عرض مشاركة واحدة
قديم 20-02-2012, 05:29 PM   #[7]
احمد سيداحمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية احمد سيداحمد
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صلاح الدين سر الختم علي مشاهدة المشاركة
5
؟ اتذكر وجه عمك ... كلماته ... نظرة الذهول فى عينيه ، نبراته ترتفع وحاجباه يضيقان اكثر حين يجيبه الصمت (هل تصدقين هذا الجنون يا امى ؟ يجب ان تفعلى شيئا ، قولى شيئا ... اوقفى هذه المهزلة) طال صمتى ... علا صوته صار اكثر عصبية ، امسك بكتفى حتى المنى وهدر صوته فى اذنى ممتلئا بالقنوط وبشىء ما يشكنى كوخزة دبوس كلما ذكرته ...، امى ... هذا مستحيل ، انظرى فى عينى ، امى لا يمكن ان تصدقى هذا الهراء ... هذا جنون ... جنون ، الصوت يبتعد وهو يعلو هذا جنون ... جنون ، خطواته المترنحة ، اصطفاق الباب ... اهتزازى كمن تلقى صفعة حين رفعت وجهى لانظر اليه لم يكن امامى سوى باب موصد ورجع صدى .


لم يحتمل عمك غاب فى صمت ... رحل بعيدا دون ان يودعه احد ، غتبت ضحكته العابثة عن الدار وغاب فى جوف مدينة لم يقم بها طويلا وانقطعت اخباره بعدها تماما ، امسى ابيك شبحا صامتا يغادر الدار مع نسمات الفجر ولا يدرى احد متى يعود ، اغرق نفسه فى الارض كثور يدور فى ساقية بلا كلل ولا ملل ، فى ذلك العام كان حصاده وفيرا وصمته اوفر ، لم يكلم امك ابدا ، لم يكلمها احد البتة ، لكنها فهمت كل شىء ، محمرة العينين طول الوقت ، شاحبة الوجه ، شاردة الفكر ، وبالعيون استغاثة صامتة امست ، كانت تنظر الى طويلا ، تفتح فمها ، تهم ان تقول شيئا ، تغرورق العيون ، وعندما تتقدم نحوى ادير وجهى وامضى فى سكون يائس ، نشيجها المر خلف ظهرى ، تنتابنى لحظة ضعف ما ، اوشك ان استدير واحضنه بين ذراعى ، لكن قوة ما تنهض من داخلى كمارد ثائر وتدفعنى بعيدا على عجل .


فى هذا الصمت القاتل كنت تشرأبين للخروج يا صغيرتى ، كان كل شىء فى الدار يرفضك ويأبى قدومك ، حتى ابيك حين فاجأ المخاض امك التمعت عيناه فى غيظ عظيم ، دق الارض بقوة ، ثم هرول نحو الباب المفتوح واخذ يركض كالهارب من عدوى فتاكة ، كدت الحق به ، كنت بعيدة عن عتبة الباب حين دوى الصراخ حادا ومتصلا ، فتسمرت اقدامى برهة وفى اللحظة التالية كنت اركض صوبها بلا تفكير ، وحين وجدت نفسى بقربها ذاب كل شىء فى داخلى ... لم اعد ارى فيها سوى امرأة تتوجع وداخلها يضطرب بحياة تتشابى الى الدنيا فى شغف واصرار ، كانت اولى نسمات الفجر قد بدأت تهب حينما حملتك يداى لاول مرة وتعالى صراخك حادا مبددا للسكينة وارتسم على وجه امك هدؤ شامل لم يرتسم فوقه منذ شهور طويلة ، واتذكر ابتسامتها الصافية فى وجهك ، يدها وهى تمتد بك وعيونها ملتمعة بنظرات التحدى ، قلت فى سرى (يا للجرأة) واشحت بوجهى بعيدا ، واستيقظ كل شىء مجددا ،انتصب الجدار من جديد ، نظرت امك الى فى اسى ، ضمتك الى صدرها بقوة ، جاء صوتها واهنا : (حتى انت يا خالتى ؟ فليرحمنا الله جميعا ) ، لم التفت اليها ... بقيت معطية ظهرى اليها هكذا دون ان انبس بشىء ، ثم انفلت خارجة على عجل ن كان مراح ابيك عامرا بالشياه من كل شاكلة ولون ، وكذلك مراح جدك ، لكن امك وحدها هى التى اعطتك اسما ، اما ابيك فقد كان بعيدا ، جدك كان اكثر حكمة منا ، ذبح شاة وارسل يدعو الجيران كأن شيئا لم يكن وتلقينا التهانى فى صمت ... كانت امك فى غرفتها الصغيرة وحيدة لا يلمع وجهها الا حين يسألها الناس عن اسم المولودة ، فترد وقد تورد وجهها عافية فجأة (هبة ، هى هبة الله ، لذا اسميناها هبة) .


