الـــــسر الغميــــــــس !!! النور يوسف محمد

حكــاوى الغيـــاب الطويـــــل !!! طارق صديق كانديــك

من الســودان وما بين سودانيــات سودانييــن !!! elmhasi

آخر 5 مواضيع
إضغط علي شارك اصدقائك او شارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!

العودة   سودانيات .. تواصل ومحبة > منتـديات سودانيات > نــــــوافــــــــــــــذ > أوراق

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
قديم 06-11-2008, 06:05 PM   #[1]
عماد عبدالله
:: كــاتب جديـــد ::
 
افتراضي إستقياء الخلاص


هأنت على الجسر .. وحيدا.
ذات التماعات الماء على ذات النهر تجري من تحتك .. عابِرَتُك كبقايا شررٍ ذاوي لألعابٍ نارية بائسة إلى اتجاه الغرب من خلفك , متوسطٌ الجسر الحديدي القديم تماماً , فوق علبته الخامسة جاءت وقفتك المتهدلة . هواء الليل الصيفي متبلدٌ و كسولٌ يعجّ بحشراتٍ و طنين و أخيلة . الأفق الشرقي متكورٌ من أمامك كعدسةٍ سوداء محدّبة , بؤرتها سُرّة النهر المتمدد جسده كشقٍ نحتيٍ أزليٍ بطول المدينة النائمة .
عبّأتَ رئتيك من الهواء الزئبقي إلى أقاصي طاقات أضلعك , خطوةٌ بعد عبرت بك القضيب القديم للسكة الحديدية العتيقة .. المعدن القديم ملتمعٌ و باردٌ من تحت قدميك بدا , استويت قائماً بكامل جذعك المنهك فوق الحاجز الشبكيّ منعدم اللون و الملمس , عبرته إلى حافة الأسمنت الضيقة متهتكة السطح يسّاقط ترابها تحت حمل قدميك العاريات .. فتتسمع غوص الحصوات المفتتة تبتلعه الحِلكة تحتاً , و يتلقفها الماء في فقعاتٍ خفيضة .
بقيت زمناً و الجسر معلقاً من تحتك و خلفك .. و العتمة من أمامك بحر .
خلعت سروالك بأناةٍ .. فلامست الحافة الحديدية حراشف مؤخرتك العجفاء العارية , لم تقشعر من ملمسها الباهت الحاد .. فاقتعدتها بكامل ثقل عجيزتك . ألقيتَ بسروالك الداخلي و البنطال إلى ظلمة الهوة و عتمة النهر و لم تبالِ بالنظر .
إنقطع للسابلة عبورهم بين ضلعي مثلث المدينة التي فتقها النهر القديم منذ سيلانه من جنات العدن , أو من حيث جادت منابعه العليا بجريانه الممل أول أمر خلقه . لا نأمة يختل لها السكون المضطرب لليل إلا و يعلو فوقها فحيح رئتيك المثقلتين بالهواء الرصاصي الثقيل , و بداخلك تعلو طقطقة قفصك الصدري كطرقعة الأصابع الضجرة .
إهتزازاتٌ من تحتك راعشاتٍ هي حال الجسر مذ عبره الجند الأنجلوساكسون بثقيل أحذيتهم و تنوراتهم و قشالينهم , ثم غمسوا موسيقى القِرَب الأسكتلندية و شقرة بشرتهم المهقاء في حليب البلاد فتخمّرت من يومها طعوم الأشياء .. و عمّ الضجيج العظيم .
ساعةٌ في ليل المدينة هي أسكنها و أعلاها صمتا .
إنتصبت بطول قامتك - قامةٌ عضوض - .. تتماسك عظيماتك على جلدك الدبِق و قليل لحيماتٍ واهنة تلوذ إلى بعضها البعض و كان بها خشيةً من أن تتفكك أربطتها . يخف أسفل جذعك العاري و يلتحم بالهواء داخلٌ في متن الأنعدام الوزني . تحس بلذةٍ غامضة تستشريك ما بين ساقيك.. مانحٌ أعضاؤك بينهما إجابةً أولى للتساؤل الذي طالما لازمك عمّا جعلهم يطلقون عليها أعضاءً حساسة !! الآن فقط تعرف .
بقيت لوهلةٍ مختبراً شعوراً عذباً بمصافحة جسدك الأدنى للهواء الطليق للمرة الأولى منذ دهر . طوحت بآخر قضبان بين سجن جسدك المحموم بنزفه الداخلي و بين باحة الليل .
راقبت قميصك الزنزانة ينزلق في الهواء المظلم كراية تهوي منهزمة , و تغيب تحت عظام الجسر الحديدية .
