عرض مشاركة واحدة
قديم 25-04-2007, 10:36 PM   #[1]
جمال محمدإبراهيم
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية جمال محمدإبراهيم
 
افتراضي أماديوس ُيستنسخ لبنانياً . .


أماديوس ُيستنسخ لبنانياً . .

[align=justify]الجمعة 20 نيسان/ أبريل 2007 ، تاريخ يسجل في الذاكرة اللبنانية بحبر الذهب وقلم الخلود . حين حدثني هنري زغيب ، الشاعر اللبناني الكبير ، يدعوني لحضور أمسية بيروتية لأوبرا إستثنائية ، قلت لنفسي هي دعوة و سألبيها بحكم الصداقة ، و بسبب إهتمامي ورغبتي في الإطلاع على فن ٍ راق ٍ لم يتح لي ، على كثرة تجوالي الدبلوماسي بحكم المهنة ، في القرية الكونية ، من أن أمتع بصري وأذني بروائعه. .ولكنه أضاف :إنها أول أوبرا بالعامية اللبنانية المحكية ، ولعلها أول تجربة من نوعها تستنسخ موزار ،عربياً .
في حبكة كوميدية بسيطة ، تتناول الأوبرا التي كتبها في الأصل بالفرنسية ، جان جاك روسو، قصة فتاة عاشقة إسمها بستيانة ،يهجرها حبيبها ، ولكن يعيد الساحر بذكاء المياه إلى مجاريها بين العاشقين ، وذلك عبر إثارة مشاعر الغيرة لدى الفتى "بستيان" تجاه فتاته "بستيانة "، حين أوهمه الساحر "كولاس" أنها متيمة بفتى آخر . الموسيقى التي وضعها موزار ليست بتعقيد أعماله اللاحقة بالطبع ، فهي مشوبة بروح طفولية مرحة . الفتاة تغني بصوت "السوبرانو" الرفيع بما يعكس رقة الأنثى ، و الفتى بصوت "التينور" الأوسط بما يشي بالقوة والرجولة ، أما الساحر فصوته على "الباص" الرخيم القوي المهيب ، ( أم هو "الترعيد" ، كما جاء من ابن سينا ؟). يعود تاريخ عرض هذه الأوبرا غير المعقدة ، في أحد مسارح باريس ، إلى عام 1752 م ، أي قبل ميلاد وولفغانغ موزار بعامين. ويقال أنّ سفيرا لجينوا في فيينا ، تحمس للقصة الموسيقية ، وشجّع ممثلا محترفاً لترجمتها إلى اللغة الألمانية في عام 1764 . لكن الذي عرضها على الصبي موزار، والذي لم يتجاوز عمره إثني عشر عاماً ، هو الدكتور "مسمر" مكتشف التنويم المغناطيسي وصديق "ليوبولد موزار" ، والد وولفغانغ موزار .
الغريب أن الأوبرا غابت بعد ذلك في طيات النسيان ، و لم تخرج من أضابير التاريخ الموسيقى إلا حين بادرت فرقة أطفال روسية ، بعرضها في سنة من سنوات الخمسينات من القرن الماضي في موسكو. الآن هاهوموسيقار عبقري هو فازليان و شاعر مجيد من شعراء العربية الكبار في لبنان يتناول القصة ، و يصوغ كلماتها على نبض موسيقى وولفغانغ أماديوس موزار. لقد رعت الأوركسترا السمفونية الوطنية اللبنانية هذا العمل ، و كانت مجازفة حقيقية وتحد ٍ كبير بلا شك. التجربة غير مسبوقة ، إذ ظللنا نتابع هذا النوع من الفن دون أن نجرؤ في الشرق العربي أن نحاكيه أو نبدع على نسقه ، أعمالا موسيقية غنائية ، وظني أنه لم يكن من المستحيلات . عرفنا الأوبرا ، وسمعنا كيف عُرضت باليه أوروبية عند افتتاح قناة السويس . غير أني أقف ملياً عند الصياغة باللغة العربية المحكية التي أنجزها بجهد خارق الشاعر هنري زغيب . لم يكن يستنطق تجربة أوروبية غربية محضة ، بل هو استنطق تراثاً عربياً قديماً ، على نحو ٍ ما . لعل الشعر العربي كله و منذ بداياته كان محكياً شفاهياً ُينشد ، و لم يكن نصاً مكتوباً يقرأ . ولربما أيضاً أجد في تاريخ الغناء في العصر العباسي إشارات قوية على شعر تحاكيه الموسيقى ، وخرجت أعمال كبيرة وأصوات ومغنون و مغنيات . كان ابن سينا أول من رأى في الموسيقى علاجاً للنفس وهو الفيلسوف الطبيب ، و لكن أتت علينا فترات من التاريخ وكأنا تنكرنا للكثير من المبهرات في ثقافاتنا ، وآثرنا التراجع بما أوحى وكأن الفساد كله هو في الغناء أو الرقص أو الإنشاد .
يجيء إلى خاطري مقال احتفائي كنت قد نشرته في صحيفة "السفير" في شباط هذا العام 2007 م ،عن كتاب ٍ خطه يراع الكاتب والسفير السوداني الراحل محمد عثمان يسن ، وعنوانه " باليه الشاعر " ،وقد صدرت طبعته في بيروت عام 1965، أخرج فيه سيناريو كامل للقصيدة الشهيرة التي صاغها الشاعر الراحل، بشارة الخوري( الأخطل الصغير )، في رثاء أمير الشعراء أحمد شوقي :
قِفْ في رُبَى الخلد ِ واهْتِفْ باسْم ِ شاعِره ِ
فسِدرَة ُ المُنتهَىَ أدْنىَ منابره ِ

