عرض مشاركة واحدة
قديم 28-03-2013, 05:23 PM   #[18]
حافظ حسين
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية حافظ حسين
 
افتراضي دمعة اليمين

دمعة اليمين
رغم أن الفقيد من سلالة البشر المحمية بايلوجيا من مخافر الشرطة و أضابير الآمن و لكن جدلية سيد الرايحة و خشم البقرة جعلت ذويه يبحثون عنه في الأقسام.... كل محاولات العثور عليه في مستشفيات و مشارح العاصمة و الأقاليم باءت بفشل كبير, نُقبت الخيران و مقالب القمامة و أُرسلت الاشارات لكل سكان شريط النيل, من الخرطوم بحري حتى أسوان ولكن دون جدوي.... محاولات البحث جميعها أتت بغموض جديد و كل الأسئلة قادت الي شكوك مُفزعة. فعندما سئل الصبي الذي يساعده في اعادة ثياب التوتال الي أماكنها في الرف بعد فصلها عن ثياب البوليستر و الهزاز, أو رص العطور الباريسية فخر الامدرمانيات بعيداً عن العطور الأخري و الخ من أعمال...., عندما سئل هذا الصبي كان رده:
(و الله خليته قاعد هنا... رسلني شركة زين عشان اسدد فاتورة التلفون جيت لقيت الدكان فاتح و هو ما في....), و يدعم نظريه عملياً بإخراج ورقة من جيبه فارداً إياها في أوجه السائلين مردفاً ( و أها دي الفاتورة....) , و لكن الشرطة تحفظت عليه رغم فاتورته, كما تحفظت علي بائعة الشاي محاسن التي تجلب له القهوة المعده خصيصاً لتنظيف بطنه من كحول و مزة الليلة السابقة, و تواصل تحفظ الشرطة حتي وصل أناس فقط يعرفون عبدالعزيز المختفي و يفتقرون السند الكافي لحمايتهم..... كل محاولات البحث كما ذكر آنفاً لم تأتي سوي بشك جديد, فذويه رموا جانباً آمل العثور عليه حياً و لكن حيرتهم كمنت في كيفية نصب سرادق العزاء و توزيع الورثة و الجثمان لم يدفن أو يعرف مكانه بعد ... في هذا الظرف المشحون حيرة و عدم حيلة غامت السماء و بدلاً عن المطر تفتق عقلها عن أعصار كتريني كنس المدينة من أكياس القمامة و النايلون, الباعة المتجولون و درداقاتهم, أطفال السلس بأثمالهم, و كل ما هو فائض أو غير ذي نفع..... سكنت المدينة بعد إنتهاء الاعصار سكون القبور سوي من أزيم طبل خفيض يضرب عليه المفقود عبدالعزيز الذي لم يكن له سابق علاقة مع أي مجموعة دينية... ظهر في هيئة أبلغ وصف لها انها ميلودرامية, فعوضاً عن جلابية السكروتا كان يرتدي مقلوبة الدراويش المتسخة و متعددة الألوان, حازماً وسطه بالفية اللالوب المعروفة, تنبعث منه رائحة الموتي بدلاً عن عطر الجلدا الأصلية, من عنقه يتدلي شريط متسخ غير معروف لونه الأصلي منتهياً بطبل مجلد من الجانبين, لم يحظ أحد بكلمة منه تشفي فضوله أو غليله حول غيابه الغرائبي الذي إستمر سبعة أيام بلياليها و أكثر ظهوره الأشد غرابة أمام دكانه بهذه الهيئة, لأنه ببساطة فقد عادة التواصل مع البشر و كل ما ينطق به منذ مجيئه ضارباً علي الدف:
(دموع الدراويش .... دموع الطير
دموع الدراويش.... عقبها السيل)
تضاربت المشاعر و تداخلت حول ظهوره بهذا الشكل الجديد, أحاسيس كانت مزيج من العطف, الحزن, الاستعداد للمساعدة, و الدهشة, و لكن لم يخطر ببال أحد الشماته, هل لأن عبدالعزيز كان من أعيان البلد المحترمين مجتهداً في صلاة الجمعة و أكثر كله إصرار علي تشمييع كبده كل ليله, إضافة الي خروقات إجتماعية يرتكبها كل الرجال المتزوجيين في سنه, أم انهم خائفين ان يشفيه الله و يبتليهم عما قريب؟ لكن ما علينا....المهم فريق المساعدة بعد مناقشات طويله و دائرية توصل الي ضرورة تسفيره الي شيخ ابو عصا في أم رحي و لكن لدهشتهم قُطع عليهم الطريق بواسطة مسيرة من الدراويش يقودها ابو عصا ذات نفسه مرددةً شعار عبدالعزيز الواحد الأحد:
(دموع الدارويش .... دموع الطير
دموع الدراويش عقبها السيل)....
و لحظتها إقتنع القوم بالصبر و الرضا بالمقسوم, عوضاً عن البحث عن علاج لعبدالعزيز, ذاك التاجر الذي ليس له ما يميزه عن بقية أضرابه الكثير, يفتح دكانه الصباح و بمساعدة أحد الصبية (صبي تاجر), يرتب بضاعته, يطلق البخور الطارد للذباب و الجالب الزبائن, يتغزل في مؤخرة محاسن بائعة الشاي... و يستمر الروتين الي أن يأتي أحد المجانين قائلاً: (يا عبدالعزيز أمسك العجل من الفجل), يبتسم المنادي و ينقد المجنون عدد واحد جنيه لا غير.
