عرض مشاركة واحدة
قديم 20-02-2012, 05:28 PM   #[6]
احمد سيداحمد
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية احمد سيداحمد
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صلاح الدين سر الختم علي مشاهدة المشاركة
4


قلت لها يا جدتى لا افهم شيئا البتة ، قالت ودموعها تنهمر بلا انقطاع : (صعب جدا ان تفهمى شيئا يا صغيرتى ، لكن الاوان قد آن لازيح عن صدرى هذا الحمل الثقيل ، لن اخفى شيئا ، كان ذلك زمان ، بعيد جدا ، كانت امك زهرة بنفسج وكان ابيك وعمك يدوران بلا كلل حول الزهرة ، عامان من الزمان يفصلان بينهما رجحا كفة ابيك على عمك ، زفت اليه فى حفل بهيج ، كان سعيدا كطفل بقدر سعادتها ، كانت امك لا تخفى حسرة بادية على عالم الدراسة الذى اجبرت على هجره ، تلك حسرة لم تفارقها ابدا وعبرت عنها دائما تلك العلاقة المستميتة بعالم الكتب والكتابة ، كانت تلك خيبتها الاولى مع ابيك الذى لم يخف ضيقه بشغفها بعالم لم يكن له ابدا ان يلجه او يقف عند اعتابه ، قلت له وانا الحظ ضيقه دون ان ادرى اى بذرة قد بذرت : (غدا يأتى الاطفال وتنسى يخفت احتجاجها مع الضجيج ،دع ذلك للايام ) لكن الاطفال لم يأتوا ، مضى عام ثم اخر،وتوالت الاعوام ، تحولت نظرات الناس الى شفقة والعبارات الرقيقة الى حرب مدببة تواجه ابيك وامك اينما حلا ، لم نترك بابا لم نطرقه ، عيادات الاطباء ، نصائح الشيوخ وبخراتهم ، ليالى الذكر وكل ما يخطر على البال ، ساد الوجوم الدار ، امسى وجه امك شاحبا مرهقا وصارت اكثر ميلا للصمت والانطواء ، صار ابيك اكثر عصبية واكثر ميلا للشجار لاتفه الاسباب ، ارتفع الهمس امسى مسموعا ، بدأ كل شىء يسير نحو ذروته المحتومة ويشى بأن إنفجارا وشيكا قادم لا محالة ولا ريب ، وفجأة حدثت المعجزة ، بعد سبعة اعوام كاملة اقبلتى يا صغيرتى ونزعت فتيل القنبلة ، صار ابوك ودودا لطيفا ، عاد لوجه امك البريق ، وتنفس اهل الدار جميعا الصعداء ، كان عمك الاكثر سعادة ، ربما لانه الوحيد الذى كان مؤمنا بأن المحنة الى زوال ، حتى حين اجتمعت العائلة ذات مساء بعيد ، وكانت امك ليلتها فى دار ابيها فى زيارة قصيرة ، يومها كان هناك صوت وحيد فى حقها معارضا فكرة طلاقها من ابيك وزواج ابيك عليها ، حتى حين انتهره جدك فى عصبية قائلا (متى كان الصبية امثالك يفهمون فى هذه الامور و يسمع لهم رأى) لم يتراجع عمك عن موقفه ، حينها كان ابيك حائرا يحدق فى عمك حينا ، وحينا اخر يحدق فى الارض فى سكون ، وثالثة الى السماء فى قنوط كأنه يستجدى رأيها .والحقيقة تقال ان عمك كان متميزا عنا فى موقفه حيال امك فى كل شىء ، فى الايام العصيبة حين كان يكفى ولوجها مكان ما ليسود صمت عابق بنظرات الاتهام والازدراء ، كان عمك وحده هو الذى يلقى تحية رقيقة ويفتعل حوارا ما ليبدد السكينة القاتلة ، كان ذلك يدهشنى دوما ، فاعزى نفسى قائلة لعل ذلك مرده ود قديم وعاطفة لم يكتب لها ان ترى النور ابدا ، واتذكر ذات مساء بعد حدوث المعجزة وقبل خروجك الى الوجود كنت سعيدة وكان عمك الى جوارى يحتسى قهوته الاثيرة ، قلت له ممازحة : لولاك لظلمنا الفتاة كثيرا ، كأنك ترى الغيب ، لو جاء ولدا اسميناه بأسمك ، اعدك بذلك ، ضحك بعمق ولم يقل شيئا .

