عرض مشاركة واحدة
قديم 21-03-2006, 01:13 PM   #[36]
عبدالله الشقليني
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي


[align=center]دنيا العقل الباطن (14)[/align]

عزيزنا العقل الباطن :
تحية واحتراماً

أحدثك اليوم عن شُهب الخواطر التي تحصِبنا بها ، وما تفعل بنا :
نُسميها نحن :


( مَخاطِر الخَواطر ) !

وهجٌ أبرق علينا ذات ليلة ، واسمه :
إبراهيم الكامل ( آل عكود )
أتذكر حبيبنا ( عكود ) هنا في سودانيات ؟
نعم ..أنتَ تذكره كجوع البطون كما يقول أهلنا ، هو شقيقه الأكبر .
سمعت رنيناً يهبط من فوق السماء والتقيته ، و ( أجليت النَظر ياصاحي ) ، واكتحَلَت برؤيته العيون . جلست معه جلسة واجِدة ، وتحادثنا عن عوالمك وشُهب الخواطر .
كُنت من قبل قد تَطلّعت لقبسٍ من سِفر إبراهيم الكامل :
{ المدارات والمعابر } . ومن يشتَمّ البعض يُفتتَن ، ويطمع أن ينبسط الرزق .فمن السماء هبطت عليَّ مائدة ، وقد بَخلت على من سألوا الأنبياء عليها من قبل . سُبحان من يُجري الأرزاق على هواه . استطعمت ولم أزل أستقطع لنفسي ما شاء الوقت ، وأقرأ من سِفرٍ في منزلة رحيق عمرٍ ، يعجز العقل العجول أن يستجلي كنوزه . مرحى .. مرحى ، يقول إبراهيم إنه سِفره الأول ! .
قلت له : ـ
ـ فارع الطول أنت ، وتبدو مُشرِقاً . بسمتك ترسم لُطف ملامحك النبيلة . تبدو كأخٍ صدوق يكبُرني فقدته زماناً ثم التقيته.
رد ببسمة وعلى وجهه ما يشبه العِتاب و أرى ارتباكاً لا يناسب ثقل تجربته و عُمره . جلسنا ولم يترك لنا الوهج الذي بيننا مجالاً لنعرف قشور بعضنا . بدأنا بالمِزاح ، وتقلَّبت أنا في نعيم أن يلمس المرء جمال مزهرية مورقة في عُمر العطاء السخي ، فتُفرد من روائحها ، وتمُد إليّ فرح الدنيا نَضِراً .
قلت : ـ
ـ حَدِثني أنت عن الكتابة وخواطرها ، و هواتف الذهن التي تُطاردك ، وتطاردني مثلُك .
قال : ـ
ـ كأنك تقصد خمر الكتابة ، وسُكر اللغة ،فعندما أصفو و أصعد عتبات الخيال الحالِم ، تهبط عليَّ الخواطر هبوط النسور على القوارِض .
قلت له : ـ
إنها خاطرة غريبة الأطوار تعتريني مثلك هذه الأيام .لا وصف لملامحها الشيطانية ، تتملّك الروح والجسد . لا وقت تتخيره هي للهبوط ، حتى نَـزف السماء له مواسم ، لكن تلك الخاطرة تهبط كقَدرٍ استعذبت سكِّينه مواضِع الرخَاوة . تهبط عقلك هبوط ملاكٍ في هِزة كونيةٍ ترتجُ لها الأفلاك ويتمدد الكون ويتدفق في الفراغ السحيق . هذا عسير عليّ . أصحو فجأة من حلمٍ كاد يذبحني وأنا أتخبط من انفلات الروح وقت مُفارقة الجسد . أركل بقدميَّ كأنني أتشبث بالحياة . عسير أن يهوى المرء قاتله ويُكسِر سُنن الحياة في حُب البقاء و كره الفناء .
أتأتيك مثل خواطري يا إبراهيم ؟
تبسم إبراهيم قائلاً : ـ
ـ نعم ..أنت الصادق . كأنك قد وصفت ما بي . أحسست أن الخاطِرة أمر كوني حين تهبط تستوطن ذهني بلا مقدمات . تحُثني لمسك القلم ، وعندما أفعل تسترسل اللغة في نـزف متقلِب الألوان و الملامِح . عجائب تتخلق ، وحين يستعصي الصفاء والود بينها تستعطفني أن تهبُط دون قيد من نُظم أو أخلاق أو عُرف .
عقبتُ قائلاً :ـ
ـ أراك سيدي وأنت في عُمر تجاوز الخمسين ، كنخل فارِع ٍحين تُداعِبه الريح يضحك . فجذوره قد استشرت خيوطها تُمسِك بعروق الذهب في صخر الأرض .أعرف من يقول اترك في جيب سُترتك مُفكرةً صغيرة على الحِمل ، ناعمة رشيقة على الرفقة . فعند هبوط صرخة الخواطر ، انـزع نفسك عن النوم وامسِك القلم واتبِع الأوامِر .
قال إبراهيم : ـ
أذكر في زمان قديم كُنت أعرف سيدة أجنبية تعشق مثل هذه الخواطر ، وتجلس في حضرتها جلوس الطفولة أمام الجَد وهو يقُص من أحسن قصصه التي تُلهِب الخيال . كانت تسترجي القلم أن ينقل الشِعر ، كل الوارد من الذهب اللامِع برياحه الشيطانية ، حتى عبثت تلك الخواطر بذهنها . أسرجت بُراق الأحلام وطافت الآفاق ثم استعصى عليها العودة لعالمنا وتلك خسارة فادحة . كانت مأساة مُجلجلة .كتبت تلك السيدة أسفاراً تُـذهل العقول . ترمي الأحجار في البِرك النائمة ، وتلون أقصان الخيال بألوان الدنيا الساحِرة . إياك يا عبد الله أن تستجيب لتلك الخواطر فتتملكك وتُبعدك عن القريب والحبيب . استجِب قدر المُستطاع ، ولا تُسلس لها قيادك كل الوقت . يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني : ـ
( الخاطرة تُغري بالانفلات ) .
تضرِم نارها حزاماً حولك حتى يستعصِي علينا أن نُعيدك لدنيانا . أنت تعرف الشاعِر إدريس محمد جمّاع ، فعندما تآلف مع تلك الخواطِر سرقت دَنياه ، وسرقته عنا . قبل غيبته الكُبرى نفث غُبار الشِعر ندياً حنيناً دافقاً ، واستغرق محبة لا شواطئ لها . أمطرنا جمَّاع ترياقاً يُقينا شاطحات الخيال ، وغاب هو شهيد سِحرها .
عزيزنا ( الباطن )
كأنك تستمع لحديثي وتطرب ! .
خواطرك شُهب تحصب العقل الواعي . غريبة التكوين ، خارجة عن القوانين وترتيب النُظُم . من ورائها تتفتح أكمام زهر الإبداع . من يُجالسها تُردِفه معها على ظهر فرس جامِح . أجنحته كأجنحة كائنات الأساطير :
السماء زرقاء فاقع لونها .
الأمواه تعلو أمواجها تثب إلى القمر ولا تلحق به .
السُحب كغُبار الندى في ليل طويل بدأ ولن ينتهي .

ونواصل
21/03/2006 م



التوقيع: من هُنا يبدأ العالم الجميل
عبدالله الشقليني غير متصل   رد مع اقتباس