عرض مشاركة واحدة
قديم 10-03-2012, 09:40 AM   #[86]
آدم صيام
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية آدم صيام
 
افتراضي

(24)



إنه وُلد في بيئة يتصارع فيها الجيران فيما بينهم لتناوب ذائقة (الملح و الملاح) الإدام عبر الحيشان في أريحية إيثار لم يشهد العالم نموذجها، ويفنون أنفسهم من أجل حماية الغريب حتى يغادر ما جاورهم من ديار كي لا تلتاث سمعة بلد بكامله بمسبة الإساءة للغريب لكونه الوحيد المنفرد الضعيف مفارق أهله وترابه وإن كان حاله غير ذلك في بلاده. العشاق لا يعقدون مواعيد غرامية مع فتيات الحي فذلك تابو في عرف المجتمع ولا يتزوجون منهن إلا لماماً اعتباراً لحرمة رحمية ناسجة وصوناً لوشيجة حميمية راكزة. بينما قد جلسوا في صباهم القرفصاء تحت ضوء القمر بعد منهكة (شدت)، (شد و اركب)، (الرمة وحراسها) واستراحة (كديس شن نطاك) ليتهكمون على بعضهم البعض ويفرغون السموم التي رضعوها من جداتهم الخرافيات بهؤلاء: رقيق وقسم السيد وعجب الدور وجبر الدار وعوض دكام وأولاء سعد وسعيد و أهل الدار وفج النيل وبحر العوم ونور الشام وخاتي اللوم، ثم لا يلبثون أن يتمازجوا ويتماهوا فيما بينهم وتختلط دماؤهم حتى النخاع لتخطئ معايير علم الجينات في تصفيفهم.



شخص ولم يزل يخلط بصورة غير قابلة للدحض بيسر بين الحق البسيط والباطل المعقد والصدق والكذب والأسطورة و المعجزة والعلم والخرافة والصوفية والإسلام والمسيحية والكجور بل ولا يميز بين الغلالة الفاصلة بين الموت الحقيقي والحياة الحقيقية فيعمد لأسلوب المجاوزة والعجنة المتماهية بين الشئ ونقيضه والمماهاة والتداخل وكلما هو قاسم مشترك حتى لا يصيبه الرهق و يطاله اللوم ولا يؤول تقديره في حكمة البقاء على الأرض صفراً. هذا الشخص الطاش ينتعل صندلاً بنياً ويربط حزام ماركة (lacoast) ويرتدي قميصاً نيلياً مخططاً أو مربعات وقد يكون بمعيته قلم وورقة إلا أنه قلما يستعملهما في تدوين مايريد وإن دوّن فسرعان ما يحرقها أو يتلفها أو أضاعها بين ملابسه المحالة للغسيل في تناقض بائن وقواعد التتريخ وتدوين المعرفة القائم على الرصد ثم التجميع والتحليل وقراءة النتيجة، فقد استبدل الماورائي بالتجربة و التتبع والتقصي كما قال أحد علما الفلك الأمريكيين في سبر تعجبه من أن ثلثي الأفلاك السماوية ذات أسماء عربية إسلامية إلا أنهم بعد قرنين فقط قد استبدلوا التجربة بالوحي (revelation replaces investigation) هكذا رغم توفر أدوات السبر التي معاولهما الورقة والقلم أصبحت تصرفاته لا تخضع لإجراءات المنطق ونسقه فيفقد أصلها ويحتفظ بطيفها كلفافة لتدخين سرده الروائي بعد أن نفض أعقاب رمادها على عتبات النسيان وردهات الغفلة.


بتلك المواصفات المذكورة أعلاه أو بعضها، كان هناك شخصي ينتحب حد النخب ويخضل ذقنه فقميصه فسرواله الكوردرايت الأزرق بالدمع السخين في بيئة درجة حرارتها بموازاة خط الاستواء ورطوبة تفوق الوصف بينما ميدان مرديكا الماليزي الواقع في قلب العاصمة يضوع طرباً ويندغم فيه الشباب الماليزي بالفتيات والفتيان الصينيين والتاميليين والباكستانيين في بوتقة منصهرة بانورامية صمدية ملونة زاهية ويتمايل الجميع فيها فرحاً وغبطة باليوم الوطني الماليزي.