في يوم الاختفاء لا أحد يدري لماذ فقد عبدالعزيز روتينه و وقاره, و بدلاً عن نقد المجنون مبلغ الجنيه نظير جملته المكرورة, زجره بعبارات بذئية و حاول لطمه لكن كف كالكماشة قوتها لا تتناسب و هزال صاحبها أمسكت بيد عبدالعزيز الذي تحول غضبه الي دهشة و إزدادت حيرته حين رأي بريق قاتل يشع من عيني المجنون, قبل أن يتعالج من دهشة البريق غامت عين المجنون اليمني و أغرورقت و دمعة يتيمة تدحرجت مقاومة تغضن وجهه و إتساخه, بينما العين اليسري تحدق فيه بغضب كتيم, لحظة ارتطام دمعة العين اليمنى بالأرض دفعه المجنون برفق و تدحرج في المجهول و الدمعة متدحرجة في أثره و حجمها يزداد طردياً مع المسافة المقطوعة في الفراغ..... عند وصول حجم الدمعة المتزايدة بفعل الزمن و المسافة مقدار إحتواء الكائن المتدحرج أمامها, نبلت الي أعلي قليلاً حتي وازت رأسه و برفق انبثقت و أحتوته و أعادت التئامها.... واصل عبدالعزيز التدحرج داخل كيس الدمعة الذي تحول الي سائل اميني حامياً أياه من ضربات الإجسام الصلبة التي قابلته في رحلته .... بعد زمن من الطيران ارتطم الجسم بالأرض, انفقأ الكيس و صرخ عبدالعزيز ثلاثة مرات و عرف من هو...................
علي مد البصر امتد جرف فجل غير منتهي الخضرة يتوسطه مبني أبيض شبيه بالقبة لكن بثلاثة واجهات ملساء و مطربش عند نهايته بثلاثة جرائد نخل كل منسدلة علي واجهة.... أخذ عبدالعزيز يجول ببصره في خضرة الفجل الغير منتهية و عندما تتعب عيناه أو تمل الخضرة يركز في المبني.... بينما هو في حال كر و فر بصري آته صوت كأنه خارج من بئر, صائحاً: ( يا عبدالعزيز أمسك العجل من الفجل)..... ومن المبني الأبيض خرج رجل لحيته تصل الي ما بعد سرته, عيونه بلون الظهر, أمسك بعجل معقوف القرن كما الهلال و رده إلي الفراغ..... مرة أخري الصوت نادي (يا عبدالعزيز أمسك العجل من الفجل), و رجل أخر كأنه نسخة من الأول لولا قصر قامته قام بنفس الفعل, عندما تكرر الأمر حتي وصل النداء الرابع, واتت عبدالعزيز الذي لم يزل جالساً علي غشاء الدمعة الذي أصبح مثل الفروة بعد أن جففته الشمس, واتته بعض الشجاعة وسأل الرجل ماسك العجل:
أين أنا؟
لدهشته لم يندهش المسئول من السؤال و لا عن وجوده و إنما رد كمن يجيب علي هذا النوع من الأسئلة يومياً:
انت في بلاد ست نور حلالة المكجور؟
و من هي ست نور؟ هكذا أردف عبدالعزيز سائلاً
نور الصالحين ...... روابة المكدورين؟.... هذا كان رد ماسك العجل...
عبدالعزيز: و ما هذا الفجل؟
ماسك العجل: أنه فجل الرب لوقت الجدب ......
أي إجابة تزيد حيرة عبدالعزيز, لكنه لم يتوقف كأنما لسانه ينطق دون اشارة من المخ.... واصل الأسئلة والمسئول يجاوب بشكل آلي, واصل حواره:
إني تركت ملة قوم يأكلون الطعام و يعاقرون الخمر ... فيا سيدي هل ترجعون؟
ماسك العجل: السيد سيد الأمانة لا يرضي ذل أو إهانة ..... لماذا الرجوع و أنت تخون الكون في رابع أقطابه..؟
عبدالعزيز: أرجعون لعلي أصلح ما فيه قد أخطأت......
هز المسئول رأسه إشارة أن ليس لديه ما يقوله ودخل المبني يحجل ......فجاءة سمع عبدالعزيز نداء الآذان المعروف لكن خلفيته أجراس كنيسة و ترانيم آخري. في إتجاه الصوت سار كمن يمشي نائماً علي سحابة لم يتكثف ماءها بعد و أتخذ مكانه في المعبد, لم تمر لحظات حتي صاح صوت نسوي رخيم ب: (إستوا يرحمكم الله)....و علي إثر الإستواء المعلوم أخترق أحد جدر المبني صقر ذو منقار فضي, و ريش ازرق لامع مثل ريش ديك وصل سن المراهقة...نفض جناحيه و إذا هو المجنون الذي هم عبدالعزيز بضربه, كبر و صلي بالأقطاب إماماً. حين أنتهائه جلس عبدالعزيز في جانبه علي إستحياء راجياً منه المسامحه و إرجاعه الي ذويه و أهله و عندما الح في الطلب أمره بإغماض عينيه و ما هي الا لحظات حتي وجد نفسه أمام دكانه متبأطاً النوبة منشداً نشيده الأوحد كما إختفي درويش أو مجنون ذاكرة المدينة الي الأبد.

أنتهي



التوقيع: أرجوحة الحياة لا تحمل راكبها إلى أبعد من طرفيها: المأساة والمسخرة

مريد البرغوثي
حافظ حسين غير متصل