عرض مشاركة واحدة
قديم 20-10-2011, 05:59 PM   #[42]
فيصل سعد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية فيصل سعد
 
افتراضي

من قصص الراحل على المك
"كرسي القماش"


اعتدت أن تختلف إلى مكتبك كل صباح، مثل الساعة الدقيقة أنت، تفد للمكتب في الثامنة من الصباح، في الشتاء كما في الصيف، ولم تغير عادتك تلك أبدا، حين كنت تعمل في الدامر أو الفاشر أو في كسلا.. حقا أنك قد خبرت أكثر أقاليم بلادك ولكنك لا تعرف ما هو الفرق، النهار في المكتب، والمساء في النادي.. وهناك دائما تاجر وزملاء وجزار وحلاق ورئيس صارم أو غير صارم...و.... و....

وها هي العاصمة.... موطنك.. عدت إليها بعد طول تجوال.. عملت بها سنة أو بعض سنة حتى أدركك المعاش. تقول أدركك المعاش، كما يدرك الموت الناس، أوليس المعاش كالموت؟ ألا يعني أن خدمتك قد انتهت، وكما تنتهي الحياة، أوليس الحياة هي العمل؟ هذا هو أول أيام الإجازة الأخيرة، ولن تستيقظ بعد ألآن مبكراً، ولن تمضي للمكتب فتكون به في الثامنة. لفرط ما جرت بك عربات التاكسي حفظت كل ركن في الشارع، أعمدة النور ومقهى (جورج) وإعلانات السينما، وهي المتغيرة دائماً وكل شيء عداها ثابت.. ثابت كل شيء، وكوبري النيل الأبيض، آه ما أجمل الإغفاء في السيارة حين تصعده جريا، ويعتدل الهواء حين يصافح صدر النهر ويغشاك رطبا منعشا ويسلمك إلى النوم.. لقد كبرت، وليس عندك سيارة، البركة في البيت.. وماذا ستعمل الآن؟

"مع السلامة يا سيد فضل.. والله تعلمنا منك الكثير.. سنفتقدك كثيرا" قال زميل في المكتب، وأنت تعلم أنه كاذب، فمستقبله في الخدمة معقود على تقاعدك بالمعاش... يا للنفاق! وعلي أخفي ابتسامته الخبيثة ابن ال.. ولكن المعاش هو الموت يدرككم جميعا.. ولكل أجل كتاب.. وهذا هو العزاء.. وأنت أيضا كاذب ،لو كنت تؤمن بهذا الكلام ما غضبت ولقبلت كلامه بروح سمح.

وهل كنت محبوباً يا سيد (فضل)؟ أتذكر الصرامة والحزم وسؤالك الملح أبدا لماذا تأخرت؟ هل نمت؟.. آه الهواء الصباح عليل يلذ فيه النوم؟ أم أن الخمر كانت قوية الليلة الماضية؟ وكان مثل هذا الكلام يغيظ الأفندية ولكنهم يسكتون خشية عقاب، وأنت نفسك تخشى المدير، كل سيد وله سيد.. حين كان يطل عليك أو يستدعيك تنصبب عرقا وتجف، آه يا (فضل) حقا قال لك (سنفتقدك يا سيد فضل ) ابن ال.. هذا الرجل لا يحسن كتابة خطاب أو مذكرة ، ولم يعمل مع السلف الصالح من الإنجليز.. يا سلام تذكر سمث وجونز ورانهل... والله لا يهم طالما كانت الخدمة كلها صائرة إلى انهيار كامل، وأين نحن من أيام (السلف الصالح) هاصت والله، وأصبح سادتها أولاد الجامعات.. (لكل زمان رجال ياسيد فضل) كان ذلك الشاب يقول لك هذا دائماً، هو في مثل سن ابنك ولكنه متعلم وأي علم؟ نوم في المدينة الجامعية وعدس وفول وجلوس في المسارح أو في المقهى، ودرجة جامعية، ثم تراهم يقفزون سلم الوظائف قفزا.. دنيا والله دنيا.. وهل مر زمان كنت سادته يا سيد فضل؟ من قبل هؤلاء الإنجليز حتى إذا خرجوا من البلاد جاء أولاد الجامعات.