ضجت الدار بالحياة من جديد وكما يتهيأ الناس للاعياد،لحدث ما ، كانت الدار كلها تتهيأ لاستقبال قدومك ، كنت اشياء كثير فى شىء واحد ، الحفيدة الاولى ، المطر القادم لارض ظمأى تشققت من طول الانتظار ، شهادة البعث الجديدة لامرأة عانت طويلا من البقاء فى الاركان المعتمة ، نهاية شك طويل عذب ابيك كثيرا ، ظنون قاتلة لرجل اتى من صلب اب واسرة اشتهرت فيما اشتهرت بشغفها اللامحدود بالتكاثر وحين زفت اليه امك النبأ فى خفر ، اطرق طويلا ثم اشتعل بالحياة ، اخذ يهزها فى جنون وينادى باعلى صوته ، وحين بلغناهما كان ابيك ساجدا فى مشهد جليل ، الدموع قد غسلت الوجه الطفولى بأكمله ، كانت امك واقفة هناك،ملاكا صغيرا لا يدرى ايبتسم ام يبكى ، الخدود قد توردت خجلا ، المآقى تترقرق فيها الدموع ، حتى جدك لم اره فى حياتى قط وهو يبكى ، ادار وجهه فى تلك الليلة نحو الحائط القريب وغافلته دمعة ما ، فاخرى حتى تبللت اللحية البيضاء بالدموع فهرول خارجا على عجل وصوت عصاه المضطربة وهى تدق على الارض ترن كناقوس ، اتذكر ذلك كأنه حدث البارحة ، لكن ما بعده ، ذلك الزلزال الهادر الذى عصف بكل شىء لا اذكره البتة ، لا اذكر كيف بدأ كيف تبدلت الاشياء كيف حطت تلك الروح الشريرة فى الدار واستوطنت ابيك ، تتقاطع الاحداث فى الذاكرة مبعثرة مسكونة بالفوضى والبدائية ، فى البدء كان الصمت ، كانت الخطوات المترنحة لابيك،وجهه الشاحب ، عيناه الزائغة النطرات ، غيابه الطويل ، ثم تلك المشاجرة العاصفة فى منتصف ليل حزين ، صوت عمك حادا يجلجل فيرتد الصدى انت صوت جدك آمرا وقويا ، لهاث ابيك ، النظرة فى عينيه ، صدر عمك يعلو وينخفض فى غيظ عظيم ، سؤال جدك المتكرر ، الصمت الطويل ، نوبة الهستيريا التى انتابت ابيك ، بكاؤه كالاطفال ، وجه امك الممتقع ، نظراتها المتنقلة بين الغريمين ونظراتها الى جدك وإلى ، وهرولتها بعيدا ، الصمت القاتل من جديد ، صوت نشيجها البعيد تحمله الريح ، إنفلات ابيك خارجا ، يد عمك وهى تهوى على المنضدة فى عصبية ، نافورة الدماء المتفجرة من يده ، صوت الباب الخارجى وهو يصطفق ، عواء كلب بعيد ،ثم صمت اشد ضراوة من ذى قبل عم الدار ، سكنها طويلا ولم يغادرها ثانية ابدا ، لم افهم شيئا فى البدء وليتنى لم افهم ابدا . ليت الافكار السوداء لم تنال منى قط ، لكن التربة كانت صالحة لتنبت فيها الافكار المريضة ، تماما كما كان ابيك كنا جميعا ، وكأن عرافة مشئومة اخترقت الصمت ووزعت علينا جميع كأسها المسموم فاحتسيناه جميعا فى بلاهة دون تردد ، دونما تفكير ، كان شيئا يفوق احتمال البشر ، لم نتحدث قط ، لكن الجحيم فتح ابوابه علينا دون ان يرمش له جفن ، شىء ما فى داخلى تحجر ومات تماما ، بت ارى بعين واحدة واتحدث بلا لسان ، نصبت اعواد المشنقة فى صمت ، كنا جميعا نفتل حبلها حولها ودونما شعور بالذنب ، دونما تفكير حتى وكأن قوة خفية تمسك بالخيوط فى يدها فى الظلام وتقودنا وهى تبتسم الى الهاوية ، كنا نحكم الانشوطة فى برود دون ان ندرى اننا نحكمها حول رقابنا نحن وليس سوانا ، كانت هناك اكثر من فرصة للافاقة من ذلك لكن من وماذا بمقدوره ايقاف عجلات الاقدار حين تدور ؟

.................



التوقيع:
من يعيش في سلام مع نفسه فهو يعيش دائماً في سلام مع اﻵخرين إنه ﻻ يستطيع أن يكره ، وﻻ يخطر بذهنه أن يرفع سلاحاً في وجه أحد إنه قد يطلق ضحكةً أو يترنّم بأُغنية ، ولكنه أبداً ﻻ يفكّر في أن يطلق رصاصة . وإنما تولد الكراهية للآخرين حينما تولد الكراهية للنفس.
د.مصطفى محمود
احمد سيداحمد غير متصل   رد مع اقتباس