ومما جاء في المقال ، اقتطف هذه الفقرة :
(( ..ولقد وجدت في "باليه الشاعر" ، أن القراءة الموسيقية الراقصة لقصيدة الأخطل الصغير ، هي من القراءات الذكية ، التي رمت ْ إلى أن تسبغ على الشعر العربي بعداً جديداً ، فيكون مرئياً مثلما هو مسموع . و يورد المؤلف السوداني محمد عثمان يسن مصيباً ، أنّ الشعر العربي ، نشأ في منتديات و حضور مسرحي ، كما كان حال الشعراء الفحول قبل الإسلام ، ينشدون في سوق عكاظ . لعلّ الشعر العربي في بداياته كان هو الأقرب إلى التجسيد المسرحي ، بأكثر مما أتيح للشعر الغربي أن يجسد قصة روميو و جولييت و بحيرة البجع ، كمثالين في البال . .))
وإنه لمما يؤسف له ، أن الباليه الذي اقترحه السفير يسن ، في سنوات الستينات البعيدة من القرن العشرين ، لم ينجح في إخراجه على خشبة المسرح ،من تحمسوا له في ذلك الزمان البعيد ‘ وإن راقت الفكرة لأساطين فن الباليه في مسرح البولشوي الشهير في موسكو ، فترجموا الباليه المكتوب إلى اللغة الروسية .
عرفنا بالطبع، فن الأوبرا و الأوبريت ، و الأخير هو الذي ألفته العين و الأذن الشرقية ، ربما بسبب بساطته ومواءمته للمزاج الثقافي العربي العام الذي يختلف عن المزاج الغربي الذي أنتج الباليه و الأوبرا ، بما يوافق الذوق الغربي . في مصر عرفوا الأوبريت عند سيد درويش ،كما انتشر في مصر المسرح الغنائي الإستعراضي بصورة واسعة . في لبنان برع الرحابنة في مخاطبة المزاج الشرقي بأوبريتات رائعة .
ثمة تجربة أخرى جديرة بالوقوف عندها وهي أوبريت ابن سيناء الذي قدم في العاصمة القطرية ، الدوحة في أكتوبر من عام 2003 م ، ولقد كانت تجربة لأوبرا عربية شارك فيها مغنون من دول عربية عديدة ، كارول سماحة ، عفاف راضي ، لطفي بوشناق ، غسان صليبا و فنانون آخرون . أخرج العمل الصعب مخرج ايطالي بريع وضليع في هذا الفن .
ولكن تجربة " أوبرا بستيان وبستيانة" لولفغانغ موزار ، و بالصيغة العربية التي أشرف عليها الموسيقار الدكتور وليد غلمية رئيس المعهد الوطني العالي للموسيقى و القائد الرئيس للأوركسترا السيمفونية ، ، تمثل تجربة مميزة واستثنائية ، كون اللغة التي صيغت بها الأغاني المصاحبة للموسيقى التي وضعها موزار ، جاءت باللغة العربية المحكية في لبنان . ليس ذلك فحسب ، بل نقلت الفرقة الموسيقية بأمانة بليغة ، روح موزارالتي سكبها في هذه الأوبرا البسيطة البديعة ، وهو في سن الثانية عشرة ، ليس أكثر .
لعل الناحية المهمة في هذا العمل الذي شهدناه في كاتدرائية مار يوسف ،أمسية الجمعة ، هي في المغزى العميق الذي انطوى عليه هذا العمل الإبداعي الجميل ، لكوننا نتقاسم باختلاف حضاراتنا ، و تنوع ثقافاتنا ، قرية كونية صغيرة . و بفضل ثورة المعلوماتية و شمول ثورة الإتصال ، فإن سبل التواصل الفاعل بين الثقافات صارت ميسورة ، والحوار بينها أضحى ممكناً و متاحاً.التراث الإنساني هو ثروة للبشر لا تقدر بثمن . لكن الإستثنائي في الحقيقة ، هو أن تتخلل لحناً وضعه موسيقار عظيم مثل موزار قبل أكثر من مائتي عام ، كلماتٌ عربية ٌ محكيةٌ ٌ ، توازي اللحن علواً وهبوطاً ، إرعاداً ورقة ً ، صاغها شاعرٌ مجيد ، رصين ُ النظم بالفصحى ،مثلما هو رصين في نظمه باللبنانية المحكية ، الصديق الشاعر هنري زغيب . وإني إذ أزجي إليه إعجابي بما كتب ، أقترح عليه أن يمضي في صياغتها بلغة عربية فصيحة ، وسينجح بلا مراء ، في تطويعها على لحن موزار ، بمثل نجاحه في تطويع المحكيّ اللبنانيّ عليه . الحاذق وليد غلمية و القائد المايسترو فازليان و الفنانة سنتيا سماحة (بستيانة) و المغني زياد نعمة(بستيان ) والمغني توفيق معتوق(الساحر ) ، سيكملان الإبداع ليحلقوا بنا ثانية ، مثلما حلقوا بنا إلى سموات بهية تلكم الجمعة السعيدة .. في كاتدرائية مار يوسف .

بيروت -22 أبريل/نيسان 2007[/align]



التوقيع: http://sudanyat.org/maktabat/gamal1.htm
مكتبة السفير جمال محمد إبراهيم
جمال محمدإبراهيم غير متصل   رد مع اقتباس