تدرك أن الشمس في مدينة (أم درمان) (1) هي النار المحرقة، بعد الثامنة من الصباح تغلي البيوت بفعل الشمس، فلا تطاق ويلتمس الناس المكاتب ذات المراوح ومكيفات الهواء ليس حبا في العمل والانتظام فيه، بل هم ينشدون الهواء البارد والاستجمام، تحس ربما لأول مرة أن البقاء في هذه البيوت هو الموت، وعليك أن تبقى في جوارها، أم العيال. أليس في العمل رحمة؟ هذه هي المرأة الولود الخصبة، كأنها دلتا النيل.. إن لم يكن هناك من حل فالأجدر أن تجلس في الظل في الشارع وتطالع صحف الصباح وترقب السابلة والعربات تجري وتجري ولكن لاية غاية؟

حينما أخرجت كرسي القماش من المخزن ونفضت عنه غبار السنين، كانت ذرات التراب تذكرك بأيام (الفاشر) (2) حيث كان صنعه وخمس كراسي أخرى تكسرت جميعاً، وبقي هو. صنع الكرسي في السجن.. جف ظهر سجين وهو يصنعه لفرط ما عكف عليه وانحنى، جف ظهره لترتاح ظهور الموظفين الخواجات منهم وأبناء البلد، وقد يعجب هؤلاء بفنه وقدراته.. فن نابع من الصبر والقهر معا، وقد تسحر ألبابهم خطوط قماشه الحمراء والصفراء، ودهان خشبه الأبيض (ربما كان صانعك قاتلا أو سارقا أو هاتك أعراض، وربما تموت ويبقى الكرسي .. وكم من سارق طليق وهاتك عرض في عزة ونعيم .. و...و..) وينتشر الغبار كثيفا بعد كل ضربة.

( كان زمان أيام صنعت يا كرسي القماش، كانت الدجاجة بخمس قروش والخروف بخمسين قرشا، وفي القشلاق الخمر والنساء، وفي فصل الأمطار تمتلئ الترعة حتى تفيض.. وينتشر على التلال بساط أخضر من العشب، وأنك شهدت الصبيان يشربون الماء من حياض الجياد والحمير، والماء شحيح و (أتيمة) تصنع الخمر وتشرب أكثرها، وتأكل نصف خروف ،ولقد أحسنت امرأتك الصنع حين رفضت البقاء في الفاشر، وتركت فراشك خاليا منها وغير خال من (سعاد الفزانية)، وأنت الباشكاتب المهاب، زمان مضى يا كرسي القماش شخت أنت، وشخت أنا...) وها أنت ذا تجلس على كرسي في الظل، وتعاين في الشارع والناس في الشارع، وتمد رجليك، والظل يجاهد الشمس وهي في بطء تفترسه.

- سيد فضل صباح الخير .. ماذا بك؟
- لا شيء لا شيء
- أنت لست مريضا؟
- كلا
- إذن في إجازة؟
- نعم
- شيء عظيم .. أتفكر في السفر
- لا
- جميل بعد قليل تهطل الأمطار ويعتدل الجو، لماذا أصر جارك على كل هذا الكلام، أم أن هذه عادة أهل السوق من التجار، يا لعنة الله عليهم .. وبستطرد الجار..
- عظيم يا سيد فضل ومتى تنتهي الإجازة؟
- هذه إجازة نهائية
- يا سلام ... لن تعود إلى العمل إذن .. والله خسارة

وتغير وجه الجار العزيز، وأضحي قاتم اللون من بعد صفائه - أو هكذا تصورته- وتصلبت تقاطيع وجهه، زم شفتيه، قطب جبينه.
(يا مسكين يا فضل) تقول في نفسك ثم تتساءل: (هل المعاش هو الموت؟ أنت قادر ومقتدر ومعافى، خلا نوبات السعال التي تغشاك ويضيق بها خلقك من بعد صبرك، وتستطيع أن تعمل حتى تبلغ مائة عام.

وانصرف الجار العزيز، تراه يهز رأسه من أسف، كنت بالنسبة لهم شيئا وأصبحت لا شيء، كنت الباشكاتب المهاب.. يا خسارة ضاعت الرهبة، وحل محلها العطف والرثاء، وتنطلق السيارات أمامك، إلى أين يذهب الناس؟ أكلهم يعمل؟ أم أنهم سئموا الحياة في البيوت؟.. ألهم أزواج وعيال؟ تبا لها العجوز.. ما زالت تتطيب وتصلح من شأن نفسها... المشكلة أنها تغريك في هذا النهار الطويل فتضعف وتنهار.. والظل في الشارع خير من البيت.

