عرض مشاركة واحدة
قديم 20-07-2006, 07:57 AM   #[43]
عجب الفيا
:: كــاتب نشــط::
 
افتراضي

لا» كبيرة جدا في وجه سياسات التوريط والانفعالية!

لو بقيت «مدرسة التبرير» تدافع عن عملية اختطاف الجنديين الإسرائيليين، التي فتحت أبواب جهنم على لبنان، ألف عام فإنها لا يمكن أن تقنع حتى أصحاب أنصاف العقول بأن هذه العملية لم تطبخ في طهران وأنه لم توضع عليها البهارات الأخيرة في دمشق، وأن هدفها ليس مجرد إلزام إسرائيل بتبادل أسرى مقابل أسرى، بل أن المقصود بالأساس هو «توريط» العرب والمنطقة بمواجهة غير محسوبة العواقب من أجل خلط الأوراق وإعادة ترتيبها بما يخدم المشروع الإقليمي الإيراني الذي لم يعد خافيا إلا على أعمى البصر والبصيرة!!

وهنا وحتى لا تبدأ ماكنة الاتهامات بتوزيع إنتاجها شمالا ويمينا لترهيب كل من يضع إشارة استفهام أمام هذه العملية المثيرة للشبهات التي استدرجت كل هذا العنف الأهوج الذي دمَّر لبنان، وأيضا امام عملية غزة المماثلة، فإنه لا بد من تأكيد المؤكد والقول إن إسرائيل دولة مغتصبة وغاشمة ودموية، ولكن في ضوء المعادلات الراهنة القائمة، فإن على كل من يضع نفسه في موضع القيادة أن يعرف كيف يتعامل مع هذه الدولة المغتصبة والمحتلة والغاشمة ويعرف متى يهادنها بدون تفريط ومتى يتحداها بدون انتحار.

لم يفعل «حزب الله» هذا وهو بدل ان يقدر الوضع اللبناني تقديرا دقيقاً ويقدر وضع المنطقة أيضا بالدقة ذاتها ركب موجة المزايدات والمغامرة والتوريط تماشيا مع ارتباطاته وتحالفاته الخارجية، السياسية والمذهبية، فقام بما قام به وهو يعرف تماما أن إسرائيل ستذهب بالشوط حتى النهاية وأنها لن تقبل بلفلفة الوضع على أساس أسرى مقابل أسرى، وأنها لتؤكد أن يدها لا تزال طويلة في هذه المنطقة، ستذبح لبنان من الوريد الى الوريد وأنها ستدمر كل بنيته التحتية وستعيده عشرين سنة الى الوراء.

لكن حسن نصر الله، الذي أصيب بأسوأ حالات الغرور بعد ان حول الدعم الإيراني المتعدد الأشكال حزبه الى دولة مسلحة داخل دولة بلا سلاح، أقدم على ما أقدم عليه وجاء بالثور الإسرائيلي الهائج الى مستودع الخزف اللبناني خدمة للتحالف الإقليمي الإيراني الذي هو أحد أركانه، وهو تحالف من مصلحته ان تختلط الأوراق في هذه المنطقة وأن يتورط العرب في مواجهة لم يخططوا لها ولم يحسبوا حسابها. وعلى غرار ما كان يجري دائما على مدى سنوات الصراع العربي ـ الإسرائيلي الطويل.

لقد كان الثمن الذي دفعه العرب غاليا عندما استجابوا في عام 1967 لنـزوات المزايدين ومغامرات اليسار الطفولي وانجروا الى حرب كانت تريدها إسرائيل ولم يحسبوا هم حسابها بدقة، وكانت النتيجة تلك الكارثة القومية، حيث احتل الإسرائيليون فلسطين كلها واحتلوا فوقها سيناء حتى قناة السويس وهضبة الجولان حتى مشارف دمشق ومزارع شبعا التي اكتشف حزب الله متأخرا أنها منطقة لبنانية فحولها الى مسمار جحا لتبرير الاحتفاظ بصواريخه وأسلحته ولمنع الجيش اللبناني من الانتشار على حدود لبنان الجنوبية بعد الانسحاب الإسرائيلي منها.

في كل مرة يفعل المزايدون والمغامرون والمصابون بمرض الطفولة اليسارية فعلتهم دون ان يستشيروا أحدا، ثم وبعد ان تقع الواقعة وبعد ان يورطوا الأمة العربية في مواجهة ليس لها علم بها يبدأ الصراخ والعويل ويبدأ شتم هذه الأمة «التي لم تهب هبة رجل واحد» لتقليع أشواك لم تزرعها ولتتحمل مصيبة استدرجت إليها استدراجا وجُرّت إليها معصوبة العيون.

لقد جرى هذا في عام 1967 وجرى أيضاً عندما شن صدام حسين حربه البائسة على إيران بقرار فردي لم يُعلِمْ به أية دولة عربية، وعندما ارتكب بعد ذلك حماقة، بل جريمة، احتلال الكويت التي لا يزال العرب كلهم وفي مقدمتهم الشعب العراقي يدفعون ثمنها، بل وسيبقون يدفعون ثمنها حتى عشرات السنين المقبلة.

باستثناء إيران، وربما سوريا، فقد ذهب الشيخ حسن نصر الله الى مغامرة اختطاف الجنديين الإسرائيليين بدون استشارة أو معرفة أحد، حتى بما في ذلك حكومة فؤاد السنيورة اللبنانية التي لحزبه أعضاء فيها وحتى بما في ذلك حليفه الطائفي والسياسي زعيم حركة «أمل» نبيه بري.. وهكذا وعندما وقعت الواقعة بدأ بشتم الأمة العربية لأنها لم تحرك جيوشها وتدخل في حـرب لا علم بها مسبقا وعلى غرار ما حصل في يونيو (حزيران) عام 1967.

