الموضوع: ريموت ثورة
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-10-2013, 07:52 PM   #[2]
هاني عربي
:: كــاتب نشــط::
الصورة الرمزية هاني عربي
 
افتراضي

رغم تميّزهِ بموقع متميّزٍ وثرواتٍ غير محددة لو توفر بعضها لبلَدٍ آخر منذ خمسين سنة فقط لأصبح اليوم دولةً عظمى تنافس أعرَقَ الأمم. ولكن السودانِ بعد 57 عاماً منذ إعلانِ الاستقلال أن يكون مجرّد أضحوكة بين الأمم. لماذا؟ استأذنكم أن ندعَ نظرياتِ المؤامرة جانباً لنبحث في قلب المأساة. هل يمكننا أن نبدأ البحث في نفوسنا؟ استقل السودان وهو يمتلكُ اقتصاداً واعداً وتديره خِدمة مدنية متينة ونظاماً تعليمياً سليماً؛ لكن الخطأ بدأ باستقلالٍ ناقص لم تحسم قبله كل الملفات؛ مثل الحدود مع مصر ووضعِ جنوب السودان ومشاكل أخرى عالقة.
استلم السودانيون التركة البريطانية وواصلوا إدارتها بأسوأ طريقة ممكنة بداية بمشكلة الجنوب وانتهاء بإدارة هيئة سكك حديد السودان وبدأت الأمور في التدهور عاماً بعد عام. وكلّما ضعف السودان والسودانيون وجدت الجارة مصر مدخلاً لمزيد من التدخل في شئون السودان، ولم يكن ذلك أبداً لخير.

راوغ الساسة السودانيون شعب الجنوب وحرموه من كل حق وعدوه به ونظروا إليه نظرة استعلائية عنصرية أعلنها بعضهم وأسرّها آخرون ؛ ونظروا إلى الجنوب بعين محمد علي باشا وجندوا له الجيش الذي استمر – بكل إخلاص - في تنفيذ برنامجه لغزو السودان؛ واحتقر الساسة المسيطرون كل ثقافات وموروثات الشعب السوداني ، بل ووصل الأمر إلى مساهمة سياسيين مستلبين يحتقرون أنفسهم وأهليهم - ويَهربون من ذواتهم - في تخريب الموروث التاريخي للبلاد. وانفصلت النخبة السودانية عن الشعب واستمروا في النظر إليه كمجرد مجموعة من السذج أو كأداة للوصول إلى مطامعهم وطموحاتهم الشخصية جداً؛ وقاموا باستغلال المواطنين بكل الطرق وأبشع الصور. وغابَ عن السودان طوال السنوات الماضية السياسي الذي يقدّم مصالح الوطن والشعب. واختلطت حالة الانفصال النخبوي بأوهامِ العنصرية (التي تمارسها مختلف فئات الشعب تجاه كل من يظنون أنه أقل منهم). وامتد التهميش جنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً.

بدلاً من الاستفادة من الثروات الطبيعية والبشرية السودانية بشكل صحيح؛ عملت الحكومات المتعاقبة على جعل السودان طارداً لكل إنسان وطني غيور وعملت في استنزاف خيرات الوطن وبيعها لقوى أجنبية بأبخس الأسعار. وامتدت قائمة المنتجات المعروضة للبيع الرخيص لتشمل الأرض والإنسان والمستقبل والمصالح الوطنية. واصلت نفس النخبة السياسية المحدودة العبث بالوطن وتبادلوا الوطن ككرة يتلاعبون بها بينهم ووزعوا أدوارهم لاعبين وحكاماً واحتياطيين ومتفرجين وموالين ومعارضين.
بعد إزاحة المرحوم جعفر نميري - جرت انتخابات ديموقراطية حرة شاركت فيها نفس الوجوه المألوفة التي تنتمي إلى النخبة المتحكمة، ولم تحقق الجبهة الإسلامية النتائج التي كانت ترجوها فبيتت أمراً. وتم تكبيلُ السودانِ في عهد الديموقراطية الثالثة الأخيرة التي لم تجد الفرصة الكافية لتنفيذ أي شيء، واصل الوطن انهياره الشامل ووصلت الأحوال حدّاً لا يطاق؛ وساهم تجّار ينتمون إلى الاتجاه الإسلامي في تأزيم الأمور أكثر أمام المواطنين. مما شجع مجموعة من أبناء الجبهة الإسلامية القومية لأن يتقدموا لاستلام الحكم بانقلاب عسكري - مدني منسق مستغلين سخط المواطنين على الأوضاع السارية. وقدّموا مجموعة من الوعود ودغدغوا مطامع وعواطف فئات كثيرة من الشعب. بدأ العهد الجديد بمرحلة التخفي وإنكار التوجه الإسلامي؛ ثم واصل بمرحلة جديدة ابتدأت بتخريب العلاقات السودانية الدولية (الموقف في حرب الخليج واستضافة كل إرهابي فار من بلده) والإسفار عن وجه إسلامي متشدد جداً ورعاية المتشددين (مثل ما يسمى بالمؤتمر الشعبي العربي والإسلامي) والتمكين لأنصار الاتجاه الإسلامي والتضييق على من سواهم من السودانيين في الرزق وفي الحياة، كانت الحكومة وقتها شديدة جداً تجاه معارضيها وسَـخّرَتْ كل إمكانياتها لمحاولةِ إحباط أي معارضة أو بوادرَ تمرّد.

