عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-2012, 03:16 PM   #[12]
احمد سيداحمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية احمد سيداحمد
 
افتراضي

10
كان نهارا قائظا من شهر يوليو والشمس ترسل شواظا من لهب ، الاشجار ساكنة لا تتمايل كأنها التماثيل ، الدار ساكنة ، وحيدة كنت تفترسنى افكارى السوداء ، غارقة فى نوم هنىء كنت انت ، صوت خطوات تقترب ، لم اكترث كثيرا ، اقتربت الخطوات ، رفعت رأسى فى هدؤ ، الجمتنى الدهشة ، بقيت الصرخة حبيسة ، مبهوتة ، ظللت انظر من مكانى دون ان اقوى على النهوض ، كان عمك هنالك عند المدخل بقامته الفارعة وجسده النحيل وهو ينظر صوبى فى هدؤ كأنه خرج البارحة او قبل قليل ، تحاملت على نفسى ، تمالكت قواى واندفعت صوبه فى جنون اخذت اتحسسه فى لهفة ، مررت يدى على شعره امسكته براحتى طويلا ، تحسست جبهته ، تراجعت الى الخلف ، نظرت اليه بعمق كمن يستنشق عطرا جميلا ، ثم هرولت نحوه ثانية ، ضممته بقوة حتى اصدق ما تراه عينى ، حتى ابدد ظنى فى ان الذى امامى هو بشحمه ولحمه لاطيفه ولا شبحه الذى لم يغادر مخيلتى ابدا ، ثم غبت فى بكاء طويل ، وحين رفعت راسى ثانية كان وجهك الصغير مرتفعا ناحيتى وبالعيون تساؤل وخوف ، وحين رفعت فقد ايقظك النحيب ، كان عمك لا يزال واقفا فى ذات مكانه فى جمود، لم ينبس بكلمة لم يمد يدا لم يحرك ساكنا كأننى كنت اتحسس كتلة صماء من الحديد ، نظرت فى وجهه للمرة الاولى ، كانت صفحة الوجه جامدة لا حياة فيها ، فاجهشت بالبكاء من جديد ، لم يكن ثمة ما يقال ، كان مشهدا غريبا ، عبد الله واقفا بلا حراك ، وانا عند قدميه مجهشة ببكاء لم ينقطع ، عيونك الصغيرة ممتلئة بالدهشة ثم فجأة انهار جبل الجليد ، اجتاحت جسده رعشة مفاجئة ، تحركت قدمه التى كنت ممسكة بها ، ثم تهاوى على اقدامى واندفع فى البكاء ، لا ادرى كم بقينا على تلك الحالة ، ، دفن عبد الله رأسه فى صدرى كما كان يفعل عندما كان يفعل عندما كان صغيرا ، ، اخذ صدره يعلو ويهبط وصوت نحيبه يبدد السكينة ، فى ذلك اليوم لم نتبادل اى حديث ، نهض عبد الله ، اغتسل ، بدل ثيابه فى هدؤ ، نظر اليك طويلا ، ثم استدار ومضى الى غرفته فى صمت ، ذهبت اليه بالعشاء وضعته امامه ، نظرت اليه ، اطرق برأسه ، ترددت قليلا ، ثم خرجت مسرعة ، لم يخرج من غرفته فى تلك الليلة ، ولم اعاود المجىء اليه الا فى صباح اليوم التالى ، بدا لى مرهقا وحزينا فلم اشأ ان افتح جراحا واحاديث فى تلك الليلة ، ومن مصادفات القدر العجيبة ان اباك لم يحضر ليلتها الى الدار وبعث رسولا يقول انه سيغيب فى المدينة القريبة عدة ايام ، حمدت الله فى سرى وتنفست الصعداء ، فقد كان مجرد التفكير فى التقائكما بعد كل هذه السنين امرا يفوق طاقتى وقدرتى على الاحتمال ، وكان قلبى يقول لى انه كلما تأخر التقاؤكما كان ذلك افضل .
فى تلك الليلة لم انم ابدا ، انهكنى التفكير فى كيفية بدء حديثى مع عمك ، ماذا اقول له وكيف اقول ؟ انهكنى التفكير فى كيفية بدء حديثى مع عمك ، هل علم برحيل ابيك يا ترى ؟ هل علم بمصير امك ؟ ماذا فعلت الدنيا به يا ترى فى هذه السنين الطويلة ؟ هل تزوج وصار لنا احفاد يمشون على الارض دون ان نراهم ودون ان يعلموا بوجودنا ؟ ودون ان اشعر وجدت نفسى اتسلل على اطراف اصابعى الى حيث ينام ، وقفت عند رأسه طويلا ، كان غارقا فى نومه كملاك صغير ، هالتنى الشعيرات البيضاء التى تناثرت فى وسط شعره الاسود الفاحم ولحظت نحوله على الفور ، سقطت دمعة برغمى قلت لنفسى لقد تعذب كثيرا لا شك فى ذلك ، عاش اياما صعبة وقاسية ومن يدرى كيف قضاها ، من يدرى كيف استطاع ان يبقى كل هذه السنين وحيدا مثخنا بجرح لا يندمل ابدا ، تقلب فى فراشه فى قلق ، بدا كأنه احس بوجودى ، كأنه يوشك على النهوض استدرت على عجل وعدت ادراجى ، بقيت جالسة على سريرى لا شىء يونس وحدتى سوى صوت تنفسك المنتظم وانت تغطين فى نوم عميق ، بقيت هنالك حتى لاحت تباشير الصباح وداهمنى الكرى .



التوقيع:
من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع اﻵخرين إنه ﻻ يستطيع أن يكره ، وﻻ يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، ولكنه أبداً ﻻ يفكّر في أن يطلق رصاصة . وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس.
د.مصطفى محمود
احمد سيداحمد غير متصل   رد مع اقتباس