عرض مشاركة واحدة
قديم 13-03-2013, 05:44 PM   #[7]
حبيب نورة
:: كــاتب جديـــد ::
الصورة الرمزية حبيب نورة
 
افتراضي

كان ( أبوى ) يعملُ ساقٍ في تلك المدينة الغبية منذ فترةٍ بعيدة، وصفتها بالمدينةِ الغبية لأنها كانت تموتُ عطشاً والنهر العظيم يتسكّع على مقربةٍ منها _ جيئةً وذهاباً، كان أبوى هو الساقي الوحيد في تلك المدينة، أطلقوا عليه إسم أبوى، ولا يوجد أحد يعرف إسمه الحقيقي لأنه كان يخاطب كل الناس رجالاً وشباباً، نساءاً كانوا أم أطفالاً بهذه الكلمة : إزيك يا أبوى _ داير شنو يا أبوى . يقال أنه أتى من بلادٍ يمشي أهلها عراة . كان أبوى يحمل زوج الصفائح من وإلى النهر طوال النهار وهو يعرج في مشيته، لقد كان قوياً كثور، ولكنه كان يعرج في البداية لكي يحافظ على توازن الحمل الثقيل الذي يحمله، وبعد ذلك أصبحت عرجته جزءٌ من شخصيتهِ حتى من غير حمْل، يخرج من الراكوبةِ التي أتخذها منزلا له قبل أن يردّد المؤذن الذي يعتلي سقف المسجد _ يا أرحم الراحمين أرحمنا . يخرج حاملاً زوج الصفائح والطمبور الذي لا يفارقه، ويقف أمام راكوبته ساعةً يردّد خلالها بعض الأدعية التي تختلف في كل صباح عن الصباح الذي يسبقه، لم يكن يصلّي ولكنه كان يؤمن بأشياء كان يعتقد أنها كافية لتقرّبه إلى ربه زلفى . وبُعيد إنتهاء المصلين من صلاةِ الفجر، ينطلقُ بإتجاهِ النهر، ويعود وهو يتأرجح بفعلِ حمله الثقيل . عند عودته يسمع صوت سيدة كبيرة في السن وهي تحييه : كيف أصبحت أبوى ؟ . وقبل أن يستدير لكي يواجهها قال : نعلّك طيبة يا بخيتة، أصبحت شدييييد أبوى أنا _ البارح ما دفعتي لي، لكن هاك أسمعي الغنية دي جاتني في المنام ! . يقوم بإنزال زوج الصفائح بصعوبةٍ ويندلقُ منهما الكثير من الماء، ويمسك الطمبور ويبدأ في الغناء : ( الصندل الفايح .. جابوهو في صفايح .. يا شيخي يا السايح .. كل العُمُر رايح ) . تظهر إبتسامة الرضا على وجه بخيتة العامر بالشلوخ، ويقهقه أبوى على طريقته، لم تكن قهقهة طبيعية، بل كانت عبارة عن صلصلةِ أجراسٍ عظيمات أو زئير طواحين ! . كانت قهقهةٌ جبّارةٌ جداً . تقوم بخيتة بإستغلالِ الموقف كعادتها كل يوم، وتطلب منه بأن يذهب لكي يعبئ لها الأزيار بالماء، وأن لا ينس أن يسقي البهائم، لم تكن تدفع له نقداً إلا إبتسامتها المخادعة ! . يضع أبوي زوج الصفائح على كتفيه ويتأبط الطمبور ويسرع بإتجاه منزل بخيتة وقبلها لا ينس أن يقول لها : سمِح أبوى !! . وفي طريقه إلى بيتِ بخيتة يقابله (النعيم سيد الدّكان ) مبتسماً : كيفنك أبوى أنا ؟ . فيقوم الرجل الطيّب بإنزالِ حملهِ الثقيل، ويردّ تحية النعيم بأثقلِ منها قائلاً : أهلاً أبوي _ وليداتك كيفنهم ؟ النبي تسمع معاي الغنية دي، البارح جاتني في المنام !! . يمسك أبوى الطمبور ويبدأ في الغناء : ( الصندل المحروق .. الما نزل في سوق .. يا شيخي يا الفاروق .. أصلو العُمُر ممحوق ) . يبتسم النعيم إبتسامة عريضة ومن ثم يخرج ( حُقّة التمباك ) ويضع سفّة ضخمة، ويربّت على كتفِ أبوي ويقول له : بارك الله فيك يا المبروك _ عليك النبي ما تنسى تمِش لي أم الوليدات، باقِي الأزيار نِشفن من عدم الموية . يقهقهُ أبوي وكأنه أنتصر في معركةٍ ما . ويقول : سمِح أبوي، بس خلّيني أودي الجوز ده لي خالتك بخيتة أبوي . يعرج أبوي في مشيته قاصداً بيت بخيتة وهو يتأرجح بفعلِ حملهِ الثقيل، والمدينة تتعرّج شوارعها كأن أفعى هي من قامت بتخطيط هذه الشوارع، لم تشرق الشمس تماماً حتى الآن، وبعد جهدٍ مضني أقترب أبوي من بيتِ بخيتة، وظنّ أنه سيظفر ببعضِ الراحةِ ولو إلى حين . ولكن شيخ عبد الغفور إمام المسجد أستوقفه بوقارٍ شديد : توقّف يا إبني . لم يعِرهُ إنتباهاً، فقد كان معتادٌ على إسمٍ واحدٍ فقط، وفطن شيخ عبد الغفور للأمر وأستدرك : يا أبوي يا أبوي . فتوقّف . وأستدار مواجهاً له وقال وهو يقهقه : مرحب حباب شيخي، يسعلني الله هسه طِرِيتك، والله يعلم أمبارح جاتني مدحة في المنام وقلت ما في زولاً بسمعا قُبّالك _ كدي أسمعها معاي . أخذ أبوي ينتف في أسلاكِ طمبورهِ ويغنّي ( الصندل المنثور يا أهل الله .. جايبنوا بي البابُور يا أهل الله .. كان مُتنا شِن بندُور يا أهل الله .. إنشاء الله الذنب مغفور يا أهل الله ) . أبتسم شيخ عبد الغفور في وقارٍ وقال له : جزاك الله عنا كل خير، ربّي وقلبي راضين عليك إلى يومِ القيامة، _ أستحلفك بالذي لا تضيع ودائعه أن تذهب يا مبروك إلى المسجد، ولا تنس أن تدخله برجلك اليمين، وتأكد يا ولدي بأنك ستثاب في الدراين . حمل أبوي طمبوره ومن ثم الصفيحتان وقال له : سمِح أبوي الشيخ، بس أودّي الجوز ده لي بخيتة وتاني أرضّي علي أولاد النعيم وبعد داك بجيكم صاد !! . تجهّم وجه شيخ عبد الغفور وأظهر خلاف ما يبسُم، وقال : أعوذُ بالله من غضبِ الله، إنها بيوت الله يا رجل . لم يقهقه أبوى، وقال للشيخ : خابِرا أبوي، أنا هسه قلت ليك دي بيوت المريسة ؟؟ . ومضى مترنحاً من ثقلِ الحمولة، وأنفق النهار جلّهُ ما بين بيت بخيتة والنعيم ومسجد شيخ عبد الغفور . ولم يستطع الصمود أكثر، وأنهار من شدّة التعب. وعندما أفتقدوه في اليومِ الثاني وجدوه يابساً كجزعِ شجرةِ حرازٍ عملاقة ! ولم يفهموا بأنه قد مات عطشاً !! . ( معليش يا أبوي _ الموتُ عطشاً هو أسهل هدية تقدمها لك الحياة في تلك المدينة الظامئة ) .



التوقيع:
حبيب واحدة من البنات
حبيب نورة غير متصل   رد مع اقتباس