عرض مشاركة واحدة
قديم 29-08-2021, 07:21 AM   #[2]
عكــود
Administrator
الصورة الرمزية عكــود
 
افتراضي

المصالح المشتركة في قريتنا تقضى بواسطة العمل الطوعي حينما تعلن القرية أو مجموعة معينة حالة الفزع كما نسميه ويسميه أهل المناطق الأخرى بالنفير. عمنا الله جابو كان روح هذه الأعمال الطوعية وسادنها، حصاد كان، مقاومة فيضان وعمل الجسور، ضلالة بيت ...إلخ.
كان، رحمه الله، حلو المعشر دائم الإبتسامة، فهم سرالحياة فأكسبه ذلك الفهم المتقدّم جمال الروح وأريحية التعامل الإنساني الراقي، إضافة إلى الإيمان الكامل والرضى.

في أعمال الفزع يكون الله جابو هو القائد والربّان، يضع خطة العمل، يوزّع الأعمال على الفريق ويصدر إرشادات أداء الأعمال بالجودة المطلوبة مع الحرص على الوقت ومن ثم يقوم بمراجعة ما تم إنجازه. يأمر بكل لطف وحزم فيُطاع دون نقاش. يقيني أنه قد قام بالتطبيق الفعلي لنظريات وضع خطة العمل، إدارة الجودة الشاملة، إدارة الوقت وأساسيات العمل الجماعي قبل أن تُكتب وتدرّس في كورسات التدريب.

أما حفر القبورفقد كان من أعماله التي لا يرضى أن يتنازل عنها لأي شخص آخر. يجوب "الصايح" القرى على ظهر حماره ليعلن وفاة شخص "الحي الله والدايم الله، فلان ود فلان راح في حق الله، ألحقوا الصلاة" كانت عبارة "ألحقوا الصلاة" بمثابة إخطار للناس بأن الوفاة حدثت في القرية وليس خبراً تلقوه من مدينة أخرى، أما إن كانت بدونها، فذلك يعني أن خبر الوفاة قد جاءهم بهاتف أو ببرقية من مكان آخر.
يرهف الله جابو السمع ومن إسم المتوفى أو المتوفاة، يعرف في أي من المقابر الأربعة سيُقبر، فإن كان الدفن في مقبرة "تور القوز"، وهي مقبرة حيّنا، يشمّر الله جابو ساعد الجد وتكسو وجهه الجديّة والصرامة المعروف بهما عند الملمّات.

لما كان بيتنا هو أقرب بيت للمقابر، فقد كانت تحفظ فيه معاول الحفر والدفن في مكان معيّن لا يتغيّر أبداً (طورية خاصة لا تستخدم لأي غرض آخر، أزمة، عتلة، كوريق، واسوق وجوز صفايح الموية).
أقول، بعد سماع الصايح مباشرة والتأكد بأن الدفن سيتم في مقابر تور القوز، يجئ الله جابو إلى بيتنا ويدخل مباشرة (الله جابو لا يحتاج طرق باب أو إستئذان في حالات كهذه وفي حالات غيرها) ويأخذ معاول الدفن ليقوم بحفر وتجهيز المقبرة.
يصدف في بعض الأحيان أن تحدث الوفاة في وقت متأخر من الليل بعد هجوع الناس. في تلك الحالة لا ينتظر الله جابو إشارة أو إذن من أحد، وحتى لا يزعج أهل البيت يتسوّر الحائط ويأخذ المعاول، ويقفز راجعاً ميمماً وجهه شطر المقابر.

الناس في قريتنا يتسوّرون البيوت ليلاً، لا ليكشفوا العورات ولا ليسرقوا، بل ليسترون الإنسان ويكرمون الميّت، وكان الله جابو أحدهم، فكم أكرم ميتاً وكم ستر جنائز. أكرمك الله وسترك تحت الأرض ويوم العرض عليه يا أبا عبد الله ود أم زين!

سفره للعاصمة كان نادراً جداً وكان لا يرحّب به أبداً، لا يسافر إلا على مضض وللضرورة القصوى. في إحدى تلك الضرورات سافر، وأثناء مشاويره في شوارع لم يألفها ولا يخبر مداخلها ولا مخارجها، صدمته سيارة أودت بحياته وكان وحيداً بدون مرافق.

أخذته سيارة الإسعاف لمستشفى الخرطوم بحري ولم يتعرف عليه أحد. لكنهم وجدوا في جيب جلابيته، من ضمن متعلقاته القليلة، بطاقة "حفظ المكانة" بإسم الله جابو جابر سعيد بادي، مكان السكن، القرير/مركز مروي.
يا سبحان الله! حفظت البطاقة مكانته ميتاً كما قال حين رغب في إستخراجها.
يا الله جابو، هل كنت ترى ما لا نرى؟ هل أوحى إليك العزيز الرحيم باستخراجها لتحفظ لك مكانتك حين تموت؟ هل كنت تدرك ذلك ونحن الغافلون؟

إتصل أحد الدكاترة بأحد زملائه الأطباء من أبناء القريروأبلغه الخبر فتجمع الأهل في الحال. لم يمكث الجثمان في المشرحة أكثر مما هو معتاد في مثل هذه الحالات، فتمت إجراءات الدفن وإكرام الجثمان الطاهر بالسرعة المطلوبة، تماماً كما كان يفعل هو في حياته.

مثلما كانت مكانته محفوظة بين الناس في حياته، فقد ظلت محفوظة أيضاً عند مماته، ونحسب أنها محفوظة عند ربه يوم القيامة إنه الكريم الحليم.

رحم الله عمّنا الله جابو وأحسن إليه وأسكنه جنة الفردوس الأعلى وجعل البركة في عقبه.


أبوذر الكامل
أبو ظبي 2021/8/27



التعديل الأخير تم بواسطة عكــود ; 29-08-2021 الساعة 04:45 PM.
التوقيع:
ما زاد النزل من دمع عن سرسار ..
وما زال سقف الحُزُن محقون؛
لا كبّت سباليقو ..
ولا اتقدّت ضلاّلة الوجع من جوّه،
واتفشّت سماواتو.
عكــود غير متصل   رد مع اقتباس