عرض مشاركة واحدة
قديم 01-06-2006, 09:06 AM   #[1]
جمال محمدإبراهيم
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية جمال محمدإبراهيم
 
افتراضي حان أوان الذهاب . .(قصة قصيرة )

[align=justify]
[align=center]حان أوان الذهاب . [/align].
( 1 )
" براون " . . ماذا تريد ، بعد ، من هذه الدنيا . . ؟
كان يسأل نفسه هذا السؤال كل صباح تشرق فيه الشمس خلبا في ضاحية "صري" ، إلى الغرب من لندن ، فلا يكاد يستجلي الإجابة الشافية ، التي تطفيء نار التطلع و الإكتشاف . اليوم بداية عطلة الأسبوع . يعرف أن إبنه " كريس " - كعادته - سيمضى ليلته بعيدا عن بيت الأسرة الصغيرة في " صري " . يحسب الجدّ العجوز " براون " نفسه ، جزءاً من هذه الأسرة الصغيرة ، و ليس مخلوقا زائداً ، بعد أن تجاوز عمره الثمانين عاما ، و أصبح يوما بعد يوم ، يراوح في وحشته ، وحيدا مثل شجرة برية ، لا تكاد تكيّف إنتماءها للمزرعة المحيطة بالمنزل المترامي الأطراف ، مثل غيره من بيوت الريف الإنجليزي . "براون" عجوز مثير للعجب . يماثل إعتماده على نفسه بطريقة عشوائية ، إعتماد الشجرة البريّة على ما تجود به السماء من مطر الرحمة ، و ما ترسله التربة الضنينة من غذاء ، يسري في العروق الشائخة ، فلا يسمن أو يغني أو يحيّ الأوراق المصفرة . كلا لم يكن " كريس " – مع حرصه على الإهتمام بزوجته " إليزا " و إبنه " جيم " – يبدي أقل التفات إلى أبيه " براون " . بعد سنواته الطويلة هذي ، ليس ل " براون " إلا أن يستسلم لإهمال ٍ راتب ، و إغفال ٍ مؤسس ، و تجاهل ٍ يليق فقط بالأشجار البرية أو النباتات الفطرية ، التي تتخلق بلا مبررات ، بلا حيثيات . لا معنى لوجودها ، و لا مغزى في استمرار بقائها على هذا النحو المستفز ّ، الذي يجافي النظم و النواميس ، و يقترب من خلود غيبي ، لا يؤمن به أناس من شاكلة إبنه " كريس " و زوجة إبنه الغريبة " إليزا " .
- هيا يا "جيم" . . أعرني أذنيك ! دعني أكمل لك قصة ذلك المصري المجنون الذي كان مفتشا للقطارات بين بورتسودان و أركويت . . هل سمعت بهاتين المدينتين من قبل . . ؟ هما في شرق السودان . .
لم يبق ل"براون" غير حفيده "جيم" ، يلقي على أسماعه بحكاياته الشائقة عن مغامراته الطريفة ، في المناطق النائية في أفريقيا . يسمع "جيم" أسماء أماكن و بلدان ، لا يجد لها معنىً في قاموسه الجغرافي البسيط . لا تماثل حكايات جده إلا تلك القصص التي حكاها لهم مدرس الجغرافيا في المدرسة عن " ليفينجستون" : رجل مغرم باكتشاف الأصقاع البعيدة ، حيث يعيش أناس مختلفون ، يأكلون طعاما غير مستساغ .. يسكنون بيوتا بنوها في الغاب ، مع الكواسر ، أو هم في خيام يضربونها في الصحراء ، مأهولة بالثعابين و الثعالب و الذئاب غير البشرية .
دائما ما يختفي "كريس" و "إليزا" ، إلى مخابيء مريبة ، في عطلة نهاية الأسبوع ، تجمعهما مع أناس آخرين يشبهونهما في كل شيء : في الهندام .. في احتساء النبيذ بلا حدود . . ثم في التبرم من الأشجار البرية ، التي تشمخ في اعتداد ، في المزارع الخضراء ، و قد انقضت أعمارها الإفتراضية ، و تثاءبت العصافير فوق أغصانها العجفاء ، إذ لم تعد هنالك من ثمار تؤكل ، أو من رحيق يثير السقسقة و يستدعي الغناء . لكنهم يتبرمون منها . .
- هيا . . أعرني أذنيك يا "جيم". . !
و يفتح الساحر صندوقه ، فتطير الحكايات عن الأمكنة النائية تباعا . ثمة سحرة يدلفون إلى القصص فتتلون بمناديلهم . ثمة وحوش و كواسر . ثمة أنياب تنهش و أظلاف تركل . ثمة نساء طيبات و رجال فاسدون . ثمة مصريون في محطات بعيدة ، عند "هيا" ، في تلال البحر الأحمر . ثمة مهاجرون قادمون من أصقاع السافانا ، فيما وراء غرب السودان . ثمة سودانيون سمر يتحدثون العربية و آخرون يتحدثون الإنجليزية ، بمثلما تجري على ألسنة الإسكتلنديين . ثمة آخرون ، قادمون من أمكنة لا يعرف لها أسماء ، يلغزون بألسنة ، لا عربية و لا إنجليزية ، رطانة محضة .