نتيجة لذلك؛ دغدغت الحكومة المشاعر الإسلامية لدى قطاع واسع من الشعب السوداني وأعلنت الجهاد في الجنوب ووجهت كل إمكانيات الدولة لتسليح الجيش والدفاع الشعبي ومحاولة القضاء على التمرد الجنوبي عسكرياً. في ظل تلك العسكرة التي انتظمت البلاد لم تنتبه الحكومة إلى أنّها تزرع بذور تمردات جديدة وتحشوا بنادق عديدة ببارود سيتوجّه نحوها هي. ولم تنتبه الحكومة إلى أن تنظيماتها (مثل الحركة الإسلامية) وواجهاتها (مثل المؤتمر الوطني) تضم داخلها مجموعة من المتناقضات التي لم يجمعها إلا ما هو أدقّ من شعرة معاوية، وأن التعاركات الداخلية التي تدور في فلك السفينة الحكومية الضخمة ستوقف إبحارها بل ستغرقها. تواصلت الصراعات العرقية والجهوية والمالية والاقتصادية والفكرية داخل الهيكل الحكومي المترهل ورغم ذلك تواصل استغلال الحكومة للشعب السوداني بصورة بشعة؛ واستمرت في نفس الوقت المعالجات الاقتصادية الخاطئة وسياسة تمكين الموالين وإبعاد الكفاءات السودانية في كل المجالات؛ فنخر السوس عظام الدولة وبقي هيكلها العضلي يعمل دون أن ينتبه لوهن العظم. حصل الانفصال بين مكونات المؤتمر الوطني فكونوا مؤتمراً شعبياً ووطنياً وانزوى البعض إلى رحاب الحركة الإسلامية وأنشأ آخرون حركات قالوا أنها مستقلة رغم أن البعض يشير إلى انتمائها إلى هذا الطرف أو ذاك، ثم بدأ بعد ذلك صراع في دارفور، ولم تتوقف الحروب في جبال النوبة والجنوب وعدة مناطق سودانية.

وجّهت الدولة قسماً كبيراً من إمكانياتها نحو مشروع استخراج البترول. وتَوَقَفَتْ – ظاهرياً - عن ممارسةِ كثير من سياساتها الخاطئة التي كانت تقودها تجاه العالم؛ لكن كان على الصعب من العالم الوثوق بحكومة يمحو نهارها كلام ليلها، وتتعدد مصادر اتخاذ القرار فيها؛ وتختلف أقطابها حول المواقف المعلنة والسرية، استغل العالم تخبط هذه الحكومة وأخذ منها كل ما يريد دون أن يعطيها شيئاً مما تريد. وابتلعت الحكومة الطعم بكل سهولة. وفي نفس الوقت؛ استمر سوس السمسرة في نخر عظام الاقتصاد السوداني وتوقف كل إنتاج حقيقي وتحول الاقتصاد السوداني الزراعي البسيط إلى اقتصاد استهلاكي يدمّر نفسه. وانفصل مواطن الخرطوم عن واقع السودان؛ وغاب عن نظره كل الفظائع التي يتعرض لها إخوته المواطنون في كل مكان من مجازر ومآسي وهوائل، وسقط الضحايا بأعداد لا يمكن حصرها في كل ركن من أركان الوطن. مع استمرار سياسة التمكين وتعيين الموالين؛ وصل إلى مناصب حساسة في كل الأجهزة المدنية والأمنية أشخاص غير أكفاء لا يعرفون أبحديات عملهم وليس لهم من مؤهلات التعيين إلا التزكية؛ وضاعت كفاءات سودانية عديدة، وقد أدى هذا الأمر مباشرة إلى الخراب الذي نشهده الآن في كل نقطة ومفصل وذراع في الوطن.

جاءت اتفاقية السلام؛ ووجدت الحكومة نفسها في شهر عسل بترولي ودفق ملأ الجيوب، وخزائن بنك السودان وكثير من الخزائن الخفيّة؛ وظن أهل (الإنقاذ) أنهّم ودعوا الفقر بغير رجعة؛ فدخلوا في أدوار تفوق حجمهم وأنفقوا إنفاق من لا يخشى الفاقة؛ صدّقوا أوهامهم بأن الجنوب سيختار الوحدة، وحدثهم بعض من يثقون فيهم بأنّ الجنوب – حتى وإن انفصل – لن يستطيع التخلي عنهم وسيبقى معتمداً على أنابيبهم وموانئهم وبضائعهم وأن شهر العسل البترولي سيدوم إلى الأبد.
في ظل تلك الحسابات الخاطئة فقدت البلاد كل مورد وكل كفاءة؛ وفجأة استيقظوا – بعد فوات الأوان – ولم يجدوا بديلاً من طريقين: أن يتركوا الأمر كله وذلك يعني فقدانهم لكل حصانة تمتعوا بها أو أن يستمروا في المكابرة وهو تماماً ما فعلوه ونعاني منه الآن. واستمرار فترة الجلوس على الكراسي جعل البعض يظنون أنهم السودان وأن السودان هم. وانفصل آخرون عن الواقع حتى ظنّوا أن المهم في هذه الدنيا هو أنفسهم فقط. وفيما تغرق سفينة الوطن يستمر أهلها في صراع بينهم ، لن ينتهي إلا بعد أن يستقر الجميع في القاع.



هاني عربي غير متصل   رد مع اقتباس