كانت امرأة من الفولاذ ، لم ار احدا فى صبرها وقوتها قط ، كان الفضوليون يسألون فى خبث عن ابيك ، فكانت ترد ببساطة دون ان يطرف لها جفن ان اعمالا مفاجئة اجبرته على السفر قبيل الولادة ولم يتسن له ان يعرف بقدومك ... حتى ابيها لم يعرف شيئا اكثر من ذلك ، لم تشكو له شيئا لا تلميحا ولا تصريحا ، قضى يوما معنا وفى اليوم التالى غادر سعيدا خالى البال ، لم يقدر له ان يعرف ابدا فى اى محرقة هادئة كانت تجلس امك وعلى وجهها تلك الابتسامة العذبة .

عندما نتذكر امك الان ونتذكر ذلك السلام الداخلى العجيب الذى كانت تتشح به ندرك جيدا حجم القبح الذى بداخلنا وترتفع اسوار القفص الذى وضعتنا فيه بصمتها النبيل مرة واحدة والى الابد وهيهات ان نخرج منه ابدا ... كان صمتها هو سلاحها الوحيد ، وما احده من سلاح وما امضاه ، خاصة بعد كل هذه السنوات من الغيبوبة التى انقشعت فجأة ووجدنا انفسنا امام الحقيقة البشعة ، حقيقة اننا ظلمناها جميعا ، وكأن الله اراد ان يعاقبنا من ذات جنس العمل ، فمثلما كان صوت عذابنا لها بطيئا وممتدا واتذكر الان ، كان ذلك بعد رحيلها بوقت قصير ، فارق الكرى عينى ، كانت تأتينى فى منامى كل ليلة دامعة العينين منتفخة الوجه تنظر الى فى صمت وضراعة ... لا تقول شيئا وفجأة يغيب وجهها يحل مكانه وجهك الطفولى البرىء وانت مجهشة بالبكاء بلا انقطاع ، اهب مفزوعة ، اتصبب عرقا فى الشتاء ولا انام بعدها ابدا حتى الصباح ، كانت تأتينى فى ثوب ابيض دائما ، مرة غارقة فى حفرة عميقة لا يبرز الا وجهها فقط ، ومرة اخرى طافية فوق النهر نصفها الاسفل فى الماء ، وجهها يعلو وينخفض مع الامواج ، يعلو وينخفض ولكنه لا يغيب فى الماء ابدا ، بدأت افكر تفكيرا مختلفا ، لاول مرة بزغ فى ذهنى التساؤل : هل يمكن ان تكون مظلومة ؟ هل تسرعنا ؟ لماذا صدقنا هواجس ابيك ؟ لماذا ؟ يتداخل وجه عمك فى هواجسى ، حزينا ممتلئا بالقنوط ، صوته يتداخل بينى وبين افكارى : (هذا جنون هذا جنون) ...
................



التعديل الأخير تم بواسطة احمد سيداحمد ; 02-03-2012 الساعة 04:17 PM.
التوقيع:
من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع اﻵخرين إنه ﻻ يستطيع أن يكره ، وﻻ يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، ولكنه أبداً ﻻ يفكّر في أن يطلق رصاصة . وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس.
د.مصطفى محمود
احمد سيداحمد غير متصل   رد مع اقتباس