(2 )
قال "مختار" محدثا نفسه : ماذا تريد مني هذه الدنيا ؟ لقد خبرتها و خبرتني . أتلفتها و أتلفتني . بعتها الهواء ، فباعتني الخواء . جبت الفيافي و القفار ، وظفرت بصحبة بريطانيين ، أفدت منهم خبرة في تسيير السكة الحديد ، و قد كانت عصية علينا ، أول أيامنا . ثم في آخر المطاف، ما لي من مكان غير الخرطوم . أواه من "خرطوم " هذا الزمان . ليست هي الآن المدينة التي عشقنا في سنواتنا الغابرة : يا "حليل " الإنجليز. . !
يهمهم إلى نفسه ، و يحرص أن لا تفلت همهمته إلى أذن خائنة . كان في سنوات صباه عاشقا للخرطوم ، يستنشق في شارع فيكتوريا ، هوائه المنعش . . يتمخطر بالشورت الخاكي و القميص الأبيض الحليبي ، فيحسده ، على تقليده ملبس الأفندية و الإنجليز ، الباعة أولاد البلد في الحوانيت المطلة على " ميدان عباس " . لم يكن هنالك من تزاحم في الطرقات . كان السوق ، بضعة حوانيت تباع فيها الفاكهة و الخضر و الملبوسات . . والمسجد الجامع يتوسط الميدان ، شيده " ملك مصر و السودان " . . ثم هناك " مقهى الزيبق" . بعيداً منه ، بضعة مساكن بالآجر ، بناها إنجليز و شوّام و تجار من "أولاد الريف" . . تمتد على طرقات ، شقت على نسق علم الإمبراطورية . ثم السكة حديد ، مهيبة في إطلالتها البعيدة على "سراي" الحاكم العام .
لا يكاد يوسف أن يصبر للإستماع إلى حكايات والده "مختار" . لا يطيق أن يرى التاريخ يجالسه صباح مساء ، إذ هو لم يكن في الأصل من عشاق التاريخ أو الجغرافيا ، و لم يكن يحذق إلا الرياضيات ، فأكمل تعليمه الثانوي ، ليصير محاسبا صيرفيا مجيداً . أما التاريخ فلا . الجغرافيا ؟ تلك علوم و أمور يرى في الإنسياق وراءها مضيعة للوقت ، و إهدارا للمواهب ، فيما لا يفيد . ما كان يطيق قصص والده عن "أيام الإنجليز" . لا يخفي تبرما من الحكايات ، لكنه يدفع بأبنه "سامي" و يشجعه تشجيعا وثيقا ، للجلوس و الإستماع إلى جده "مختار" ، فلا يقدر الصبي على المقاومة ، فيصابر مستمعا ، يؤنس وحشة جده في "الخرطوم تلاتة ".
- أجلس إلى "السردار" يحكي لك حكايات لن تملّ سماعها ، يا فتى . إن لم يكمل لك حكاية المصري الساحر ، في المحطة بين "هيا" و "سنكات " ، فلن تظفر بإجازتي لك للإستمتاع باللعب مع أقرانك في الحي ، و إني أعرف غرامك بذلك !