..
هأنت على الجسر .. عاريا .
الليل أمامك و مِن خلفك . معلقٌ لبثتَ كخفاشٍ , متجمهرٌ حولك هواء و صمتٌ و .. جسرٌ قديم .
قلصت ركبتيك فأنّ عظمها . تقوس منك الجذع قليلاً إلى الأمام ركوعاً . النهر معتمٌ و ساكنٌ يحدق إليك . استجمعت من الهواء ما وسعته رئتاك , و استزدته استنشاقا حتى تسرب إلى حويصلات مسامك و انتظمها منسرباً إلى شعيرات روحك و انبجس في ذرات تكاوينك و جينك , واندغم في كُلّكَ .. فصرت إلى حال البالون المتوتر .
كنتَ تدفع بحجابك الحاجز في اللحظة التالية , تدفع معه برئتيك و إمعاءك و هيكلك العظمي و عُضيلاتك و روحك , تدفع في أنينٍ عظيم و زمجرةٍ حارقة هي أقرب إلى العويل .
دفعت بكُلّك إلى حلقك المتسع إلى أقصاه , و فكيك فاغرين بامتداد مساحة وجهك المتكور كقبضة .
لفظت بكل حمولة داخلك إلى حيث خارجه .
و تقيأت .. تقيأت ..
كشلال أنهكه طول الأحتقان .. تقيأتَ .
في انحناءك لعاصفة الخلاص الكبير , بصِرت عيناك - على وسع حدقتيها - بصِرتْ بجوفك يندلق مقذوفاً إلى خارجك .
في نصف وعيك و نصف إعياءك .. رقبت تقيؤك لمعلمك العجوز في صفك الثاني يسقط إلى ظلمة الهوة .. معه تسقط فرقعة صفعته لك . يسقط " محجوبٌ " و هو يمزق نعلك القماشي في سطوة طفولته على طفولتك . يسقط قيئاً هزيم الرعد المفرقع طوال ليلٍ خريفٍ قديمٍ أورَثَك رهبته إلى يومك هذا . رأيت قيؤك يندلق بحزنك لسيارة الأجرة تبتعد مبتلعةً لجسد " عواطف " الهاجد في صمته الأبدي . من جوف قيؤك يسقط أرق الليل و صوت المذياع : لم ينجح أحد , ليقعى صاحبك " صالح " مغشياً عليه . تتقيأ عميقاً تحرجك الأبله من القبلة الأولى و بقايا ضحك الفتاة الساخر بين ساعديك . يسقط قيئاً جسد العصفورة القطني الذي مزعته أناملك و " عوض " يتضاحكك .. و يسقط عوض إثرها و ذنوبك الأزل . تتقيأ نشيدٌ قديمٌ للمغني الكاذب و الشاعر الصفيق واللحنٍ المشروخٍ . يسقط معلميك المُنهِكيك بالصفع و الركل و التقريع . جاركم الممل في نحنحته الصباحية يندفع من جوفك قيئا . تسقط الأغنيات العنينة و المغنين المُسئمين و أصوات المذيعين الأعالج و موسيقى نشرات الأخبار و البيانات العسكرية الأولى و مارشاتها و البزات الخضراء . تسقط قيئاً نيئاً تلك السيدة في الحافلة و رائحة إبطيها المقززين تزكمانك من وسط البلدة إلى آخر العمر . يسقط خالك " إبراهيم " و مشاويره الطويلات . تدلق من أحشاءك طابور الصباح العسكري الشتوي . تسقط اللوائح و القوانين و مديروك الأغبياء و مديروك أنصاف المعاتيه و حارس البناية بصوته المسلوخ و رائحة العرق المتخمر و العتمة في الأزقة الآهلة بالكلاب و آسن المياه . تتقيأ حذرك الساذج لابتسامة أضعتها من الفتاة المواجهتك في مكتب السياحة .. و تلك التي طُمِثتْ وردتها بفتاوى العشق . يسقط قيئاً إختناقك بكاءً لكذبك على جدك و صدقه هو .. و كذب الحكومات عليك . تتقيأ تتقيأ أناسٌ أهلكوا قلبك بالضغينة و الموجدة .. و آخرين سألت الله كثيراً لو انه ما خلقهم . تساقط قيئاً ململتك من الندوات السخيفة و الإجتماعات المختنقة بالأقنعة و الجمل المعلوكة و الاوجه المسطحات . تتقيأ بلزاك و جان دارك و أمادو و درويش و تشيخوف و إليوت و الهارب و تهاويم الديالكتيك و ابن المقفع و البلوز و كلارك جيبل و لوركا و دستوفيسكي و شتراوس و غودو و المتنبي و ابن عربي و المجدلية و المقدونية و بنت المستكفي