لم يُعلم حسن نصر الله ومعه من يقفون وراء مغامرته البائسة أحدا بما قام به، وهو عندما وقعت الواقعة وبدأت آلة الحرب الإسرائيلية بتدمير لبنان من أقصاه الى أقصاه، لجأ كما كان يفعل المغامرون والمزايدون والمصابون بمرض الطفولة اليسارية على مدى أعوام الصراع التاريخي مع إسرائيل، الى شتم العرب وسبِّ خذلانهم واتهامهم بالذيلية للولايات المتحدة والسكوت على جرائم إسرائيل.

لكن حساب القرايا لم يأت مطابقا لحساب السرايا هذه المرة، فقد رفضت الدول العربية الاستجابة لمغامرة حسن نصرالله غير المحسوبة العواقب، وخذلت المزايدين وتجار الشعارات الثورية ورفعت لاءً كبيرة في وجه سياسة التوريط وفي وجه السياسات المرتجلة الانفعالية التي كانت سبب كل الويلات التي حلت بالعرب على مدى حقب الصراع العربي ـ الإسرائيلي كلها!!

وبالطبع وكما هي العادة، فإن الذين اعتادوا ركوب أمواج المزايدات الرخيصة، لم يترددوا هذه المرة أيضا في أن يغرقوا اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي انعقد في القاهرة يوم السبت الماضي، بالشعارات وبدق طبول الحرب والدعوة لقمة عربية طارئة وتفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك. لكن الدول المعنية الجادة أصرت على مواقفها وعلى أنها تعرف الطبيعة العدوانية لإسرائيل، وأنها مع لبنان وفلسطين، لكنها ترفض الانجرار وراء المواقف الانفعالية المرتجلة وترفض تكرار الأخطاء التي أرتكبت سابقا وكانت نتائجها كوارث قومية قاتلة.

لا شك في أن الدمار الذي حلّ بلبنان، وقبل ذلك حلَّ بغزة، أوجع كل ضمير عربي، لكن مما لا شك فيه أيضا أن هذه الكارثة كانت ستتحول الى طامة كبرى لو أن العرب خضعوا لإبتزاز المزايدين، ولو أن سياسات «التوريط» حالفها الحظ وتصرفت الدول العربية المعنية بهذا الصراع والقريبة منه والتي تقف على مشارفه تحت وطأة سياط الإرهاب الفكري بطريقة ارتجالية وغير محسوبة العواقب.

إن ما يفعله «حزب الله» الآن وما تفعله «حماس» خالد مشعل في الخارج، كانت قد فعلته فصائل فلسطينية في عقد ستينات القرن الماضي عندما اتبعت سياسة «التوريط» هذه نفسها بحجة مواجهة ما كانت تسميه سياسة «التفريط» التي انتهجتها بعض الأنظمة. وكانت النتيجة كما هو معروف تهيئة الظروف والمبررات لعدوان يونيو (حزيران)، حيث احتلت إسرائيل في غضون أيام معدودات كل سيناء وكل الضفة الغربية وكل هضبة الجولان السورية.. وفوق ذلك مزارع شبعا التي لا يزال وضعها حائرا بين أن تكون سورية أو لبنانية.

لقد سمعت مـن صلاح خلف (أبو إياد) شخصياً، وكان صديق سابق أعتز بصداقته، أنه سمع البلاغ العسكري رقم «1» بالنسبة لحرب يونيو (حزيران) عام 1967 عندما كان مع ياسر عرفات، رحمهما الله، ومع فاروق القدومي (أبو اللطف) على الطريق بين دمشق ودرعا.. ولقد وصف بدقة فرحتهم العارمة بإندلاع الحرب التي بقوا ينتظرونها منذ قيام دولة إسرائيل قبل ذلك التاريخ بنحو عشرين عاماً.

قال أبو إياد مما قاله إنه كان لا بد من تحريك الوضع العربي الراكد، وانه كان لا بد من دفع العرب دفعا الى المواجهة مع إسرائيل بعد ان طال صمت الجبهات، وبعد ان غدت القضية الفلسطينية بحكم المنسية.. لكنه رحمه الله لم يتردد لاحقا في الاعتراف بأن سياسة «التوريط» تلك كانت خاطئة، وأن استدراج الأمة العربية الى حرب قبل أوانها كانت نتيجته كارثية وخاصة بالنسبة لفلسطين والشعب الفلسطيني.

الآن يقوم «حزب الله» ومعه الشق الخارجي من «حماس» ومعهما إيران وبعض أصحاب الأصوات المرتفعة من العرب بالشيء نفسه، ولكن ليس بنظافة وحسن نية ما قامت به المقاومة الفلسطينية في بدايات انطلاقها.. الآن هناك محاولات لإقامة معادلات جديدة في هذه المنطقة، ولذلك فإن هدف سياسة «التوريط» التي يتبعها المغامرون وتجار الشعارات الثورية ليس إذابة الجليد عن القضية الفلسطينية كما في سنوات عقد ستينات القرن الماضي، بل تمهيد الطريق لتصبح طهران الرقم الأساسي في معادلة هذه المنطقة.

* صالح القلاب

جريدة الشرق الاوسط الخميس 20/7/2006



عجب الفيا غير متصل   رد مع اقتباس