عرض مشاركة واحدة
قديم 19-01-2013, 01:18 PM   #[1]
الوليد عمر
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية الوليد عمر
 
افتراضي إعــــلامــنا الــقـــومـــى و المـــتـــاجـــرة بإحـــــزان الجــــمـــاهــــير

....





منذ كنا زغبا صغارا وما فتئت تنبنى دواخلنا شيئا فشيئا ، كانت تتكرس بأرواحنا محبة الأحزان ، نموت فى عشقها موتاً ، و نشتهيها إن غابت و تعجبنا حدا الثمالة، و نبرر لضرورتها ، تصقلنا ، تنظف دواخلنا تجلينا ، نلوكها مرارا و تكرارا كما تجتر السعية علوقها ،و لست أدرى أهنالك شبه بين هذا و ذاك .. و لكن السعية تلوك علوقها لتهضمه و تستفيد منه أما نحن فنغرق فى أحزاننا دونما فائدة ، أتذكر بكامل الوضوح رحيل العمالقة واحداً تلو الأخر ، و كل رحيل يذكرنا بسابقه فننتحب جميعا و تختلط دموعنا بالحيرة .. أيهم نبكى ، و أيهم نبتكى ، بغاية السهولة تتحول البلاد بكاملها لسرادق كبير يغص بالمنتحبين و مكايلى الرماد و التراب على الهامات ، لست أعلم أهى عاهة نفسية جماعية أصابتنا ، أم هى ميزة روحانية أغدق بها الرحمن علينا فجعلنا من المساكين الممسوسين بعشق الفجيعة و محبة الأحزان.

أول رحيل صادم فاجأنى و كنت غضا لا أزال ، كان رحيل صاحب السر المكتوم فى جوف الأصداف مصطفى سيد أحمد .. ذلك المقبول .. رحل بغتة كما ترحل الأزاهر فى رعين الحقل تحت أزيز المحراث ، غصت البلاد فى حزنها المكتوم كما لم تغص من قبل ، على الأقل فى وجودى و أقرانى من ذات الجيل ، كان لحزن الشارع العام طعم العلقم ، أنفاس الرحيل الثقيل تنفخ سمومها فى رئة الوطن و يحتل الحزن فى أعماق النفوس مثلما يحتل الغريق فى جوف النهر .. أحزان بهذا العمق تخلق الإحترام فيما نظن .. و لكنها خلقت عندنا مع مرور الأيام ثقبا أسودا لا ينتج سوى الظلام.

تابعت فيمن تابع إغتصاص أزقة الخرطوم بالباعة المتجولين و هم ينسخون أشرطة المغنى و صوته الراحل دونما دراية و دونما حرفة .. و يطبعون صوره و يبيعونها للجماهير المتعطشة للذكريات ، يتكسبون من لهفة الدهماء على رابط يسير بينهم و بين أحبابهم الراحلين ، ولم يبق فى أذهانهم الضليعة فى التكسب أدنى قيمة للتراث الأدبى و الفكرى الثقافى لهذا الراحل الجميل .. اليوم تتكرر المشاهد و يتكرر الرحيل عندما تجلس إلى شاشة وطنية يوم الفقد لتحتمى بسحنة الوطن من هجير الفاجعة ، تمنى النفس بإيجاب التغطية لموت مؤلم فلا تجد سوى المتاجرة و التكسب دون إحترام لكثافة الأحزان فى نفوس الجماهير ..

رحل محمود عبد العزيز .. رحل الحوت و ترك برحيله جرحا غائرا فى نفوس أحبابه و مستمعيه .. هذا الجيل بأكمله تربى على أغنيات و صوت الحوت ، و كان مفهوما منذ أيام مرضه الأولى أن رحيله سيخلق صدمة قوية سيتأثر بها الناس فى كل مكان ، و لكن هذا لم يجدى نفعا ، و لم ينتبه له أحد من القائمين على أمر إعلامنا المقروء و المرئى و المسموع ، كل ما إنشغلوا بالتفكير فيه هو كيفية الإستفادة من هذا الرحيل المتوقع فجهزوا كاميراتهم و سنوا أقلامهم و أعدوا عدتهم لتوثيق مظاهر النحيب و دموع الثكالى و غبشة أطراف المريدين .. و ما إن سمعوا بنبأ الرحيل المؤكد حتى هرعوا إلى نشر عدتهم فى كافة المسارح المفترضة .. فى المطار و فى بيت الراحل فى المزاد و فى المدافن .. جلست إلى التلفزيون و غصتى فى حلقى تبحث عن بعض العزاء فى ملامح من وطنى ، أردت و لو قليلا من العرفان فى حق الراحل المقيم .. أردت حديثا من القلب عن مشروعه الفنى الكبير ، لكن كل ما حصلت عليه كان صورة له معلقة فوق هامة الشاشة مثلما يفعل رواد كتاب الوجوه و أطنان من الصور المفجعة للجماهير الكادحة و هى تفور من هول الرحيل و من فجيعة الموت لمسيح حريتهم و إنسانيتهم المنهكة .. مشاهد الثكلى فى بيت البكاء تعد إنتهاكا سافراً لخصوصية المفجوعين .. و الناس فى حزنها الكبير يفاجؤك مذيع متصنع و مذيعة متنطعة بجملة لا مكان لها فى تغطية كهذه :" فاصل و نعود" .. إعلان تجارى .. إنه التكسب من أحزان الجماهير فى أوضح الصور .. يرفعون نسبة المشاهدة بتغطية النواح ، ثم يردمون الشاشة بأشرطة الإعلانات المتحركة

و يا للبلاد الكلما مسحت عن خدها دمعة تفاجؤها الفجيعة بصفعة ثانية و ثالثة و رابعة .. يا للبلاد التى لا فكاك لها من براثن الحزن و الفقد و الخسران .. لقد وقع هذا الوطن فى دوامة ماسوشية لعينة .. لا تكرس فى وعى الجماهير سوى الخيبات المتتالية .. يموت المبدعون فى بلادنا .. لأن أرواحهم الشفيفة و النظيفة لا تحتمل هذا الكم الهائل من القهر النفسى و الخذلان .. هذا الشارع العالم الملطخ بالمظالم .. لا يبنى سوى العاهات و لا ينتج سوى الكساح اﻷجتماعى.


فيا قنوات الوطن التلفزيونية .. عيب عليكم ياخى .. عيب و أى عيب .. إن الأمم العظيمة تحتفى عند رحيل مبدعيها بإبداعهم .. ولا تتاجر أبدا بمحبتهم عند الجماهير للمكاسب الرخيصة




....



التوقيع: [moveo=left]A PERSON WITH ONE DREAM IS MORE POWERFUL THAN OTHERS WITH ALL FACTS[/moveo]
الوليد عمر غير متصل   رد مع اقتباس