واقف كالصنم في ميدان (مرديكا) إذ تجتاحني فكرة أن بمقدور طالب الدراسة الصابر أن يتعلم أي مادة دراسية ولو زعم بأنه يكرهها، ولم يتوقف ذهني لبرهة لربط هذه الفكرة بذلك الميدان، ودليلي على هذا التداعي أن تجربتي الخاصة مع مادة التاريخ التي بزعمي أمقتها قد ولت دون رجعة بل و أصبحت مادة التاريخ هي محور تفكيري وكتاباتي -على قلتها- وهكذا ركبت في سرج السياق التاريخي (الحتمية التايخية) مع العالم كارل ماركس في سرج واحد على دراجة هوائية ماركة رالي من البنطون وحتى ملجة سوق الخضار، ولا أنسى ما حييت أن أستاذ مادة التاريخ في مرحلتي الثانوية كان من أشد أعدائي ولا سيما عندما يكرر عبارته المعهودة ( وحين ذلك جاطت) فور كل انهيار منظومة سياسية تاريخية. أما تجربتي الثانية فتبدت في كرهي لمادة الرياضيات وبقدر ما حاولت أن أجد رابطاً لرموزها مثل: جا وظتا وجتا المثلثات في واقعي المعبوك بالربيت والدليب والحميض وصمغ الطلح والطعمية ومديدة الحلباء و نبات الرجلة (البقلة الحمقاء) المطبوخ بالعدس بل وحتى بحساب التلميذ والربح والخسارة وصراع المقاييس والمعايير الفرنسية الياردة والرطل مع منافستها الإنجليزية المتر وكيلواته، بل وفي السمكة الأنبوب المسماه محلياً لدينا بالتامبيرا وعش الغراب الذي نخجل من ذكر رسمه واسمه فلا ننطقه لدرجة أن آل إلى العدم في مجمل حياتنا مع تأكيد وجوده الفاعل في جذوع الأشجار وفي فطر الخريف وغذاء في أغلب بقاع العالم لا تشوبه نكهة خجل، ونبات الزعيلانة النبات الذي ما أن لامسته أضمر ظاهر أوراقه وأظهر باطنها و(الطرور) صنو الفلين القادم عوماً من جنوب الوادي، حتى عثرت على كتاب (الممتاز في الرياضيات) وبدأت في حفظ القوانيين الرياضية من أولها كحفظ المعلقات على شاطئ النيل الأبيض لينفلق لي سحر الرياضيات كلها بمحصلة مفادها أن بمقدور أي طالب ممتحن للشهادة أن يحصل على نسبة 91% فيها بعد ترك التسعة بالمئة لعامل زمن الامتحان الضيق فقط. ومن هنا، أقترح أن يكون امتحان مادة الرياضيات والفيزياء وما شاكلهما في الشهادة السودانية لمدة خمس ساعات حتى لا يعيق الزمن وحده تحصيل الطلاب وتركيزهم، فإن ساعة الزمن بيد الله يقلبها كيفما يشاء بدليل أن حالة ضيق نفسي بسيط قد تنتاب شخص تكلف صرم الحياة بكاملها، وهذا ما يدل على أن معيار الزمن ليس بيد الإنسان ولكن لا يتوجب عليه ترك قاربه هدراً. أما تجربة خالي أحمد فقد كانت أيضاً محصلة إصرار قوي وذلك عندما كان يتهكم مدرس اللغة الإنجليزية عليه في كل مرة يدخل الفصل بأن يزجره بسؤال يشيب الولدان وعندما يعجز خالي أحمد عن الإجابة تنهمر سيول التقليل والشتائم عليه حتى غادر حصة ذلك الأستاذ نهائياً وهو في السنة الأخيرة لامتحان الشهادة السودانية. وعندما ظهرت النتيجة كانت مفادها أن الطالب أحمد محمد أحمد سليمان الجالس للامتحان من مدرسة السوكي الثانوية أن حصل على نسبة 80% في اللغة الإنجليزية إلا أنه رسب في جميع المواد فتحول من طالب راسب في كل المواد عدا اللغة الإنجليزية إلى مترجم في شركة تعمل في مصنع كنانة في بدايات إنشائه.
لربما تتهاوى المقولات المفرغة المكررة في إقامة الحواجز بين المواد الدراسية التطبيقية الإمبيريكية وضرتها المسماه بالنظرية (علمي يقابله أدبي كشة). إن علم الاجتماع المحسوب على أنه علم نظري اتضح أنه يحتاج إلى تجارب و معامل أكثر من علم المساحة. وعلم النفس كادت أن تتجاوز تجاربه ومعامله وعياداته الطب البشري كما أن الأدب خلط بين علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والأنثربلوجيا وعلم اللغة وغيرها ليثمر خلاصات ممتعة في سبر النفس البشرية المتقلبة ، أما علم اللغة فله معامله التطبيقية وأجهزته السمعية والبصرية التي فاقت طب الأسنان والأذن والحنجرة. لم يبلغ شكسبير مقامه السامي لالتصاقه بالعصر الفكتوري فحسب بل لسبره أكناه النفس البشرية السايكولوجية والسيسيولوجية المظلمة في مجمل أعماله الأدبية. نجيب محفوظ الكاتب الذائع الصيت وماركيز النوبليان الجائزة قد أسهبا في علم النفس واللاهوت والقدرية والحكمية حتى فاضت رواياتهما، أما جبران خليل جبران الفيلسوف الشاعر ونزار قباني فقد حطما أغلال ثالوث التابو المتمثل في الإله والجنس والحاكم المطلق ولم يخرجا بعد عن حظيرة الإيمان. سقت كل هذه الشتائت لأدلل على أن الإنسان بل والأمة بمقدورهما وحدهما الجلوس في آخر سلم البشرية أو الصعود إلى ذروتها، فقد كانت ماليزيا على تنوع إثنياتها واختلاف لغاتها قد تمكنت عبر حكمة الإصرار على الصعود وهذه الحكمة لا تتأتى بالعلوم التطبيقية البحتة وحدها، وإنما لا بد أن تسبقها الحكمة التي تجعل من إثنيات وأقوام وألوان وأديان وثقافات مختلفة تتفق على الحد الذي يوفر لهم بلوغ مصاف الدول المتقدمة بحقيق دون اختلاق تنازع.


