من اثنتين: ما أبكي ضناً على الدنيا، ولا كراهية للآخرة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهداً ما أراني إلا قد تعديت، فقال سعد: وما عهد إليك؟. قال: عهد إلينا عهداً أن يكفي أحدكم مثل زاد الراكب، ولا أراني إلا قد تعديت أو جمعت من المال وادخرت فوق ما يحتاج الراكب في سفره، ثم قال سلمان: أما أنت يا سعد فاتق الله عند حكمك إذا حكمت، وعند قسمتك إذا قسمت، وعند همك إذا هممت وقال الإمام المنذري: فلما جُمعت أموال سلمان بلغت خمسة عشر درهماً، وبيع متاعه بأربعة عشر درهماً ))
[أخرجه ابن ماجه]
هذا حال المؤمنين الصادقين شديدو الخوف من الله، هذا حال المؤمنين الصادقين يخافون على أنفسهم من النفاق.
أيها الإخوة الكرام، والخوف الخامس: أن يخاف المؤمن من رد علمه، قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)﴾
[سورة المؤمنون]
روى الترمذي عن عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ:
((سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾ قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمِ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ قَالَ لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمِ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ))
[أخرجه الترمذي وابن ماجه]
يخافون أن لا تتحقق فيهم شروط القبول، يخافون عدم كمال إخلاصهم؛ لأن الناقد بصير، وهو العليم الخبير، ومن مخاوف المؤمن الصادق، خوف المؤمن من زيغ القلب، قال تعالى:
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)﴾
[سورة آل عمران]
أيها الإخوة الكرام، هذا دعاء أولوا الألباب الذين هم كمَّل عباد الله المقربين، معنى الزيغ: الميل. زاغت الشمس عن كبد السماء: أي مالت. لا تزغ قلوبنا عن سبل الهدى، وعن طريق الحق، وعن الصراط المستقيم.
قد ينحرف الإنسان فيأكل مالاً ليس له، ينحرف فيدعي ما ليس له ينحرف فيطعن أهل الفضل والكرم، ينحرف فيعتقد بنفسه شيئاً غير صحيح، زاغ عن الحق، زاغ عن سنة رسول الله، زاغ عن منهج الله زاغ عن أمر الله، انحرف.
روى الإمام مالك عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ قَالَ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَصَلَّيْتُ وَرَاءَهُ الْمَغْرِبَ فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ سُورَةٍ مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ ثُمَّ قَامَ فِي الثَّالِثَةِ فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى إِنَّ ثِيَابِي لَتَكَادُ أَنْ تَمَسَّ ثِيَابَهُ فَسَمِعْتُهُ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَبِهَذِهِ الْآيَةِ
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾
هذا دعاء الصديق.
وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا فتح المصحف ليقرأ قال: اللهم أنت هديتني، ولو شئت لم أهتد، لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت والواهب.
بعد حين من العمر ينحرف المرء في عقيدته، ينحرف في سلوكه يأكل مالاً حراماً، يعتدي على حقوق الآخرين، ينظر إلى ما حرمه الله يأمر زوجته أن تظهر بشكل لا يرضي الله، تمشياً مع العادات والتقاليد بعد حين من الدهر ينتكس.
﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)﴾
[سورة آل عمران]
أيها الإخوة الكرام، والخوف السادس: فهو الخوف من سوء العواقب والخواتيم، إنما الأعمال بخواتيمها.
مطعم يبيع الخمر، ذهب صاحبه إلى الحج وعاد وتاب من بيع الخمر فلما رأى الدخل قد انخفض كثيراً عاد إلى بيع الخمر، وبعد سبعة أيام توفاه الله، كيف ختم عمله ؟ على بيع الخمر،
((إنما الأعمال بخواتيمها))
[متفق عليه]
كالوعاء، إذا طاب أعلاه طاب أسفله، وإذا خبث أعلاه خبث أسفله.
روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ (إذاً كان منافقاً، يعمل بمعل أهل الجنة فيما يبدو للناس ) وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ))
وروى الطبراني عن أنس رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام:
((لا تعجبوا بعمل عامل حتى تنظروا بمَ يختم له ؟ بخواتيم عمله))
أيها الإخوة الكرام، ومن مخاوف المؤمن خوفه من مناقشة الحساب، قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)﴾
[سورة الرعد]
بماذا فسر المفسرون سوء الحساب ؟ قالوا: أن يحاسبوا بذنوبهم كلها صغيرها وكبيرها دون أن يغفر منها شيء.
وقال بعض العلماء: أن يُحاسبوا فلا تقبل حسناتهم، ولا تُغفر سيئاتهم.
وقد قال عليه الصلاة والسلام:
((... من نوقش الحساب عُذب))
[متفق عليه]
﴿وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾
والمؤمن أيضاً يخاف من موقف السؤال، قال تعالى:
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
[سورة الحجر]
روى الترمذي عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ))
[أخرجه الترمذي والدارمي]
أيها الإخوة الكرام، آخر خوف ينبغي أن يخافه المؤمن أن يخاف مقام ربه، مقام ربه:
﴿رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾
[سورة الفجر]
مقام ربه:
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)﴾
[سورة النساء]
مقام ربه:
﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)﴾
[سورة يونس]
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)﴾
[سورة الرحمن]
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)﴾
[سورة النازعات]
أيها الإخوة الكرام، سوف نرى في خطب قادمة موقف الرجاء، موقف الرجاء يتوازن مع موقف الخوف، لا تقبلوا هذه الخطبة وحدها، الخطبة التي تليها إن شاء الله تعالى ـ تتوازن مع هذه الخطبة، المؤمن يخاف ويرجو، يخاف عقاب الله ويرجو مغفرته.
أيها الإخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني..
http://www.nabulsi.com/blue/ar/print.php?art=5883