وأبواق السيارات تتدفق فوق الشارع، والنظر سيارات وزحام . لأول مرة تدرك ان هذا الشارع القديم لم تمسه يد إصلاح ويبدو أن الأشياء لا تتغير كما ينبغي، "أهذا يومك الأول؟. وتمضي باقي حياتك على هذا المنوال؟ وما بقي منها هذه الحياة، لقد انتهيت عند الحكومة فلفظتك إلى الشارع" تحدث نفسك ، مشاهد تتكرر، وأناس يروحون، يجيئون، وسيارات تفلق الدماغ، وما العمل الحكومي؟ أليس هو تجربة يوم واحد تتكرر ثلاثين أم أربعين سنة؟ وفجأة ينقطع حبل تفكيرك.

- السلام عليكم
- يتردد الصوت ، وتنتفض فاتحا عينيك من آخرهما ،تحدق فيمن ألقي بالتحية وترد:
- بماذا تريد أن تناديه؟ أأنت تعرف؟ من هو هذا الرجل؟ كثيرون هم (أنصار السلام) هؤلاء، يحيونك حتى إذا كنت نائما، ثم أنك لا تعرفه،يقولون إن (السلام سنة)، ولذا يتمسك بها هؤلاء القوم، وقد تلقف عابر السبيل تحيتك عن رضا، ثم مضى لحال سبيله.

- يا ساتر يا رب .. حاسب!
- لا حول ولا قوة الا بالله
- يا عالم
- لا حول الله .. يا ساتر

أصوات تعل، وإذا بعربة محملة بالجنود، قلانسهم حمراء دونما استثناء تدهس طفلة كانت تهم بعبور الشارع ... وتهب واقفا، ويهتز رأس كرسي القماش كأنه نال راحة من بعد أن ارتفع عنة ثقلك.. من أي البقاع جاءوا؟ في لمح البصر، كيف احتشدوا بهذه السرعة؟ ألم يكن الشارع شبه خال عدا أشخاص يسيرون متفرقين؟ وها هي أصوات الناس تسبح قرب أذنيك:

- عربات الجيش تندفع مسرعة دائما..
- السائق مخطئ ... دونما ريب مخطئ ... الله.
- أبدا... أبدا ... هي غلطة البنت لم تقف لتتأكد من خلو الشارع..
- ولكنها ماتت
- كيف تموت بلاسبب وجيه؟
- هذا أوجه الأسباب في هذا الزمان
- أيعاقب القانون السائق أم العربة؟
- وقد بدأ الجنود بقلانسهم الحمراء يتقافزون من سطح العربة .. وتنظر بين الرؤوس والاكتاف والرقاب فإذا بجثة ملقاة على طرف الطريق، كان رداؤها أخضر، وكانت تحمل كتابا تطايرت صفحاته وعليها رسوم حيوانات وحروف كبيرة ذات ألوان، وكراسة تعلقت بإطار العربة، فما استطاعت منه الفكاك، وكان وجهها ملطخا بالدم، وقد غشا الموت عينيها، وأنت تعرفه: الموت (بالله كيف تموت المسكينة وهي ذاهبة إلى المدرسة؟ أحمد الله أنه أبقاك على ظهرها: الدنيا أكثر من نصف قرن، وها هي ذي طفلة مجتهدة تموت بلا سبب وجيه)
- أصوات تختلط
- بل هذا أوجه الأسباب في هذا الزمان
- احضروا غطاء
- احملوها إلى المستشفى
- يجب أن يفحصها طبيب
- ولكنها ماتت..
- من المسئول إذن؟ السائق أم الفرامل، أم هم الجنود، أم هي القلانس الحمراء؟
- هيا .. هيا.. قبل أن يأتي بوليس فنتهم بالقتل
كانت يدا السائق قد تجمدتا على عجلة القيادة، وانكفأ عليها بوجهه لا يريد أن يظهره، وتجمع الجنود فأقاموا حائطاً حول المتجمهرين.

ها هو الظل قد تقلص بعد أن افترسته الشمس صعودا، وليس أمامك من شيء سوى أن تعود إلى الدار، وتحمل الكرسي ثم تضعه على جدار الحجرة بعناية، كأنما قصدت أن يصيب راحة من بعد العناء، وترقد على السرير، والنهار صامت بعد أن اغتذى بدم الفتاة. وقد تطل عليك زوجك بعد حين، أيهما الجحيم ؟ الشارع أم هو البيت؟ فلتنتظر قدوم يومك الثاني في حياتك الجديدة.



التوقيع: اللهم اغفر لعبدك خالد الحاج و
تغمده بواسع رحمتك..

سيبقى رغم سجن الموت
غير محدود الاقامة
فيصل سعد غير متصل   رد مع اقتباس