أسوق كل هذه الفنتازيا للتدليل على أن الحواجز المعرفية بين ما هو نظري وتطبيقي قد انهارت قبل انهيار سور برلين و أن ماليزيا –مثالاً- لم تتوقف في التصنيف العلمي المخل ثم تتوسد التاريخ. دارس البيئة النظري إن لم يتسلح بكيميا ِأول وثاني أكسيد الكربون وثالثه- ولا أجرؤ أن أضيف رابعه- و النانو وديناميكية المجتمع وحقوق الجيران في الاتفاق على كب القمامة وصون البيئة والتفريق بين أنواع القمامة فيما يجب تدويره وما يجب إعادة استعماله وما يجب تحويله ولكل منهم معالجته، فقد يفاجأ بنكسة بيئية قد تتسبب في ثقب قبة السماء إن لم يتم انهيارها على الفيران البشرية قاطني كوكب الأرض قاطبة ناهيك عن السودان الضيق، وهذا إن لم ترجع بالمجتمعات إلى العصور المظلمة والكهنوت والمباخر والحجبات وعصر شم العود للإنجاب. كما أن خبير العولمة (القلوبلايزيشن) يلزمه قبل أن يتفوه بكلمة (بغم) أن يستصحب جيداً بمعيته علم الاقتصاد والسياسة والتاريخ والأنثربولوجيا وعلم النفس وعلم المواصلات وعلم الاجتماع والمعمار والقانون والكيميا والفيزيا والأحياء من علم البحار وإلى علم الحشرات لحفظ نوعيتها والجغرافيا وعلم المناخ المتمثل في حركة الرياح ومواسمها وأماكن الضغط المنخفض ونقيضه ودرجة حرارة الشمس وكواكبها وكذا الشعر والنقد الأدبي لرسم صورة قريبة للمواطن البيئي الفاعل والجفرافيا البشرية لفهم الكثافة السكانية وعلم الحفريات لرصد تاريخ التحولات البيئية وأعراض وأمراض انتكاس البيئة من سرطان الصدريات إلى التيفويد والكيمياء والأحياء وعالم البحار والمحيطات والإشعاع حتى لا يقع في شر جهله اللاعولمي الذي يمكن أن يحجره في خانة المتنطع البغيض والجهلول المتبلد. كانت تلك كوة في رحلتي وما زالت بين تقابة الفكي (الفقيه) في قرية المروة (أم حجيرات) ريفي الجبلين، ريفي ربك، ريفي كوستي ريفي الدويم، ريفي الإقليم الأوسط وريفي الخرطوم العاصمة المثلثة لوطن قبل انشطاره الأميبي إلى نصفين.

لذا أجزم أن ساحة مرديكا الماليزية التي زرفتُ فيها خيبة وطن اسمه السودان أقيمت بالعلوم وتاريخ الشعوب مجتمعة دون اختزال لبعضها أو لواحدة من حضارتها ساعة الجد بل وأنثربلوجيتها المنسوجة من قومية الملايو والسيخ والتاميل والصين والشعوب الآسيوية على جدران العمارات - أي والله – معروض الحدث شريطاً سينمائياً على شاشة البنايات المحيطة بساحة مرديكا حيث لا شاشة تسعه ، أفلا أبكي إخوة وأخوات الوطن لمثل هذا الإنجاز ووطني تفر شوارعه، مساجده ، كنائسه ويفر (...) منه مذعوراً ويفر الأنبياء على حد وصف نزار قباني؟



آدم صيام غير متصل   رد مع اقتباس