و الجارة الفائرة الانوثة و موظف الجمارك و الحرس الجامعي و الشجرة التي لم تستر مغامرات ليلاتك العقيمة و رجل الشرطة ممصوص الوجه منتفخ الجيوب . كأسة الخمر الأولى و نحيب جدتك من وطء الكبر و تعاظم الشيخوخة و قلة حيلتها . تتقيأ ضعفك أمام صاحب الدكانة و تجنبك للموظفة الدميمة التي تلح في الغنج السفيه , قيئاً تندلق منك عناوين الصحف و الباعة الجائليها و وكالات الأنباء و صور الحكام و المحكومين . تسقط منك الرغبات السرية و الأحلام المنطادية و مدير المدرسة اللص و استذكار الرياضيات الحديثة و نطق موظف المصرف للفظة الأجنبية العرجاء . تدلق قيئك أزيز معدات طبيب الأسنان و رائحة غرف المستشفيات و الأسرة الناضحة باليود . تتقيأ كثيراً أفغانستان و عقدة فلسطين و العراق و القرارات الدولية الجرباء و دارفور و الوول ستريت و بورصات المارك و الين و مجالس الأوبك و خط الإستواء و منظمات الإنسان و العولمة القسرية و بوش الغبي و قواته الجرذان و موسيقى الراب و هوليوود و القولدن ماير و الميتروبوليتان و سوقية مسارح السوهو و عبث السوق و مشاريع الدولة و صافرات الإسعاف و رائحة روث الحمام في نافذة السجن والقوات الهجين و مذيع القناة و المعلق السمج في دوري الكرة و القيمة المضافة و النشيد الوطني و كبيرة الصدر تلك التي تتعس صباحاتك بابتسامتها المغتصبة . تدلق قيئاً انتصاب أذنيك لصرير احتكاك الزجاج بالأسطح الخشنة و أصوات طرقعة العلكة بين شدقي تلك الملتصقة بك في القاعة الفارغة ..
تتقيأ .. تتقيأ .. تتقيأ ..
تخرج ركام وساوسك و هرطقات ظنونك قيئاً لزجاً . تتقيأ وقر القلب و الأسرار و الأحلام المُستحثات بلا جدوى , كتلاً غرائية دامية تتقيأها . تستفرغ جوفك من حسراتك على الغائبين و للقاعدين و للبلاءات و للبلاد الأجنبية يجوسها القلب من فرط الوحشة .. تتقيأ أعالي سقف قهرك و غبنك و لوعاتك و الخيبات و الوحدة الدائرية و وهنك و تكّات الساعة الزمنية و عطن شمس الصباحات و سوء الليل الغريب و .. تسولك للخلاص .
..
هأنت على الجسر .. عاريا و خفيفا .
جوفك و إياك أجوفين .. مُفرَغَين منك و من حَمْلِك ..
تقيأتَ تاريخ جسدك و ذاكرتك و جوانحك و عقلك و مداركك ..
تقيأت كل شئٍ حتى لآخر خطوٍ أوصلك منتصباً فوق الحافة الحديدية الساكنة .. عارياً كأنما نُشِرتَ لتوّك .
ثمة ريح خفيفة الآن , ثمة أفقٍ و مرئيات .. ثمة أنت .
مددت ساقيك منفرجتين إلى حدها القاصي و رأسك ملقىً للخلف بجفنين مواربين .. ذراعيك على امتدادها جانحتين إلى جانبي جسدك المطمئن في نقاء عريه و طـزاجته و جدّته .
الهواء اشتعل حراكاً و ابتردت نسيماته على حين فجاةٍ .. و التمعت للنهر صفحته . المويجات الصبية من تحتك ارتطتم بالعلبة الخرسانية .. و اهتز الجسر ..
و أنت .. آذنتها صرخة من تجويف نقاءك الوليد :
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآي ي ي ي ي ي ي ي ي ي .....





التعديل الأخير تم بواسطة عماد عبدالله ; 07-11-2008 الساعة 07:41 PM.
عماد عبدالله غير متصل   رد مع اقتباس
 

تعليقات الفيسبوك


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

التصميم

Mohammed Abuagla

الساعة الآن 12:18 AM.


زوار سودانيات من تاريخ 2011/7/11
free counters

Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 2
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.