" مختار السردار" ، ذلك كان اللقب المحبب الذي ينادي به يوسف أباه ، و قد سمع به من أقران أبيه في إدارة السكة الحديدية ، قديما قبل إستقلال البلاد عن بريطانيا . لا يصرّ يوسف على إجبار "سامي" على الجلوس و الإستماع لحكايات العجوز ، إلا لأنه لا يرغب في السماح لإبنه بالخروج مبكراً للعب مع الأولاد في الحي . .
- هيا يا "سامي" ، أحضر لي كرسي القماش . رتب لي جلستي ، و قل لل"حاجة " أن تعد قهوة تركية لجدك ، ثم أعرني بعدها أذنيك أيها الفتى . عندي لك قصة جديدة ، بطلها هذه المرة "مستر براون" . .الداهية "براون". . !
و لم يكن سامي مهتما بنيل الجائزة التي مناه بها جده .
"السردار" قابع في الدار ، مثل شجرة سنط راسخة الجذور ، ضاربة في عمق الأرض ، سامقة ممتدة الأفرع ، ترى الغرف صغيرة متحلقة حولها . "يوسف" و "صالحة "و الصبيان ، هم قطط و هررة ، تمؤ تحت ظل شجرة السنط . للشجرة وجود محسوس . يحترمها أهل البيت ، فوق حبهم لها . ليس في غابة الخرطوم شجرة في مثل عمرها ، تترك مهملة . . شجرة سنط كانت أم شجرة نيم ، سروة كانت أم نخلة . حتى العشوائي من الكائنات ، يجد له مكاناً في الإنتظام و في الإهتمام . حتى الضحكة ، تجد الفم الذي ترتسم عليه ، حتى الدمعة تجد الخدّ الذي تتحدر عليه حزناً ، حتى النبض العجوز ، يجد القلب الذي يطرب في أنحائه .
جلس "سامي" القرفصاء و قال :
- هيا يا جدّي . . أحكِ لي . . !
و استدار "السردار" إلى جرابه يفحصه . أدخل كلتا يديه منقبا . يعرف أنها لن تخرج خالية . هنالك دائما القصص الذهبية . الحكايات الفضية . النوادر البرونزية . الأبطال الذين دائما ينتصرون . السحرة. . و دائما يلتقون حكاياتهم . خط السكة الحديدية ، دائما تسير عليه القاطرات ، بلا كلل . في كل رحلة حكاية بلون الذهب . حكاية بلون الفضة . حكاية بلون البرونز . السحرة عادة يتجولون في الخلاء بين محطة و محطة . فيهم عمال " الدريسة ". ثمة مفتشون يسكنون الفيافي ، تؤنس وحدتهم قطط و أرانب أحيانا ، و أحيانا أخرى يجالسون المفترس من مخلوقات الله . يتبادلون النكات و حراسة بعضهم بعضا . ثمة محطات تجتازها القطارات ، و لا أحد فيها . ثمة مفتشون إنجليز . . لا يأبهون للمخاطر . ثمة رجال دهاة ، فيهم واحد إسمه مستر "براون" . ذلك رجل ليس مثل الآخرين ، فيما يحكي "السردار " لحفيده "سامي" . .
[/align]


ونواصل .....



جمال محمدإبراهيم غير متصل   رد مع اقتباس